الأربعاء، 27 فبراير 2008

مستقبل اللغة العربية بين اللغات الأجنبية واللهجات المحلية

بدأت في الآونة الأخيرة تثار علامات استفهام كثيرة حول مستقبل اللغة العربية، وبدأ النقاش عبر وسائل الإعلام المكتوب والمقروء والمسموع، وعبر المواقع والمدونات والمنتديات يكبر حول هذا الموضوع بشكل يوحي بأن وضعية اللغة العربية قد أصبحت حرجة ومقلقة، وأن مكانتها الطبيعية التي حازتها في قلوب العرب ووجدانهم من المحيط إلى الخليج عبر عشرات القرون قد بدأت في الاهتزاز والتراجع التدريجي لصالح اللهجات المحلية أو بعض اللغات الأجنبية المفضلة عند بعض النخب التي احتكرت قرار التدبير والتسيير لكثير من عجلات التنمية العربية المعطوبة، بعيدا عن اختيارات ومطامح الشعوب العربية التي تبقى دائما في الدرك الأسفل من حيث الأولوية أو حتى الحد الأدنى من الاهتمام. وقد سبق لنا أن عالجنا بعض جوانب هذا الموضوع في فئة المقالات التي خصصناها لقضايا اللغة العربية.

وقد آثرنا في هذا الإدراج أن نقدم فقط بعض المؤشرات الأولية حول خطورة وحساسية هذا الموضوع:

- إن الإقرار بفشل المنظومة التعليمية في تحقيق التنمية المنتظرة منذ زمان للارتقاء ببلادنا، كما كشف عن ذلك التقرير الدولي الأخير قد يعتبر بوجه من الوجوه إقرارا بفشل الاختيارات اللغوية التي صيغت بها تلك المنظومة برمتها والتي ظلت تتأرجح منذ فجر استقلال المغرب بين الفرنسية والعربية، دون أن تحسم أي وزارة من الوزارات المتتالية منذ ذلك التاريخ البعيد وحتى اليوم في قرار تعميم التعريب الموقوف التنفيذ بمختلف مراحل التعليم بدل التوقف عند منتصف الطريق، كما جاء في قصة حمار الشيخ الذي توقف عند العقبة.

وقد نتج عن ذلك أن بدا نظامنا التعليمي كالمخلوق المهجن الذي يفتقر إلى الخصائص الوراثية الأصيلة الذاتية. فهو أبعد ما يكون عن حقيقة كيان المغاربة الأصيل كجغرافيا وكتاريخ وكحضارة ذات مكانة محفوظة بالحرف العربي الفصيح وبالبناء الأصيل المتجذر في التراب والمتلون بلونه.

والتداعيات السلبية للتعليم المزدوج كخطة ومنهج كثيرة ولا يخفى أمرها على أحد من المواطنين المغاربة, وخاصة المكتوون منهم صباح مساء بهم التفكير في مستقبل فلاذ أكبادهم، ولعل أكثرها شأنا ودلالة هذا السؤال الذي يؤرق كل أب وأم عندما يصل أحد أبنائهما أو بناتهما إلى مرحلة التعليم الثانوي: وماذا بعد الباكالوريا؟، وخاصة إذا كان المتعلم ينتمي إلى التخصصات العلمية.

- إن القطيعة التامة بين التعليم العالي العلمي المفرنس وبين التعليم الإعدادي والثانوي شبه المعرب توحي للمتعلم بأفضلية اللغة الأجنبية مما يجعله ينفر من العربية، ويعتبرها كالزائدة الدودية، فهو يريد التخلص منها بسرعة ليستريح من هم حضور بعض حصص العربية والدراسات الإسلامية المقررة في جدول الحصص.

- ومن أغرب الأمور التي تبعث على الاستغراب أن يثار السؤال حول مستقبل اللغة العربية في نشرات الأخبار في القناة الثانية، وهي من أكثر النماذج الإعلامية ببلادنا العالقة في فخ الفرنكفونية قلبا وقالبا حتى النخاع؛ إذ لم تكلف هذه القناة نفسها حتى الآن وبعد مرور عقدين من الزمن عبء التفكير في إحداث قسم خاص بالدبلجة، أسوة بكثير من القنوات العربية الفضائية التي تحترم شعور مواطنيها اللغوي. فما أشبه العقلية التي تدار بها هذه القناة بالعقلية التي يدار بها الشأن العام في وزارة التعليم والتربية وفي كثير من الوزارات الأخرى المتبقية ببلادنا.!!

- وليت مشكل اللغة العربية بقي مقتصرا على صراعها مع اللغات الأجنبية في هذا الوطن العربي أو ذاك، حسب قدر الهمة العربية المتوفرة عند كل وزارة من الوزارات القائمة على شأن التربية والتعليم في وطننا العربي الكبير؛

وإذا ألقينا نظرة سريعة على كثير من الفضائيات العربية الخاصة بالإذاعة أو التلفزيون فإننا نجد لديها ميلا متصاعدا نحو تعميم اللهجات المحلية على العربية، بحيث لا يكاد يستثنى منها إلا بعض القنوات الإخبارية المتخصصة كالجزيرة أوالعربية.

ومن أغرب الأشياء التي سمعتها عبر بعض الفضائيات العربية المصرية الحديثة (Otv) مما له صلة بمستقبل اللغة العربية سؤال بعضهم عن أي اللهجات العربية المحلية أكثر انتشارا وتأثيرا بعد العربية الفصحى؟.

وشيئ طبيعي جدا أن تكون لهجة إخواننا المصريين في صدارة اللهجات العربية، كما ورد على لسان بعض المستجوبين في الشارع المصري. والسبب في ذلك يرجع إلى الغزو الكاسح الذي تم منذ وقت مبكر للمشاهد العربي عبر المسلسلات والأفلام المصرية المصدرة إلى كافة البلدان العربية بالجملة والتقسيط.

أما اليوم وبعد انتشار البث الفضائي فقد التحقت بعض اللهجات المنافسة التي دخلت معها على الخط الأول أو فاتتها كاللهجة الشامية والخليجية بسبب حمى السباق الذي يعرفه مضمار الدراما التلفزيونية والسينمائية. أما لهجة المغاربة من حدود ليبيا شرقا إلى حدود المغرب غربا فإنها تأتي في الهامش والذيل، بل إنها تعتبر في نظر المشارقة من قبيل رطانة الإسكيمو أو سكان جزر الواق واق. ولا بد لها إذن، من وضع ترجمة أسفل الشاشة.

والأغرب من هذا كله أن أحد المستجوبين في الشارع المصري المتحمسين للمشروع اللهجوي الجديد الذي تبشر به كثير من القنوات الفضائية لم يجد أي حرج في الإعلان عن الحقيقة التالية التي نترجمها من اللهجة المصرية إلى العربية الفصحى كالآتي: (إذا التقي شخصان أحدهما سعودي والآخر مغربي فإنهما لا يمكن أن يتفاهما إلا من خلال اللهجة المصرية ). فأين أثر اللغة العربية من كل هذا، وهل أصبح لها مكان ما لتوحيد وجدان العرب الشتت بالتقسيم والتخلف والتبعية وبعدما صار كل واحد منا يغني على هواه اللهجوي، ويتغزل في لكنة دربه أو حيه أو قبيلته أو عشيرته أو طائفته التي تؤويه…!!

الأحد، 24 فبراير 2008

ملاحظات على منام الوهراني

- نجد في منام الوهراني أربع إشارات مهمة متعلقة ببعض تفاصيل سيرته؛ في الأولى إقرار صريح بمغربيته، وفي الثانية إفادة بأنه رجل فقيه ومن حفظة القرآن، وفي الثالثة إشارة تاريخية بأن الوهراني كان بدمشق أو نواحيها في حدود سنة 553 هجرية. أما الإشارة الرابعة فتصنفه ضمن كتاب المقامات الساخرة.

- من القضايا التي عالجها الوهراني في هذا الفصل: انتقاده لمذهب النحويين في تفسير بعض القضايا النحوية كترخيم النداء، واعتراضه بطريقته الساخرة على أسلوب الكتاب في عصره الذين جنح أكثرهم إلى التنميق والتزويق الفارغ من المحتوى الممتع أو المفيد.

- وفي مواقف الوهراني الساخرة، سواء في منامه هذا أو في مقاماته ورسائله، قدر كبير من الجرأة والسخرية "الكاريكاتورية"؛ ومع أن أحداث المنام تجري يوم الحشر، وهو موقف مهيب ومحفوف بالقداسة غير أن ذلك لم يمنعه من زج بعض الشخصيات المشهورة والمغمورة التي شهدها أو التقى بها في عصره أو التي عرفها من خلال التاريخ في مواقف ومشاهد تعج بكثير من السخف والمجون، بل حتى شخصيات الملائكة والخزنة التي صورها في منامه لم تسلم من تطاوله وسلاطة لسانه. ولكن كل ذلك يعرضه الوهراني من وراء المنام كقناع أوذريعة في وجه النقد ومقص الرقابة؛ فمن يقدر أن يحاكمه على ما يقوله من كلام على لسان شخوصه، أو من خلال ما يفتعله من مواقف ومشاهد في المنام. ثم أو ليس المنام مجرد تهيؤات وخيالات، رغم ما قد يصاحبها من لغو وهرطقة وهذيان. ثم أليس النوم نفسه وما يجري فيه درجة من درجات الموت.؟! فمن يقدر أن يحاسبه على موته الذي قد ينتعش بالمنام، كما ينتعش الأحياء الأموات في الواقع المتردي والحال المائل بالتمني والترجي، كما تسند الحيطان والسقوف المتداعية في الأحياء الفقيرة الهشة بألواح الخشب.

لقد حول الوهراني بخياله الجامع هذا المنام إلى يوم قيامة مصغر، على مقاسه ومقاس كثير من الشخصيات والأسماء المعروفة بالملامح والصفات وبالأقوال والأفعال. وقد أعمل الحيلة الفنية لاستدراجها واستدعائها بالتدريج حسب ما يتطلبه منطق الحكي والسرد إلى منامه بأسلوب ساخر فني متميز. وهذا الأسلوب الذي قل سالكوه في تراثنا العربي القديم والحديث أيضا كان ينظر إليه في تراثنا الأدبي على أنه فاكهة الأدباء ونتاج قريحة الظرفاء المبدعين الذين يشكلون القلة القليلة التي كثيرا ما ينظر إليها باحتقار وازدراء. لأنها قد تصيب بسهامها الحادة كبد الحقيقة المضمرة بالتدليس والتمويه، وتعري وتفضح كثيرا من الناس الذي يدعون الطهر والفضيلة ظاهرا، وهم في الحقيقة والباطن من أشر وأوسخ خلق الله.

وإذافرضنا أن المنام مجرد خيالات وأوهام فإنه مع ذلك يرشح بحديث النفس وفيضها. إن لم يكن عبارة عن صورة متشظية لواقع مر عاشه الوهراني الذي لم تنصفه الحياة فعاش على الهامش .

فوراء قناع المنام إذن، تكمن مواقف الوهراني الجريئة في كشف حقائق الأمور حول كثير من القضايا السياسية والاجتماعية والأدبية والفكرية في عصره وفي التاريخ عن طريق اختيار المشاهد والمواقف الدالة برمزيتها الشفافة أحيانا وبوقاحتها التي تخدش حياء القارئ وتستفزه تارة أخرى.

وفي هذا الفصل كما في الفصول اللاحقة مزج غريب بين المقدس والمدنس، وبين المكشوف والمستور في سلوك الفرد والجماعة، في اللحظة ذاتها وفي التاريخ.

لقد نجح الوهراني في توظيف المنام توظيفا فنيا بارعا ليصبح عنده أشبه ما يكون بشاشة افتراضية عملاقة تنعكس عليها مفارقات الواقع الشخصي والحياتي من حوله عبر الحوار المركب وحول طريقة بناء المشاهد والخلفيات، وعبر حركة الشخوص في تدافعهم وإقبالهم وإدبارهم واختفائهم من الشاشة، تماما كما يحدث في أي شريط سنمائي عجائبي أو رواية "فانتازمية".
يمكن قراءة متن منام الوهراني كاملا في مدونتنا المتخصصة بنقر الرابط التالي:
منام الوهراني: (النص الكامل)

الجمعة، 22 فبراير 2008

منام الوهراني نموذج المسرح العربي التراثي الساخر

قراءة تمهيدية:

عطفا على الإدراج السابق الذي وعدنا فيه بعرض وتقديم بعض النصوص والمتون التراثية التي تنتمي إلى ما أطلقنا عليه: أدب الظل أو “الأدب المستريح”، يسرنا أن نقدم لزوار ومتتبعي هذه المدونة الكرام متن (المنام الكبير) الذي أبدعه منذ حوالي تسعة قرون الكاتب المغمور ركن الدين الوهراني المتوفى سنة 575 هجرية.

وقد سبق لنا في هذه المدونة أن عرفنا بركن الدين الوهراني هذا في ديباجة إدراج عرضنا فيه رسالة واحدة من رسائله الهزلية. وكنا قبل ذلك قد استوحينا إدراجا آخر من الروح الساخرة الفذة التي تميز بها هذا الكاتب، كما قدمنا دراسة مفصلة مطولة قارنا فيها بين عمل المعري في رسالة الغفران وعمل الوهراني في المنام، لأنهما معا استلهما فكرة العالم الآخر ليس كقضية دينية أو ميتافيزقية، وإنما كعمل أدبي فني خالص.

وقد وردت علي منذ ذلك الوقت رسائل عديدة يستفسر أصحابها عن مزيد من المعلومات عن عن متن (المنام الكبير) للوهراني؛ أين يوجد وما السبيل إلى الاهتداء إليه؟؟.
وهو استفسار معقول ومقبول من لدن القراء العاديين الذين تصفحوا هذه المدونة، وحتى من لدن كثير من الباحثين والدارسين المتخصصين المتعطشين إلى كل ما هو غريب وجديد، ولكنهم قد يجدون صعوبة كبيرة في التعرف على مناطق الظل في تراثنا العربي حيث تقبع وتستريح كثير من المتون الأدبية المغتربة أو المُغربة التي لم ينفض عنها الغبار حتى يومنا هذا…

وقد كان حظ المنام رغم طرافته وخصوصياته الفنية الكثيرة كحظ صاحبه من حيث سوء البخت وانعدام الاهتمام في حياته وبعد مماته للعوامل التي ذكرناها في الإدراج السابق لخلل في نوع العلاقة التي تنظم المهمشين في عالمنا العربي بالمتنفذين وبعلية القوم..

ومنذ أن قام الباحثان إبراهيم شعلان ومحمد نغش بتحرير أعمال الوهراني الأدبية في الكتاب الذي يحمل اسم (منامات الوهراني ومقاماته ورسائله) والذي طبع في 308 صفحة، سنة 1968 تحت عناية وزارة الثقافة في الزمن القصير للجمهورية العربية المتحدة، عن دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، لم يتجدد طبع متن الوهراني الأدبي مع الأسف، فانقطعت صلته بالناس باستثناء قلة قليلة من المهتمين بفن هذا الرجل.

ونحن هنا ننوه بالمجهود الذي بذله المحققان في إخراج نصوص الوهراني الأولى من حيزها المخطوط إلى حيزها المطبوع، وتصحيحها وضبطها انطلاقا مما توفر لهما في ذلك الوقت من مصادر مخطوطة رغم العلات التي شابت عملهما هذا .

وحتى يأخذ منام الوهراني حظه الوافي من الوضوح والاهتمام لدى قراء هذه المدونة أيضا فقد عمدنا إلى عزله من مجموع أعمال وكتاباته الأخرى التي تضم مقامات ورسائل منوعة في مضامينها وأشكالها، وتكون تارة طويلة جدا وتارة قصيرة جدا. وبذلك يأخذ المنام طابع الاستقلال والتميز والخصوصية بتركيز الأضواء عليه وحده دون سواه.

وبما أن نـَفس الوهراني قريب من الكتابة المسرحية الحديثة من حيث توظيف الرمز والسخرية، ومن حيث البساطة والارتجال، ومن حيث الجرأة والصراحة، ومن حيث اعتماد أسلوب الحوار وتعدد المشاهد واللوحات والخلفيات فقد قدمنا هذا النص بطريقة تختلف تماما عن طريقة المحققين المذكورين. فقدعرضا متن المنام ككتلة كلامية واحدة دون أن ينتبها لخصائص الكتابة الحوارية.

وعلى العموم، فقد نهج الوهراني في منامه أسلوبا جديدا في المعالجة الأدبية والسرد. ولو كان يعيش بين ظهرانينا اليوم لأدرج ضمن أعظم الكتاب المسرحيين.

وإن غياب مفهوم كلمة “المسرح” في تراثنا العربي النقدي من الناحية النظرية لا ينفي حضور هذا المسرح كتصور بكر وخصب مجسد من خلال كثير من المتون والنصوص من الناحية العملية الآبداعية، ولو اعتبر ذلك الحضور كحد أدنى من المسرح، كمسرح بالمفهوم المعاصر، أو حتى كمجرد إرهاصات أو محاولات تجريبية أولية في حقل الإبداع الفني المتميز.

ومن عيوب النقد العربي القديم أنه لا يتسع للمتن الأدبي المستريح الهامشي، بل إنه يكاد لا يتسع إلا للمتن الأدبي الذي يسير في ركاب السلطة ويمسك بتلابيبها، كما أوضحنا في الإدراج السابق. ومن هنا كانت الضربة القاضية لكل الأنواع الأدبية العربية والمتون التي أنتجها أصحابها على هامش الحياة الدنيا التي لا تروق لذوي الفضل والتميز، أو لأنها ابتعدت كثيرا عن مألوفهم وعن قواعدهم وضوابطهم المعيارية التي لا يزيغ عنها إلا مغامر أو مهمش أو هالك.

وبما أن متن مسرحية المنام، إذا جاز لنا أن ننسبه إلى جنس المسرح، متن طويل أيضا فقد آثرنا تقديمه في مجموعة فصول سنعمل على إدراجها تباعا. كما قسمنا كل فصل إلى مجموعة مشاهد منسجمة مع طبيعة الشخصيات التي تكون فيه، كما سنعمل على تذييل كل فصل من فصول المنام بلائحة من الهوامش المرقمة بغية الشرح والتوجيه.

يعمد الوهراني إلى إعمال الحيلة لاستدراج المخاطب القريب الحاضر الذي هو صديقه (العليمي) والمخاطب الغائب الذي هو القارئ المفترض إلى عالم المنام بأهواله وأحداثه عن طريق افتعال النوم أو التناوم. ثم يرخي العنان بعد ذلك لسرده العجيب الذي تجري وقائعه في العالم الآخر، وفي لحظة حاسمة عند الحشر والنفخ في الصور حيث إرادة الله تحكم وتتحكم، وحيث الملائكة والخزنة، وحيث الميزان العظيم الذي توزن فيه أعمال البشر ليفوز من يفوز بعبور الصراط إلى الحوض والنعيم والرحمة، وليخيب من يخيب ليقع ويتردى في مهاوي جهنم وفي العذاب والشقاء.

ويستدعي الوهراني إلى منامه هذا مجموعة من الشخصيات يقحمها في سياقات ومواقف تفيض بالنقد اللاذع والسخرية التي تصل إلى حد التطاول والوقوع في المحظور الشرعي أحيانا، كما قد يستنتج من القراءة السطحية الأولى.
ويجمع المنام إلى جانب شخصيات عصره الحقيقية المعروفة المثبتة في كتب التراجم والأعلام والوفيات شخصيات مغمورة لا نقف لها على أي أثر في الكتب، وربما يكون الوهراني قد التقاها في حياته التي بدأها في المغرب وأنهاها في المشرق.

ومن هذا المزج الغريب في الشخصيات بين المُعرف والنكرة، وبين تداعيات التاريخ والأحداث التي عاصرها والتجارب الشخصية التي عاناها، وبين الواقع والخيال والممكن والمستحيل والأنا والآخر والشعر والنثر والموت والحياة والبعث والنشور تنبع كل تناقضات البوح والحكي في كشكول سرد الوهراني.

- من القضايا التي عالجها الوهراني في منامه: فساد القضاء، القيم، المحسوبية والفوارق الطبقية، الأمراض الاجتماعية والأخلاقية كالزنا واللواط، وأدب خطاب السادة والأعيان على سبيل الاستهزاء وغير ذلك من القضايا التي يمكن أن يستنتجها كل قارئ لبيب، كما عرض الوهراني موقفه من بعض القضايا الخلافية والسياسية، كموقفه صراع الأمويين والشيعة، والصوفية، والفاطميين والأيوبيين وغير ذلك.

- لقد عملنا على حذف الديباجة التي وضعها الوهراني لمنامه التي لا تختلف كثيرا عن أسلوب الرسائل السلطانية أو الإخوانية المعروفة بمبالغتها في التودد والإطراء ومن التكلف والرياء. وكأن منام الوهراني الذي جاء بعدها مباشرة هو المعادل الموضوعي لتلك الكتابات والمراسلات التي يقوم جزء كبير منها على النفاق الأخلاقي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وكأن الوهراني نفسه المهمش في الظل هو المعادل الموضوعي لكل الكتاب البلاطيين المنعمين الذين سلطت عليهم كل أضواء العناية والشهرة، وعلى رأسهم القاضي الفاضل والعماد الأصفهاني في عصره.

ويمكن قراءة متن المنام كاملا في مدونتنا المتخصصة على الرابط التالي:
منام الوهراني: (النص الكامل)

الثلاثاء، 19 فبراير 2008

أدب الظل أو الأدب المستريح

بعيدا عن أدب الطاعة والولاء الذي قيل في حضرة السادة المبجلين من الخلفاء والملوك والوزراء والأعيان، نجد نوعا آخر يسير معه بالتوازي لكن كالظل الشاحب. ويمكن أن نطلق عليه أدب العتمة أو الأدب المستريح.

وكلمة المستريح التي وصفنا بها هذا النوع من الأدب نعني بها قدرة الكاتب أو الشاعر على التخفف من كافة الارتباطات والتوجيهات الخارجية بحيث يكون في وضعية درجة الصفر لا له ولا عليه، وبحيث يمكنه في أي وقت وحين أن يطلق العنان لجميع زفراته الحارة والباردة، كما هي في الواقع والحقيقة، لا كما يراد لها قسرا أن تكون.

وهذا النوع من الأدب المستريح لم يجد له في بيئة النقد العربي القديم، مع الأسف، من الاهتمام ما ينفض عنه غبار الإهمال والنسيان؛ لأن اهتمام معظم النقاد العرب القدامى الذين يتهمهم بعض المستشرقين بأنهم من طينة (البلاطيين)، شأنهم كشأن الشعراء والكتاب المأجورين، كان منصبا من حيث المنطلق والأساس على النصوص والمتون الأدبية التي أنتجها أصحابها المحظوظون في حضرة السلاطين أو باسمهم أو تحت وصايتهم وعهدتهم، فسلطوا عليها لأجل ذلك الأضواء وحازت لوحدها بكل ما يمكن أن يكون في الأدب من فضيلة أومزية.

فقد حدثتنا بعض كتب التراجم أن خلقا من الشعراء كانوا كالملوك يأكلون بملاعق الذهب ويملكون القصور والضيعات والحشم والخدم، ويركبون البرذون(1) الفاره الذي يمكن أن نشبهه في عصرنا الحالي بسيارة( الليموزوين) الطويلة العريضة التي لا تركبها إلا طبقة معينة من الناس اختصت بالمال والوجاهة والوسامة والجمال، ولا ترى إلا من بعيد أو عبر شاشات التلفزيون.

ومما لاشك فيه أن القدرة على الهجاء لدى الشاعر المحنك كالقدرة على المدح، فهما عنده سيان، غير أن بريق المال كالحب الشديد يصم ويُعمي ويذهل صاحبه عن نفسه وعن الحقيقة المرة من حوله وعن الوجود.

والطمع قد غير كثيرا من طباع شعراء العربية، وحولها عن سجيتها الأولى الحقيقية إلى الثانية المزيفة أو المزورة. قال أحد الشعراء مهددا أحد الممدوحين بهذه الحقيقة التي يقتنع بها الممدوحون في قرارة أنفسهم، ومعبرا في نفس الوقت عن التركيبة المزدوجة التي تجعل كثيرا من الشعراء يداهنون ويظهرون غير ما يضمرون:

لا تأمنن النفثة من شاعر ما دام حيا سالما ناطقــــا

فإن من يمدحكم كاذبـــــا يحسن أن يهجوكم صادقا

إن لعبة الأدب أو الإبداع المأجور لعبة مفضوحة مكشوفة رغم انشغال محللي الخطاب الأدبي في القديم والحديث بتحليلها وتعليلها وتجميلها عبر كثير من الكتب والمؤلفات التي قد تدرج ضمن كتب النقد والبلاغة والأساليب الرفيعة.

وقد بذل الحكام وسعهم لدرء الهجاء بالعطاء الجزيل طوال التاريخ العربي القديم المحسوب أيضا على كثير من المؤرخين البلاطيين، حتى إذا فاض الكيل بابن الرومي نطق بهذه الحقيقة في وجه الحكام وفي وجه النقاد المزيفين المجملين:

لا لأجل المديح بل خيفة الـــــهجو أخذنا جوائز الخلفاء

وبما أنه لم يكن بوسع جميع شعراء وكتاب العربية أن يلتحقوا بالكوكبة البلاطية لأسباب مختلفة؛ فمنهم من تمنعه همته، ومنهم من تمنعه عاهته، ومنهم من تمنعه قلة حيلته، أو حظه العاثر في الدنيا أوسوء طالعه، أو حتى جنوحه الفطري للسلامة والراحة فقد بقي هامش كبير من التراث الأدبي العربي في الظل ولم يجد له بعد إبداعه وحتى هذه اللحظة من يمهد له الطريق اللاحب الواضح الخالي من المسامير والشوك ليعرفه على أصله وحقيقته عامة الناس قبل خاصتهم.

وإنها لنفس التركيبة الازدواجية التي يعيشها الإبداع العربي في وقتنا المعاصر، بحيث لا سبيل إلى الشهرة إلا بالارتسام ضمن دائرة معينة من دوائر الولاء المتعددة في عصرنا. تلك الدوائر الحلزونية التي تتعدد بتعدد الأنظمة والأحزاب والطوائف والجمعيات والمدارس والمناهج والتجمعات والتكتلات والشعارات…

ويهمنا كثيرا أن نسلط مزيدا من الأضواء على هذا الأدب المستريح في الظل كالغيلم (وهو ذكر السلحفاة) عندما يدخل في مرحلة السبات الموسمي عند حلول فصل الشتاء. وهذا ما سنسعى إلى كشف غطائه بالتدريج في الأوراق الموالية.
——–
هامش: البرذون نوع من الأحمرة التي كان يركبها علية القوم

الأحد، 17 فبراير 2008

القراءة الورقية والقراءة الافتراضية

القراءة في مفهومها التقليدي تعني تلك العملية الذهنية البصرية التي نقوم بها لاسترجاع معلومات مخزنة سابقا في أرشيف المخطوطات أوالمطبوعات.

وتتطلب أية قراءة بصرية عادية التوفر على جملة مبادئ ومعارف أولية لفك شفرة أبجدية لغة واحدة أو أكثر من بين عدد هائل من اللغات العالمية، قبل أي عملية فهم أو دراسة أو تحليل أو مقارنة لمحتوياتها ومضامينها الغزيرة.

وهذا المفهوم البسيط للقراءة العادية ينسحب أيضا على القراءة الافتراضية التي تقوم أيضا باسترجاع المعلومات المخزنة، لكن ليس في الكتب والدفاتر والمطويات وإنما في الأقراص والرقائق الإلكترونية ذات القدرة الهائلة وغير المحدودة على الحفظ والاستيعاب أو على الشبكة المعلوماتية، مع فارق نوعي في طريقة الاسترجاع.

فالاسترجاع الافتراضي لا يتم عبر التصفح اليدوي للورق وإنما باستخدام مجموعة مترابطة من أجهزة وبرامج التخزين والعرض والأرشفة الرقمية الآلية الدقيقة المنظمة التي تتطلب خبرة معينة بلغة البرمجة وعلوم الحاسبات الآلية.

غير أن خيارات القارئ الورقي المتاحة أمامه للمناورة تكاد تكون منعدمة تجاه الكتب والمطبوعات الورقية، وخاصة عندما يكون في وضعية الإذعان والاستسلام الكامل لما يقرأه.

وبما أن ما طـُبع على الورق قد طـُبع على وجه الثبوت وبقرار نهائي لا رجعة فيه كالميسم على ظهر البعير، فلا مجال البتة إلى زحزحة ولو حرف واحد من مكانه، إلا ما يمكن أن يضيفه بعض القراء بعد ذلك بخطوط أيديهم في حواشي الصفحات من تعليقات أو توجيهات أو تصويبات أو استدراكات.

وقد احتفظت لنا المخطوطات العربية القديمة بحواشي كثيرة تراكمت على نصوصها ومتونها مع مرور الزمن حتى أصبحت في حجم الكتاب الأصلي أو أكثر في بعض الأحيان، وقد جُمعت تلك الحواشي لاحقا في كتب قائمة بذاتها، وصار كثير منها معروفا لدى أصحابها المتخصصين مثل حواشي ألفية ابن مالك المشهورة عند النحاة على سبيل المثال.

وحتى الكاتب الأصلي نفسه لا يملك تجاه ما أصدره من كتب أو مطبوعات أدنى رد أو مراجعة إلا عبر طبعة أخرى منقحة، أو بقرار السحب والمصادرة. أما أنا فقد راجعت هذا الإدراج بعد إرساله على الشبكة عدة مرات بالتشذيب والتنقيح حتى استوى على صورته النهائية التي يحسن بها ظني ويطمئن إليها قلبي. ولو اقتضى الأمر أحيانا إضافة علامة واحدة من علامات الترقيم، أو شطب كلمة مكررة، أو الفصل بين كلمتين التصقتا أو تباعدتا سهوا عند النقر على أزرار لوحة المفاتيح.

وتلك عادتي في الكتابة الافتراضية؛ لأني أرى فيها مشروعا مفتوحا على الدوام بين الكاتب والقارئ للبحث والتنقيح والتجديد، فكثيرا ما نبهتني تعليقات الزوار الكرام إلى أخطائي، وساعدتني في إعادة التوجيه والتصويب، بل كثيرا ما فتحت لي بعض التعليقات الجادة التي أطالعها على مدونتي ومدونة غيرى نوافذ جديدة للبحث والتأمل الذي قد يتولد عنه موضوع جديد لم يكن ليخطر لي على البال.

وعندما أستخرجُ من مكتبة الكلية بعض الكتب المُعارة إلى طلبة فصول الإجازة فإن أول ما يثير انتباهي تعليقاتهم وانطباعاتهم الشخصية العفوية التي يثبتونها في حواشي الكتب أو بين سطورها بالحبر الجاف أو بقلم الرصاص، وقد يكتفي بعضهم بتسطير بعض الجمل والفقرات ذات صلة بما ينجزونه من فروض وعروض وأبحاث، ومنهم من يكتفي بثني جانب من الصفحة أو دس خيط أو قطعة ورق صغيرة في ثنايا الكتب كعلامة بسيطة على تميز مضمون صفحة معينة من كتاب ما قد يُرجع إليه لاحقا عند الحاجة.

وعموما فإن الآثار التي يتركها المراجعون للكتب من الطلبة وعموم القراء على الكتب المودعة في مكتبات الكليات وفي المكتبات العمومية، أو حتى تلك التي باعها أصحابها في أسواق الكتب العتيقة لا تقدم إلا مؤشرات ضئيلة لقياس درجة وطبيعة التلقي عند فئة معينة محدودة من القراء الورقيين، رغم طرافتها وغرابتها وأهميتها في بعض الأحيان.

وبما أن الكتابة الافتراضية التي تكون في مدونة أو في موقع تتيح لصاحبهما الذي يمتلك سر الولوج إليهما إمكانيات هائلة للتطوير والمراجعة الذاتية لكل ما يكتبه أو يعرضه في كل وقت وحين، كما أوضحنا ذلك في بعض المقالات السابقة، فإن القراءة الافتراضية تأخذ من الكتابة الافتراضية نفسها كثيرا من خصائصها وملامحها المميزة أيضا؛ ذلك أن أثر الكتابة الافتراضية يظهر بشكل سريع من خلال الردود والتعليقات للقراء الافتراضيين التي تكاد تكون آنية؛ بحيث لا يفرقها عن تاريخ إرسال الإدراجات غير دقائق معدودة. وكأن عيون القراء الافتراضيين لا تنام، فهي على الدوام متتطلعة ومتشوفة إلى ما يجد منها على مدار الوقت.

وعلى هذا فإن طراوة التعليقات الافتراضية من طراوة الإدراجات والموضوعات الافتراضية أيضا، وكلما تطاول العهد بالإدراجات إلا وقلت التعليقات حتى تتوارى بعيدا في حيزها الافتراضي لتصبح نسيا منسيا إلى أن ترشد إليها محركات البحث عبر الكلمات المفتاحية فتنعشها وتنفخ فيها روح الحياة من جديد. وهذا بخلاف واقع القراءة الورقية التي يظل وضعها متراخيا في الزمن.

والذي يميز الكتابة والقراءة الافتراضيتين تلازمهما الشديد هذا، وكأن أحدهما يطلب الآخر ويستحضره؛ فلا معنى للكتابة الافتراضية دون وجود قراء افتراضيين عند طرف واحد أو أكثر من أطراف الشبكة العنكوتية التي يكون عددها بعدد الحواسيب المتصلة.

ومن هنا يتولد الشغف الكبير لدى الكتاب الافتراضيين بالعداد الافتراضي، وحرصهم الشديد على تتبع حركة الزوار ومناوراتهم المختلفة.

وتقدم أجهزة الاستشعار عبر برمجيات إلكترونية خاصة معلومات دقيقة للكاتب الافتراضي عن قرائه، من حيث العدد نزولا أو هبوطا أو استقرارا، ومن حيث البلد أوالقارة انتماء ومستقرا، ومن حيث طبيعة برامج التصفح لديهم، ومن حيث نوع الصفحات والعناوين والموضوعات والتصنيفات المطلوبة للزيارة، ومن حيث الوقت الذي استغرقته كل زيارة وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة المرتبطة بحيثيات وخصوصيات القراءة الافتراضية التي لا نجد لها نظيرا في القراءة الورقية.

ولهذا لم يعد مستغربا في واقع القراءة الافتراضية اليوم، أن يستدعي إدراج طريف على موقع أو مدونة من القراء الافتراضيين ومن التعاليق في مسافة زمنية قصيرة ليوم واحد ما لا يستدعيه كتاب مطبوع في مسافة زمنية طويلة لعام كامل.

السبت، 16 فبراير 2008

من وحي (القشابة) والجلباب.

كتب في فبراير 13, 2008

الأصل في الجلباب المغربي المشهور والمعروف أن يكون قطعة ملتحمة نسجت من صوف، قبل أن يفصلها الخياط إلى أجزاء تابعة لتضاريس جسم صاحبها حسب خطوط طوله وعرضه ثم ليعود فيضمها إلى بعضها البعض بالرتق والخياطة عن طريق (البرشمان).

ويعد (البرشمان) من أقدم التقنيات التي اكتشفها المغاربة الأولون لخياطة الجلابيب. وفيها قدر كبير من الخبرة بعلم الحساب وفك شفرة تداخل الخيوط والمزاوجة بينها حسب نمط التنسيق والتزويق الذي يعرضه الخياط التقليدي أو الذي يقترحه الزبون صاحب الخرقة الصوفية التي استبدلت فيما بعد بالقماش العادي المعروف عند العوام في بلادنا ب(التركال) الخفيف أو الثقيل.

وحكاية الجلباب أو (الجلابة) حكاية طويلة كحكاية الخبز اليومي لأنهما معا ثمرة مجهود مشترك بين عطاء الطبيعة ومجهود النساء والرجال وحتى الأطفال الذين كانت توكل إليهم مهمة حمل (وصلة) أو (صينية) الخبز على رؤوسهم الصغيرة إلى فران الدرب أو الحومة.

ومن منا لم يحمل في صغره وصلة خبز البيت أو حتى الجيران إلى أقرب أو أبعد فران.. !!

هناك أطفال صغار على عهدنا - نحن جيل المخضرمين - ربما أصيبوا بالصلع المبكر من كثرة حمل الوصلات الخشبية الثقيلة على رؤوسهم ، وخاصة إذا كان عدد أفراد العائلة كبيرا يضم إلى جانب الآباء والأجداد الأبناء الأحفاد وحتى الأصهار والأعمام والأخوال.

وخلال رحلة الذهاب والإياب المحصورة بين البيت والفران كان الأطفال الصغار يتعلمون كثيرا من فنون اللعب والتوازن… أما إذا وقعت الوصلة على الأرض واختلط العجين بالتراب فتلك خطيئة كبرى قد لا تجبر إلا بالحرمان الشديد والعقوبة المغلظة.

كان يحدث كل هذا قبل أن يتم الاستغناء عن فران الحومة وعن وصلة الخبز وعن سُخرة الأطفال وتعويض ذلك كله بتأسيس المخابز العصرية التي قد تطرح آليا خبزا مستديرا أو مستطيلا أو ملفوفا بالآلاف المؤلفة ولكنه قد يفتقر إلى نكهة الخبز البلدي.

أما الطريقة التي كان يتعرف بها صاحب الفران على خبز بيوت الحومة كلها، دون أن يختلط بعضه ببعض فتلك حكاية أخرى… وربما من هنا جاء المثل المعروف عند المغاربة:( أنا فران وقاد بحومة).

إنه المشهد ذاته يتكرر في تفاصيل حكاية الجلابة؛ فالرجل من جهة رعي الماشية وجز صوفها في أوقات معلومة من السنة الفلاحية قبل نسجها على النول الخشبي، والنساء من جهة غسل الصوف (الجزة) وتنظيفها من الوذح وتجفيفها بأشعة الشمس في العراء أو على السطوح ثم غزلها بالمغزل الخشبي في هيأة خيوط طويلة تشكل اللحمة والسدا لنسيجها، ثم يأتي الدور في الأخير على الأطفال الصغار عند الخياطة لضرب البرشمان.

فإذا غفا ذلك الطفل عن المعلم الخياط بسبب التعب أو النوم أو أخطأ أو كرر الضربة البرشمانية انهالت عليه من حيث لا يدري لعنة أو سبة أو حتى ضربة قوية تعيد إليه وعيه وانتباهه… !!

وهناك أطفال كثر تورمت مؤخراتهم وركبهم من كثرة الزحف بالدبر أو الركبتين على تراب الأرض والحصير تبعا لحركة قضيب البرشمان. فكثيرا ما كان يتعاطى الفقهاء في الكتاتيب والجوامع لمهنة الخياطة التقليدية أيضا. وكان صبية الكناب و(محاضرة) الجامع يتنابون على ضرب البرشمان أمام حضرة الفقيه.

وكان يحدث كل هذا أيضا قبل أن ينتقل كثير من خياطي الملابس الرجالية والنسائية إلى طور الصناعة والمكننة البرشمانية.

والجلباب هو اللباس الوحيد الذي يوحد عموم المغاربة ويلف أجسادهم وفق طبيعة التضاريس الجغرافية المتنوعة المحيطة بهم من الاتجاهات الأربع؛ فقد يتنوع المغاربة في لون بشرتهم ولكناتهم وعاداتهم، ولكنهم يتوحدون جميعا في لباس الجلباب. ولو نطقت (الجلابة) لكانت خير معبر عن حالهم ولزودتنا من أخبارهم القديمة بالعجب العجاب … !!

والطريف المحير في قصة الجلباب أو (الجلابة) هو (القـُب) الذي اهتدى المغاربة الأولون إلى اختراعه وجعله جزء لا يتجزأ من الجلابة.

و(القـُب) هو الجزء العلوي الذي ألحقه مصممو الجلابة الأوائل بها؛ فهو منها بمثابة الرأس من الجسد، وإن كنا نعلم أن العادة قد جرت بأن تكون الملحقات في الهوامش الجانبية أو في المؤخرة والذيل.

ويستحيل أن نتصور جلبابا في المغرب بدون هذا (القـُب)، وإلا فإنها تتحول إلى مجرد قميص عادي. ومن هنا فإن مفهوم (الجلابة) لايكتمل إلا بوجود (القـُب)، وهذا ما يجعل الجلباب المغربي يختلف اختلافا كليا عن مفهوم (الجلابية) لدى إخواننا المصريين أو (العباية) عند إخواننا في الخليج العربي.

وإلى عهد قريب، وقبل أن يستفحل اللباس والهندام العصري المستورد والمعولم، كان جل لباس المغاربة عبارة عن جلباب، سواء بالنسبة للكبار والصغار أو النساء والرجال. وصور الأرشيف التي تنتمي إلى زمن التصوير بالأبيض والأسود خير دليل على ذلك.

وللقب قابلية كبيرة للتوسع أو التضييق حسب الرغبة، وقد أخذ بعين الاعتبار عند تصميمه أن يستوعب رأس صاحبه وعمامتة أو طربوشه أيضا.

غير أن للمغاربة مآرب أخرى في هذا (القـُب) العجيب، بالإضافة إلى وقاية الجمجمة من الحر والزمهرير؛ فمنهم من يضع فيه زاده أو نقوده، ومنهم من يضع فيه كتابا أو صحيفة، و حتى وثائق ملكية وأوراق هوية، وإن اقتضت الضرورة القصوى سكينا أو مدية.

وقد يعلق بعض الإخوة المغاربة على هذا الإدراج بقولهم باللسان المغربي الدارج: (وسير تعاود لقـُبك)، من باب الاستلطاف أو من باب الجفاء والاستخفاف. غير أن في هذا القول الذي أدرجناه تكمن صورة رمزية خفية تشير إلى هذا التوحد الغريب القائم في ذهنية المغاربة ببن الجسد الآدمي المغربي والجلابة؛ فهي بالنسبة إليه بمثابة القالب وهو بالنسبة إليها بمثابة المثال.

كما أن هذا القول الذي استشهدنا به لا يقصد (القـُب) لذاته كما يبدو من أول وهلة، وإنما يقصد الرأس الذي يحتويه، ولا يقصد الرأس كرأس وإنما يقصد المخ الذي بداخله، ولايقصد المخ لذاته وإنما الفهم الذي جـُبل عليه. وكأنما المغربي بكل هذه الفذلكة اللغوية قد اختزل عقله ومصيره في (قـُبه).

ومن هنا أيضا، وارتباطا بموضوع الجلابة، كانت أريحية المغاربة واسعة لسعة حلمهم وقوة احتمالهم لأشكال القهر والخصاصة والفقر، وللنقد اللاذع وحتى للسخرية. أو ربما لأنهم قد استوعبوا عبر التاريخ البعيد كل دروس وعبر الجلابة و(القشابة) الواسعة.

التدوين العربي بين الخفاء والتجلي

كتب في فبراير 11, 2008

من الطبيعي أن تكون أكثر المدونات العربية انكشافا أمام القراء والزوار تلك التي تحمل أسماء أصحابها الحقيقيين، وقد تكون فوق ذلك معززة بصورهم الشمسية، وبمختصر عن سيرهم الذاتية.

والانطباع الأول الذي توحي به هذه المدونات المكشوفة بالاسم واللقب والكنية، أو بالمهنة والشهرة، أو بالبلد والمدينة أو حتى بالحي والقرية، أنه ليس وراءها من الغبار ما يمكن أن يترك ولو قدرا ضئيلا من التوجس أو الريبة حول صحة نسبتها إلى أشخاص معينين بلحمهم وشحمهم، معلومين في الزمان والمكان العربيين.

غير أن ما يتكون لدينا من أفكار أولية عن هؤلاء المدونين المعروفين بنفس الأسماء والصفات المثبتة في أوراق هوياتهم لدى وزاراتنا العربية في الأمن والداخلية قد لا يتوافق بالضرورة مع ما يمكن أن يستقر في أذهاننا - كمتلقين افتراضيين - من أفكار وقناعات نهائية عند الفراغ من القراءة والتمعن في محتويات مدوناتهم المكتوبة أو المصورة.

فكثيرا ما تتلاشى معرفتنا الأولى بأصحاب المدونات إذا لم تترسخ صور مدوناتهم، وليس صور وجوههم، في الأذهان بالرغبة في تكرار الزيارة، وبما يعزز تلك الرغبة ويقويها في كل مرة من الجديد الممتع والمفيد الذي يحفزنا تلقائيا ومن غير سابق معرفة شخصية بأصحابها الحقيقيين على التفاعل مع مدوناتهم بإبداء الرأي والتعليق الذي قد يتطور مع الوقت إلى نوع من المحاورة الفكرية المثمرة والألفة الافتراضية، لأن مصافحة العقول للعقول أبقى وأرسخ في العادة من مصافحة الأيادي للأيادي، ومن كل النظرات العابرة عند التقاء العيون بالعيون…

وربما تردد كثير من المدونين في الإعلان عن أنفسهم منذ الوهلة الأولى حتى يزول عنهم هاجس الشك والخوف، فإذا اطمأنوا إلى ثقة القراء وإطراء المعلقين وعداد الزوار حسن ظنهم بمدونتهم وانتقلوا من طور السرية إلى العلانية ليـُكشف عنهم الغطاء ويـُدرجوا في خانة المدونين المعلومين، ويقطعوا دابر الشبهة باليقين.

وكان الجاحظ من المؤلفين الأوائل الذين لبسوا قناع التنكر المعرفي قديما؛ فكان يعمد إلى توقيع مؤلفاته الأولى بأسماء مستعارة حتى إذا اطمأن إلى حسن ظن الناس بها عاد مرة أخرى فنسبها إلى نفسه بثقة تامة.

وقد يرجع السبب في تنكر بعض المدونين بالأقنعة المستعارة إلى بعض النوايا المبيتة المشينة أيضا للتغرير بالسجذج وأصحاب النوايا الطيبة الذين يتصرفون على سجيتهم من فرط ثقتهم العمياء بالناس، وربما حتى بمن سبق له أن لدغ من الجحر الواحدعدة مرات، فكثير من هؤلاء قد رصدوا مدوناتهم شباكا للصيد في ظلام الليل عن سابق إصرار وترصد، فحال هؤلاء كحال الخفافيش المتعلقة بأرجلها دوما إلى تحت في عتمة دهليز أو كهف مظلم.

ومن المدونين من يفضل أن يترك مدونته غـُفلا بلا ملامح واضحة اختيارا وليس اضطرارا، إما من باب الاحتياط والتقية المفرطة، وإما لدرء الشبهة عن نفسه، أو ليقطع الطريق عن أي أحد من الناس يمكن أن يواجه في يوم من الأيام في مقهى أو في الشارع العام بهذا السؤال: هل أنت فلان صاحب المدونة الفلانية…؟ !

وربما قد يكون هذا التنكر ناتجا عن عوامل خارجية متمثلة في النظرة المريبة إلى واقع التدوين في عالمنا العربي، وإلى غياب الثقة التامة لدى كثير من الناس في محتويات الإنترنت؛ فما يبني في العوالم الافتراضية من صداقات وعلاقات وارتباطات قد يكون لدى كثير من الناس في عالمنا العربي محض توهم، انطلاقا من القاعدة المنطقية الصورية: ما بني على باطل فهو باطل، وما بني على وهم فهو وهم، وإذا فما بني على افتراض فهو محض افتراض.

وأنا بهذا المنطق صرت الآن أشك في نفسي، وأن أناملي التي تنقر حروف هذا الإدراج مجرد افتراض.. !!، بل وربما تكون يدي كلها قد أصبحت امتدادا لجهاز الحاسوب الافتراضي وليس لجسمي، وأن ما يسري فيها فقط بعض التيار الكهربائي السالب الذي يجري من محيط الحاسوب إليها، وأن لا أثر فيها لنبض الحياة المتدفق إليها دما حارا من قلبي وكبدي وبقية جوارحي عبر العروق، ولا حتى أدنى بصيص لضوء الفكر الواصل إليها عبر الأعصاب قبل أن ترقنه تلك الأنامل حروفا منسدلة على الشاشة.

ونحن قد نختلف أو نتفق حول هذا الكلام الذي يخص جدل التدوين بين ما هو خفي وما هو واضح وجلي، وبين ما هو حقيقي وما هو محض وهم أو افتراض، ولكن الحقيقة الثابتة بخصوص هذه الإشكالية المعقدة التي لا يمكن أن ينكرها أو يتنكر لها أي واحد منا هي أن آليات التتبع والمراقبة الإلكترونية تسمح في كل وقت بالتعرف الدقيق على جميع المسارات الرقمية وعلى كل تفرعاتها المتشعبة داخل الشبكة العنكبوتية التي ينتهي عند طرفها وجود موقع أو مدونة أو حتى أي حاسوب عادي موصول بالأثير الافتراضي.

وهنا، وفي هذه الحالة فقط يسقط الوهم المتكون لدينا عن العوالم الافتراضية المتشابكة التي يصح لنا أن نشبهها ببيت العنكبوت المتشابك أيضا؛ ليس فقط من جهة تشابك الخيوط فقط وإنما أيضا لأن أجهزة التجسس والاستشعار الإلكترونية المرصودة لتتبع حركة أصحاب المواقع والمنتديات والمدونات، وحتى لعموم الزوار والمتصفحين العاديين تقوم بما يشبه عمل أجهزة الاستشعار الطبيعية لدى العنكبوت عند ملامسة إحدى الحشرات أو الهوام لخيط واحد من خيوطها التي سرعان ما تلفها عليها بسرعة فائقة لا تملك لها دفعا ولا مقاومة…

وهذا ما قد يحدث معنا أيضا إذا ما دق أصحاب المخابرات في الأمن القومي والعالمي في يوم موعود للرصد جرس الباب.

وعندها فقط نفيق من الوهم الإلكتروني لنقول لأنفسنا: صح النوم عن الحقيقة الافتراضية العربية إذا ما قدر لها أن تحرك خيطا واحدا من خيوط الاستشعار لدى وزاراتنا العربية في الداخلية لتنبري إلينا نحن معشر المدونين المستضعفين وتطوقنا بأذرعها الأخطبوطية الحديدية… !!

التدوين الافتراضي والواقع العربي… وجها لوجه

كتب في فبراير 8, 2008

مع تضاعف عدد المدونات العربية بمتوالية هندسية في كل يوم يصبح من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، على شخص واحد ملاحقة كل الكتابات المدرجة في الفضاء الإلكتروني وتمحيص ما يرد فيها تِـباعا من قضايا وهموم، منذ بدء حركة التدوين العربي حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا الإدراج.

وإذا كانت مشاكل عالمنا العربي قد أخذت وقتا طويلا من الزمن حتى تفاقمت وتعقدت على النحو الذي هي عليه في الواقع فإنها لم تحتج إلا لسنوات معدودة على رؤوس الأصابع لتنتقل من مستواها الواقعي ذاك الراسخ على الأرض العربية بالأسباب والنتائج إلى مستواها الثاني الافتراضي، وهذا بعد أن انتشرت حُمى التدوين الرقمي في الأوساط العربية المختلفة كانتشار النار في الهشيم.

ولكن، قد يجدر بنا مع هذه السرعة الفائقة التي تم بها هذا الانتقال، احتساب فارق الزمن الافتراضي الجزافي الزائد عن حساب الزمن العادي في حياتنا الطبيعية؛ لأن هذا التدوين سيبقى معروضا في الرواق الإلكتروني الشاسع محلقا في السديم الافتراضي الممتد بلا بداية ولا نهاية بين السماء والأرض لزمن آخر بعيد عن إدراكنا، وذلك ما بقيت أسماء المدونات العربية ومدرجاتها ثابتة في مكانها ومواقعها على الشبكة العنكبوتية يُستدل على وجودها بالعناوين الإلكترونية وبمحركات البحث، حتى وإن اختفت أسبابها وآثارها من الواقع ومن نفوس أصحابها.

ومن هنا قد يصح لنا أن نعتبر مشاكل التدوين العربي منفردة أو مجتمعة جزء لا يتجزأ من مشكلات حقيقية واقعية موزعة بمقادير تكاد تكون متساوية على مجمل الأوطان العربية.

ولو ألقينا نظرة سريعة على مجتمع مدونات موقعي (مكتوب) و(جيران) فقط، لتبين لنا بالدليل القاطع أن الوطن العربي الافتراضي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر المدونين بالسهر والحمى وبالأنين والشكوى… !!

وعموما، فإن موضوعات التدوين العربي على اختلاف مستوياتها وطرق معالجتها بالكلمة أو بالصوت أو بالصورة ستظل من أهم المؤشرات الرقمية الحديثة التي يمكن أن تدل بوضوح وبصراحة على حقيقة الواقع العربي الراهن في كل تناقضاته وإحباطاته وأحلامه وتطلعاته مما قد لا تستطيع أن تظهره قنوات التواصل والإعلام الكلاسيكية المحسوبة على أجهزة الدولة إلا بطلاء التعتيم والتمويه، أو بسلسلة من عمليات المسخ والتشذيب والتركيب والتجميل للمزايدة أو المصادرة على المطلوب، من باب الاحتياط الزائد عن الحاجة، وتجنبا لكل ما من شأنه أن ….

وربما قد آن الأوان ليُعول أيضا على مجهود كثير من المدونين الذين قطعوا أشواطا متميزة في حقل التدوين الجيد المحكم كمحطات مرجعية لاستكمال دوائر البحث العميق المتخصص في مجال تحليل خطاب العربي المعاصر، خاصة وأن معظم المدونين الأصلاء يصدرون في الغالب الأعم عن دوافع حقيقية صادقة تضطرهم للبوح والتعبير، وهذا ما يفتقر إليه في الغالب الأعم كل تعبير أو كلام مأجور.

ومما لا شك فيه أن حل أي جزء من المشاكل الحقيقية العربية على أرض واقعنا الحقيقي يتبعه بالضرورة أثر مماثل على مستوى واقعنا الافتراضي، مما يؤدي إلى مزيد من الانفراج في الفسح الافتراضية وفي الزوايا التي يطل منها المدونون ببصرهم وبصيرتهم على عموم الناس قراء وزوارا ومعلقين.

فلو حُلت أزمة الديمقراطية في الوطن العربي مثلا أو قضية فلسطين أو العراق أو لبنان لوُضع عن كاهل المدونين العرب عبء كبير، ولعاد إليهم قدر كبير من الهدوء والاتزان والصفاء والتوافق مع النفس والمحيط والعالم..

كما يمكن أن نعتبر التدوين العربي في هذه المرحلة القصيرة التي اجتازها بكثير من الحماس والشغف والرغبة الملحة في التنويع والابتكار، بالإضافة إلى ما يَحْبـُل به في كل يوم من قضايا وشجون، حدا وسطا بين ثقافة النخبة وثقافة العامة، وبين ثقافة التعليم النظامي في المدرسة والجامعة وثقافة الشارع العمومي والتلفزيون، وبين ثقافة الكتب والمنشورات الورقية وثقافة الإعلام والوسائط الإلكترونية، وبين ثقافة الشيوخ والآباء وثقافة الأبناء والأحفاد، وبين ثقافة المتحررين المنطلقين بلا حدود ولا قيود وثقافة من يمشون على طريق لا عوج ولا أَمْـت فيها حذو النعل بالنعل، وبين ثقافة من يلوح بالسيف والدم ومن يلوح بالبوح والألم…. الكل في عوالم التدوين الافتراضي يسعى جهده ليدفع أو يدافع، ولينتقد أو يندد، وليقترح أو يوضح، بعد أن يحرق قدرا لا يستهان به من الوقت والطاقة والأعصاب.

وبعبارة أخرى افتراضية فقد أصبح التدوين العربي أهم وعاء ثقافي لفهم حقيقة العالم العربي من الداخل والخارج، ومن الأعلى ومن الأسفل، ومن اليمين واليسار ومن كل الأنحاء والاتجاهات. وإن بدا هذا الوعاء في بعض الأحيان أشبه ما يكون بالمرايا المقعرة نرى فيها أنفسنا ويرانا فيها الآخرون بأشكال غير الأشكال وأحجام غير الأحجام وألوان غير الألوان.

عندما ينقطع مـَدَدُ السماوات الافتراضية

كتب في فبراير 6, 2008

قد يصبح من العسير على إنسان هذا العصر أن يمضي يوما واحدا من أيامه العادية على بياض افتراضي عند انقطاع حرارة الاتصال الإلكترونية البرية أو البحرية أو الجوية لخلل ما في الخطوط أو لعطب ما في المصدر، فما بالنا إذا استمر هذا الانقطاع أياما عديدة متقطعة أو متواصلة… !!

فمن أكثر الأمور اعتيادا أن يأخذ أحدنا مقعده بجوار الكمبيوتر ليبدأ رحلة تحليق افتراضي قصيرة، عند العزم الأول، لكنها ما تلبث أن تطول وتطول حتى تذهله عن نفسه وعن الوجود. وقد لا يعود له حسه الواقعي بالأشياء وبما حوله إلا على نداء الواجب المنبعث من نفسه أو من أقرب الناس إليه لينتبه في آخر لحظة إلى حلول المواعيد المقررة المعلومة للعمل أو الدراسة أو الأكل أو لقضاء مختلف الحاجات أو حتى لأخذ قسط من الراحة والنوم، وهذا بعد أن يأخذ منه الجهد والإرهاق الإلكتروني ما لا يقدر أن يُخفي أثره على الناس…

وإذا كان هذا حالنا كأفراد ذاتيين، في تعلقنا وارتباطنا بالعوالم الافتراضية، فما بالنا بالأشخاص المعنويين وبكبريات الشركات والمؤسسات التي تتكون في معظمها من حواسيب ومعلومات رقمية متدفقة على مدار الساعة عبر شبكة الاتصالات…

وكنت لفرط ثقتي العمياء بالعوالم الافتراضية القصية أعتقد أن تلك العوالم حرة ثابتة على الدوام لأنها معلقة في مكان ما آمن بين السماوات والأرض من غير حاجة إلى سقوف أو دعائم أو حبال واهية تشدها إلى واقع حياتنا الآدمية.

غير أن أحداث انقطاع حبال الإنترنت البحرية في خليجي مصر والإمارات وما نتج عن ذلك من ارتباك وتوقف في حركة تدفق المعلومات الرقمية، ومن هبوط حاد في حركة الزوار والمتصفحين في كثير من الدول العربية أعادني إلى جادة الصواب وإلى الحقيقة الواقعية المرة؛ وهي أن وراء تلك الشبكة العنكبوتية المعلقة في تلك السماوات الافتراضية غير المعلومة بنية أخرى حقيقية من الخيوط الدقيقة والحبال المعلومة والمنظورة، وأنها معرضة في أي وقت للتمزق والتلف مثل أي شريان دموي يمكن أن يحكم عطبه الطارئ على نبض الحياة في أجسامنا الضعيفة الواهية بالشلل أوالموت.

ماذا لو فاحت من حولنا روائح الذنوب والجرائم

كتب في فبراير 2, 2008

روي عن أحد العباد الصالحين في زمن الزهد الأول أنه قال: ” لو فاحت الذنوب ما جلس أحد إلى أحد”.

فعلا، إذا ما قدر الله لذنوبنا المقترفة في حقه تعالى أن تفوح في يوم من الأيام لانفضح كل واحد منا أمام بقية الخلق والعالم…!

ولو فاحت من حولنا كل جرائم هذا العصر المقترفة في حق العباد والشعوب لكانت الطامة الكبرى والنهاية المعجلة لهذا الدنيا، والفناء المحتوم لكرتنا الأرضية….!

ولو كان في إمكان ذلك الفوحان أن يكون، في كل وقت وحين، لما تجرأ أحدنا على الاقتراب من الآخر، ولتردد كل واحد منا ألف مرة قبل الإقدام على ضغط الزر لتشغيل تلفزيون دولة ما أو لفتح موقع من المواقع…

صرت الآن أفهم، أكثر من أي وقت مضى، لماذا ينبغي أن يستقبل بوش وأقرانه في بعض البلدان التي وفرت لنفسها ولشعوبها قدرا محترما من الورع والنقاء والشفافية بوضع الكمامات البيضاء المعقمة، سياسيا وأخلاقيا، على الخياشيم والجيوب الأنفية…..

وصرت أفهم أكثر لماذا لا يجرأ زعماؤنا في الآونة الأخيرة على الاجتماع مع بعضهم البعض أو الظهور على الملأ لمقابلة شعوبهم ولو بأعذارهم وأسبابهم الملفقة المتهاوية؛ والذي قد يظهر أو يفهم ويستنتج من تأويل الأحداث السياسة العربية أنهم ما عادوا يطيقون روائحم حتى في خلوتهم الشخصية….!!

وفي خبر آخر عن بعض الزهاد نختم به هذا الإدراج فيما يشبه الترياق المضاد لكل ما سبق:

( مر إنسان موسوس ببعض الصالحين، فجمع ذلك الشيخ ثيابه. فقال له الرجل: لم تجمع ثيابك، ليست ثيابي نجسة ؟!. فقال الشيخ: وهمت في ظنك. ثيابي هي النجسة، جمعتها عنك لئلا تنجس ثيابك، لا لكي تنجس ثيابي..!!).

من هنا وتلافيا لكل الأضرار المادية والمعنوية التي يمكن أن تضر بالناس يحسن بنا أن نشمر عن قلوبنا وثيابنا الحقيقية…

بياض الثلج وسواد القلوب

كتب في فبراير 1, 2008

في سابقة مناخية نادرة الحدوث عرفت منطقة الشام والهلال الخصيب تساقطات ثلجية كثيفة، وقدم رجل الثلج الأبيض المتوسط من بلاد الغمام والضباب ليمسح بفرشاته السحرية على أديم سوريا والأردن ولبنان وفلسطين وليحكم عليها جميعا بوحدة اللون والمصير والبياض.

ما أثارني في هذا الموضوع الطريف أكثر، هو ما عبر عنه المستجوبون في الشارع العمومي لهذه البلدان بتلقائية أمام ميكرفونات الإذاعات والتلفزيونات العربية المحلية والقطرية من ابتهاج عن حرارة مشاعرهم المفعمة ببرودة اليأس والإحباط، وما تمنوه من الأماني الساسية الحالمة البيضاء في أن يكون هذا الثلج الحسن المبارك عامل تنقية للقلوب العربية من الضغينة والحقد والفرقة والخلافات البينية، لتنتقل إلى التكتل والاتحاد في صفوف متراصة كالحبات الثلجية.


وأنا من فرط سذاجتي وقلة خبرتي بجغرافية المناخ السياسي، كنت أعتقد أن غياب الوحدة من حياتنا العملية والإستراتيجية يرجع إلى علل كامنة فينا. وقد تبين لي الآن بالدليل الطبيعي القاطع أنه فقط متوقف على بعض الأعطاب المناخية السطحية.

وإذن، فاللهم وحد دولنا العربية بلون بياض الثلج من الخليج إلى المحيط، ومن بغداد إلى تطوان، حتى تنطفئ عندنا بالبرد والصقيع جمرة الثأر والحمية والطائفية، وتنكمش كل الغدد المرضية المنتفخة والزائدة؛ الخُلقية قبل الخِلقية…!!

إعلام بصري لا يعي ولا يبصر

كتب في يناير 31, 2008

خبر : ” اتصلوا بنا على الأرقام الظاهرة على الشاشة “

تعليق: أتعجب كثيرا لماذا لا يكلف المذيعون أنفسهم عبء قراءة تلك الأرقام الطويلة الظاهرة على الشاشة رغم شغفهم الشديد بالجدل العقيم والثرثرة…
وهذا، مع العلم أن هناك عددا هائلا من المكفوفين في عالمنا العربي يتابعون بسمعهم برامج التلفزيون العربي…!!

فلماذا يستبعد المكفوفون ومن يعاني من ضعف البصر من دوائر الاهتمام عندما يتعلق الأمر بلغة الأرقام؛ هل لجهلهم المركب أم لعمى مزمن في الفهم والبصيرة؟!.ولماذا يحرم هؤلاء جميعا من بعض الخدمات التي قد تسعفهم بها تلك الأرقام في حالة الضرورة القصوى؟!!
هناك عطب ما في جهاز الفكر والبرمحة وليس في أجهزة الإرسال أو الدفع لدينا …!!

حكايات هامشية 3

كتب يوم يناير 30, 2008

الحلقة الثالثة: لغز الخوف من عوالم البرية.

قد لا يحتاج أحد القراء مثلي ممن قضوا شطرا من حياتهم يجوبون الأحراش والبراري، وممن تلونت جلودهم بلون الشمس القمحي، وكرعوا الماء بأفواههم عند طرف جدول أو غدير إلى تعريف ما لعوالم البرية. فهذه العوالم ينبغي أن تعرف ولا تـُعرَّف أو توصف.
ولكنني أدرك أن كثيرا من أطفال اليوم قد لا يعرفون من معانى البرية، فضلا عن حكايات البرية العجيبة إلا ما ارتسم في أذهانهم الصغيرة من وراء شاشة التلفاز، أو من خلال القصص المصورة ل(ترزان) أمير البرية وصديق الحيوان.

ولهذا تراهم يرتعدون خوفا كلما رأوا صرصورا أو فأرا صغيرا، ويتجمدون في مكانهم من الفزع والهلع يبكون ويستغيثون كلما اعترض طريقهم قط من قطط الشوارع، ويرتفع بكاؤهم ونحيبهم في عنان السماء أكثر كلما دنا منهم ذلك القط السمين البطيء المترهل الأشعث الأغبر، ويتضاعف الخوف والصراخ والعويل أكثر وأكثر، وكأن القيامة قد قامت عندهم، كلما تجرأ ذلك القط وتمسح بوقاحته المعهودة بأرجلهم الصغيرة الغضة الطرية، أو داعبهم بذيله المعقوف الطويل، أو هم بلعق أحذيتهم اللامعة بلسانه الأحمر الصغير، ليس لخبثه ولا لرغبته اللعينة في التحرش شأن بعض القطط الآدمية ذات الجاه والوجاهة والمال والأظافر والخناجر، وإنما لبعض الفضول الذي تعلمه من عادته الطويلة في حشر رأسه الصغير في القمامات وفي كل شيء، أو ربما لأنه يتخيلهم في هيأة دمى متحركة صنعت توا للعب والمداعبة لما هم عليه من حسن الترتيب والتلميع والتصفيف وحسن الهندام. أو ربما لأنه يقصد فقط، وبشكل غريزي وطبيعي، أن يكسر حاجز الخوف القابع في نفوسهم والجاثم على صدورهم بتلك المداعبة اللطيفة.

كما أعلم أن معظم أطفالنا اليوم ما عادت عيونهم تصافح هالة القمر المستديرة في السماء، ولو مرة واحدة في الشهر أو في السنة، وكأنهم قد دفنوا بالحياة داخل مربعات ومستطيلات الحديد والزجاج والبلاستيك والإسمنت والإسفلت.

كما أن معظم أطفال اليوم لا تستطيع عيونهم الرطبة من فرط إدمان النظر في شاشة الهاتف النقال وأجهزة اللعب الإلكتروني أن تقع على ضوء الشمس إلا من وراء زجاج النظارات السميك الداكن، كما لا تستطيع جلودهم البضة الفتية أن تصبر، ولو لدقائق معدودة، للفح شمس النهار إلا بدهن مرطبات الجلد والمراهم.

ولذلك ينبغي، من الآن فصاعدا أن نعد الأعذار لأطفالنا في المستقبل القريب إذا ما رسموا لنا القمر في هيأة مربعة أو مثلثة، أو رسموا لنا الحمار بقرون بارزة، أو الثور بأثداء متدلية…فهم لا يتصورون العالم الخارجي الطبيعي إلا من خلال ما توحي لهم به برامج الألعاب والخيال الافتراضي التي تعمل في كل يوم على تشويه ومسخ وطمس معالم وحقيقة العالم الطبيعي في عقولهم وأذهانهم ونفوسهم…

وبالأمس القريب فقط كانت البرية جزء من مدرسة الحياة، يتعلم الناس على اختلاف مستوياتهم وأعمارهم بين خمائلها وجداولها وأحراشها على مدار العام وعبر تقلبات الفصول، ما لا يمكن أن تقدمه لهم النظريات والأطروحات العلمية المتخصصة؛

فهناك فرق كبير بين أن تقرأ عن الخوف مثلا في نظريات علم النفس الطبي السريري، وبين أن تستشعر قمة الخوف عندما يفاجئك في جنح الليل لأول مرة ذلك الذئب الحقيقي، الذي يمكن أن تكون قد قرأت عنه سابقا في الحكايات الخيالية المسلية، لكن هذه المرة تجده بحقيقته كما هو في الطبيعة وبلحمه وشحمه وعوائه وتكشيرة أنيابه.
وحين يحفزك هذا الخوف ذاته على المواجهة والمجابهة الحقيقية تنحل عقدة الخوف الذئبي لديك بيسر وسهولة لتنتقل إلى مغالبة الخوف الثعلبي والأسدي وهكذا دواليك…؛ فكل الحيوانات الطبيعية والآدمية تخشانا بمقدار ما نخشاها وزيادة….ولكن العامل الحاسم يرجع إلى حكم العادة وإلى طريقة الإعداد والتكوين والتربية.

ففي حالة الخوف الأولى البكر الخالية من الممارسة والتجربة يظل الخوف في نفسك كما هو، إن لم يزدد ويتراكم بنسب مضاعفة ومركبة عند تبلد الخواطر واستمراء طعم رفاهية الخمول وفراغ والراحة.
وأصعب شيء على الإنسان أن يخاف من الخوف نفسه، كأن يخاف من جهله أو من أوهامه مثلا، أو حتى مما ليس له أصل في الوجود.

وأعتقد أنه لدى حكامنا العرب مثل هذه العقدة التي قد تشبه في كثير من جوانبها وملابساتها عقدة خوف الأطفال الصغار من الأشباح ومن قطط الشوارع..!!
حقا، لقد أثبتت لنا التجارب والأحداث والوقائع التي تعاقبت على بلادنا العربية خلال السنوات القليلة الماضية التي يشيب من هولها شعرالولدان، أنهم يعيشون حالة وهم فظيع من البعبع الإسرائيلي ومن الفزاعة الأمريكية أو (خيال المقاسة) بلغة إخواننا المصريين، مع أنه يمكن لهم بسهولة أن يتجاوزوا عقدة الخوف المتمكنة من قلوبهم.
وقد يكفيهم فقط أن يقولوا بملء شدقهم كلمة: لا، ويعلنوها بثقة وصراحة ودون استحياء أو مواربة في وجه إسرائيل وأمريكا، ولو مرة واحدة في حياتهم، فرادى أو مجتمعين إذا ما قدر لهم في يوم من الأيام أن يجتمعوا بصدق وعزم حقيقين، بعد أن ينزعوا من أنفسهم الخوف من أمنا الغولة.
وإن كنت أشك في ذلك لعوامل التربية السياسية والدبلوماسية المتراكمة في جوانبها المخملية الناعمة التي تبتعد بهم وبنا جميعا في كل يوم أكثر عن حكايات (السرحة) والبرية.. .

فكلمة لا هذه على شفاه حكامنا أحلى من كل عسل، ومطمح شعوبهم الذليلة المنكسرة، وهي وإن كانت في الحدود الدنيا جهد المقل، غير أنها يمكن أن تغير أشياء كثيرة في واقعنا العربي المترهل بالفساد وبوهج النفط الزائف وعائدات اليورو والدولار المكدسة في الجيوب والبطون والفروج…!!

وقد كان من الممكن لهم، لو صح عزمهم، أن يجلبوا بتلك الأموال الطائلة وصفة دواء سحرية لتقوية جهاز الممناعة المنعدمة لديهم. ولو كانت تلك الوصفة ممتزجة بلبن العصفور لتخلصت، أو معلقة في قرن الشمس البعيدة لأحضرت …وهل ينفع النداء إذا (طنش) المنادي…؟!
وما أظن إلا أنهم يتشبثون بالتطبيق الحرفي للمثل المغربي المعكوس والمضروب والسيئ في الإعداد والتربية الذي يقول: (اللـِّي خـَافْ نـْجـا)، أو المثل المغربي الآخر: (الخـَوَّاف ما كـَتـْخاف عليه امـُّه)…
وأعتقد أن المثل الثاني ينطبق على حكوماتنا التي هي بمثابة أمهاتنا ليس من الرضاعة ولكن في التفريط والإهمال والوضاعة، فمن الأمهات الحقيقيات ما هن بثقل وقوة كتيبة كاملة من الرجال المكبلة بعقد الخوف بلا حول ولا قوة داخل الثكنات، والمستعبدة بالتطبيق الحرفي لما هب ودب من الأوامر والإملاءات.. .

وقد أعلنت إيران كلمة لا بعد أن نزعت كل عقد الخوف من حكومتها وشعبها لتنطلق إلى استراتيجيات أخرى جديدة أكثر أمنا واستقلالا للمناورة والمواجهة والمجابهة إن أمكن، ولتدوخ عدوها بملفاتها النووية في دهاليز الأمم المتحدة وغير المتحدة جيئة وذهابا وتجعل أمريكا وإسرائيل حائرتين تتقلبان فوق صفيح ساخن كالمرجل، من الغيظ والحيرة والارتباك والحرقة وطبقتها لبنان بشكل محدود مشخص في حزب الله في حرب تموز الماضية، وكان من أمر ذلك ما كان… لولا عقد المنشار الكثيرة في وطننا العربي، ولولا العصي الممتدة في كل مرة لشل حركة عجلة القطار العربي الذي لا يراد له أن يتحرك أبدا…

وإذا، وباختصار شديد، يمكن لمزاج الخوف لدى شعوبنا وحكامنا أن يعتدل إذا ما أعدنا النظر الجاد في دروس الممانعة التطبيقية الأصيلة الطبيعية، واستفدنا من دروس الحياة في البرية.

حكايات هامشية 2

كتب يوم يناير 29, 2008

الحلقة الثانية: مفاهيم أولية.

لو سألني أحدكم: ما هو أقصر تعريف لأطول حكاية من الحكايات الكلامية لأسرعت وأجبت: إنه بكل بساطة لعبة توليد الكلام من الكلام بالكلام.

ما أروع هذا الكلام البشري إذا، عندما يبدأ في التململ والتمدد من تحت اللسان ( المرء مخبوء تحت لسانه ) ليستوعب في عباءته الفضفاضة ما لا تستطيع أن تراه كثير من الأعين المجردة المبحلقة كالمشدوه المعتوه في البياض والفراغ، أو تدركه كثير من العقول الخاملة التي لا تستطيع أن تستيقظ من الغفلة والنوم والضياع رغم الوخز الشديد ورغم التكرارفي كل مرة بالتشديد والإلحاح.

وما أقدر سحر الحكاية وهي ابنة الكلام بالشرع أو التبني حين تستطيع أن تصنع من لاشيء أي شيئ، ومن شيئ شيئا يشبه الشيء أو اللاشيء ( أعتذر لكم عن لغة التشييء وما قد ينتج عنها من تشويش )، ومن الحبة قبة، ومن القبة حبة، ومن القملة بقرة ومن الفيل نملة، ومن حبة شعير نخلة مثمرة ومن زهرة الياسمين خشخاشا أو حنظلة…

ما أجمل سحر الكلام وما ألطفه وما أوسخه وما أقذره، وما أعظمه وما أتفهه… ، ومع كل هذا وذاك من نقائص الكلام فإن من أمر بيانه لسحرا…

والشيء العجيب والغريب في أمر الكلام عند العرب أن يشبهوه بالماء، ربما لأن لديه قابلية التحول إلى ما يشبه عنصر الماء عندما يكون في وضعه الطبيعي الخالص الصرف عاريا من صفات الألوان والأطعمة والأذواق والروائح المضافة إليه لاحقا.
ومع أن الماء بلا ملامح ولا صفات معلومة يمكن أن تعرف أو تذكر، فإنه يبقى الأصل الأول لكل لون حي أو جامد في الطبيعة كلها، ولكل مأكول أو مشروب أو مشموم مما لا يمكن أن يعد أو يحصى من الأشكال والأصناف والألوان لدى جميع الناس على هذه الكرة الأرضية العجيبة التي نشترك جميعا في مائها وهوائها وترابها كل حسب حظه ونصيبه وبخته أو استئساده واستذئابه واستنعاجه.

وكما يجوز لنا أن نتحدث عن تلوث الماء عندما يتجرد من صفات الشفافية والنقاء، يمكن أيضا أن نتحدث عن تلوث ماء الكلام عندما يمتزج بصفات الغش والمكر والدهاء؛ فكل إناء من الكلام بما فيه يرشح أو يقرأ ويشرح. وهذه مدوناتنا العربية التي تدل علينا بمثابة الأوعية الجديدة لمياه الكلام العربي الكثير الغزير المتدفق على مدار الساعة…فأين منه العذب المستساغ، وأين منه الملح الأجاج؟؟!!

وكل ما يتحرك على الأرض أو في البحر والجو أو على أسلة اللسان عندما نهم بالكتابة والبيان يترك وراءه أثرا باقيا؛ ومن الأثر ما يكون بنكهة الريح ومنه ما يكون بنكهة الطين والتراب ومنه ما يكون بنكهة لفح النار وبنكهة سم الأفاعي الرقطاء، ومنه أيضا ما يكون بنكهة ضجيج الجنادب وضوضاء الصراصير في عز الليالي الصيفية المقمرة، وحتى بنكهة وخز الذباب الخريفي الجائع عندما يعلوا أرانب أنوف الطغاة والملوك والجبابرة بجرأة ووقاحة…هل تتذكرون قصة (القاضي والذباب) …؟!!
وربما لهذا السبب قالت العرب في أمثالها ( أشجع من ذباب )؛ لأن الذباب في عالمنا العربي هو الوحيد الذي يتجرأ على اقتحام خلوة حكامنا الميامين وحتى على وخز أنوفهم الشامخة الضاربة في عنان السماء كالأبراج العالية التي تحجب من ورائها ضوء الشمس عن بقية الناس والعباد الذين يفترشون الرصيف، ويتكدسون في الهوامش وفي دورالطين والقش أو في علب القصدير والصفيح.

ولكن، ومع كل ما قلناه من محاذير، قد يصبح الحكي في بعض الأحيان ضرورة قصوى لإثبات الوجود، بل وحتى للمقاومة والبقاء على قيد الحياة فيما يشبه الثورة الهادئة اللطيفة التي قد لا تثير غبارا أو زوبعة، فضلا عن أن تسعف بشيء قليل أو كثير في الإطاحة بعروش الطغاة والجبابرة. غير أنها من شدة رقتها ونعومتها ولطافتها تستطيع أن تسقط ثمرة ناضجة تلذ في المذاق وتنعش عروق الذاكرة وتضخ بعض الدم الحار في شرايين الفهم والنباهة المتكلسة.

وفي حكايتنا العربية القديمة للألف ليلة وليلة استطاعت شهرزاد الأسيرة في قصر شهريار أن تفتنه وتذهله عن نفسه وعن حاجته النفسية الملحة إلى قتلها، ليس بغواية جسمها الفتان ولكن فقط بلعبة الحكي وقدرتها الفائقة على نسج خيوط الكلام..
وهكذا كان ما كان من أمرها المشهور في جميع الآفاق والبلدان حتى غلبت جاذبية سحر كلامها على جاذبية رغبة شهريار في الانتقام، فوقع في سحر كلامها أسيرا خانعا ذليلا بدل أن تكون هي المأسورة والمستسلمة لمصيرها المحتوم.

ولو توقفت شهرزاد في ليلة واحدة عن الحكي وعن الكلام الصريح المباح وغير المباح لما كان لها أصل في هذا الوجود ولما….

معذرة عن هذا التوقف الطارئ لانقطاع مادة الحكي والكلام من المصدر، أو ربما لأنني أشعر أن سحر الكلام يحاول أن يمغنطني ويسحرني ليأخذني إلى حيث لا أقصد من وراء هذا الكلام. .
ولو أذعنت واستسلمت واسترسلت لخرجت عن حدود النطاق المرسوم لهذا الإدراج ولنسيت جوهر حكايتنا عن (السرحة) المنسية…/ ….

تابعونا وانتظرونا في الحلقة التالية.

حكايات هامشية 1

كتب في يناير 29, 2008

الحلقة الأولى: خواطر وأوراق مختلطة.

لأول مرة سأجرب عبر كلماتي العابرة حظي العاثر في كتابة حكاية خيالية واحدة بعد كل هذا الكلام الواقعي المعقول والجاد الذي قلته على مدار عامين كاملين أو يزيد قليلا من الكتابة والتدوين.

صراحة أخشى أن أجوب لوحدي داخل مملكة الخيال السردي الآسرة العجيبة، وليس معي إلا خواطري المشتتة وذكرياتي البعيدة التي تلوح لي في نهاية الأفق البعيد كلمع سراب خادع أو كرقع مختطلة الأحجام شاحبة الألوان والتفاصيل على قميص درويش مجدوب لا له ولا عليه، منزو على عتبة ضريح بعيد متوار خلف التلال والجبال يطلب الدفء من خيوط الشمس اللذيذة في صبيحة نهار بارد لجسمه وقمله الذي يسكن بين جوانحه وثيابه الرثة، ويلتمس كثيرا من الراحة والسلامة لنفسه بعد أن يئس وتعب من صلاح الناس كافة.

سأحاول أن أنسج هذا القميص السردي ( نسبة إلى السرديات، بمفهوم الحكي، وليس إلى نوع الخروف المعروف كبش الفداء والتضحية، بالمفهوم المتداول عند المغاربة عند حلول العيد الكبير ) مما تبقي لي من رقع الخواطر والذكريات, لكن على مقاسي الخاص وليس على مقاس يوسف أو عثمان أو علي أو أي مشرد أو مطرود أو ذبيح أو مظلوم أو ضحية من ضحايا عالمنا القديم والجديد.

وأنا هنا في هذه الفسحة الافتراضية لا أعرض هذا القميص هنا للمتاجرة والمزايدة العلنية أو السرية ما دمت حيا, ولا أرجو من وراء ذلك جزاء ولا شكورا، ولا أستجدي إطراء أو تعليقا، وإنما فقط للإمتاع والمؤانسة على حد قول أستاذنا وشيخنا الجليل المغبون في حظه وبخته أبي حيان التوحيدي، وربما، إذا أسعفني التوفيق والحظ، لقليل من الفائدة والمغزى.

وإن كنت أعلم علما يكاد يقترب من اليقين، أن زمن المغزى وما يدور في فلكه من عبرة ونصيحة قد ولى أدراجه، وأنه قد استبدل في عصرنا بمفاهيم أكثر واقعية ومصداقية وإن بدت في إهاب المكر والدهاء أو حملت على أساطيل القهر وبوارج التسلط ومجنزرات الدهم والغزو. وهذا على حد قول من يعتقد بفكرة البقاء للأصلح. وقد كان من الأولى أن يصححوا عبارتهم ويقولوا: البقاء للأدهى والأقوى؛ فمن لم يكن ذئبا محتالا لضعفه في أسوأ الأحوال داهمته وأكلته الأسود على حين انتباه أوغفلة.

فلا مغزى في عصرنا هذا أصدق من طلقة مسدس أو مدفع أو رشاش، أو التلويح، من بعيد، بقنبلة نووية تلوي الأعناق ويذعن لها جبابرة الحكام قبل سائر الخلق، أما لغة السلام والاستسلام فهي أقرب ما تكون إلى صراخ الديك الذبيح، وثغاء النعجة المستكين عند الانبطاح ليركبها فحل الذكور أو رأس القطيع.

ولذلك فمدلول المغزى ما عاد يساوي قدر بصلة عفنة بعد أن كان يساوي قدر جمل أو أكثر في الزمن البشري النبيل.

ثم، بالله عليكم، ماذا يمكن أن تضيف حكايتي الخيالية المسكينة هذه إلى جانب حكايات مسلسلات أمريكا التي أذعنت لبهرج كلامها المزين بألوان كهرباء (لاس فيكاس) الأفهام والعقول، وأتت بفعلها الذميم على الحرث والنسل.

فمن عاد الآن يصدق الكلام أو يثق فيه؛ لقد أفسد علينا طغاة وجبابرة هذا العصر لعبة فن الكلام وسحره.

وهذا جورج بوش الذي جر على أوطاننا كل أصناف البؤس والنحس له في كل يوم من الكلام لون وصنف.
لكن، من منا ومن كل العالم يصدق كلامه المزخرف بالوعود الكاذبة المعسولة (دابا نسقيك يالكمون)، كما نقول نحن المغاربة في كلامنا الدارج.

وهذه أفعال بوش ومن في زمرته وعصابته تكذب في كل يوم أقواله وأقوالهم.
فأقوال بوش وأفعاله خطان متوازيان لا يمكن أن يلتقيان حتى بالمفهوم الرياضي الهندسي الواسع، فكيف يجتمعان على أرض الواقع الضيقة المحدودة بالقهر والحصار والاستعمار في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان، وفي كل بقعة أرض يطأها بأقدامه وبعسكره وبقضه وقضيضه. وهذا ما يصدق عليه بالحرف الواحد قول إخواننا المصرين:( اسمع كلامك اصدقك، أشوف امورك استعجب.. !!

دعنا من بوش وشره وليذهب مع أقواله وأفعاله إلى الجحيم، ولنبدأ حكايتنا الخاصة من بداية البداية.
وهذا هو موضوع الحلقة الموالية

من الثورة النووية إلى الثورة المنوية

كتب في يناير 28, 2008

قد يخرج هذا الإدراج قليلا عن عادتي في الكتابة، ليس بسبب اختيار هذا الموضوع فقط، رغم أهميته القصوى في تحديد مستقبل البشرية، وإنما بسبب العنوان أعلاه نتيجة لحساسيته الشديدة؛

ففي عالمنا العربي الذي تطغى عليه التركيبة الازدواجية وحتى الثلاثية والرباعية يصعب علينا كثيرا أن نجد شخصيات فردية حقيقية، أي شخصيات أحادية التركيب والطبع والمزاج، واضحة الأهداف والمقاصد ثابتة على المبادئ والعقائد. ولعل أصدق مثال على هذه التركيبة المختلطة المثل المغربي السائد:( كـيْخاف ما كـيْحشمْ ).

وأعتقد أنه داخل كل بلد عربي نظائر كثيرة لهذا المثل المغربي الدارج لا أعرف منها غير المثل المصري الذي حفظته عن ظهر قلب من فرط إدماني السابق على تتبع المسلسلات المصرية في فترة تكويني التلفزيونية: ( ناس بِتـْخاف ما بْتِخـْتـِشيشْ).

وكما يمكن أن ينطبق هذا المثل علينا نحن - معشر المواطنين من الدرجة العادية وما تحت العادية - المسيجين داخل حظائر القهر والصمت، يمكن أن ينطبق أيضا على حكامنا - من الدرجة الأولى المصنفة في إطار السدة العالية والمقام الرفيع وما فوق ذلك ..، وإلا كيف نفسر صمتهم وعجزهم عن فك حصار غزة ومد الحد الأدنى من يد المساعدة، وليس كل اليد، إلى إخواننا الفلسطينيين المشردين المنكوبين الذين يستنجدون ويستجدون من خلف الحواجز والمعابر… !!

لافرق بينا وبينهم إذا؛ فنحن نخاف ونطيع من تحت، وهم يخافون ويطيعون من فوق. والمثل السابق يشملنا جميعا. والحمد لله على هذا الوضع الذي لا نحسد عليه والذي جعلنا حاكمين ومحكومين سواسية وفي صف واحد متراص أمام هذه الازدواجية .. !!

وبين الخوف والحياء تكمن أزمة التفكير والتعبير والتدبير في هذه الأمة، وإن كنا نعلم جميعا حسب ما تنص عليه أبجديات التربية والتوجيه والتعليم عندنا: أن (لا حياء في الدين)، وأن (العلم والخجل لا يجتمعان). ولكن، كم من وجوه نعرفها عبر المصافحة وعبر الإعلام وعبر التلفاز وهي في حقيقة الأمر وجوه غير الوجوه لأنها ركبت من مثنى وثلاث ورباع وهلم جردا وعدا… !!

ومما عقد عنوان هذا الموضوع أكثر أنه يجمع بين أزمة الخجل الأدبي وأزمة الخجل السياسي عندنا دفعة واحدة، فأكون بذلك قد ورطت نفسي مرتين مُرتين (نسبة إلى المرارة):

فأنا أعلم أن محركات البحث الأمريكية العملاقة ستترصد هذا الإدراج بمجرد إرساله على الشبكة العنكبوتية لحساسيتها المفرطة تجاه الكلمات النووية.

كما أعلم علم اليقين أن محركات البحث العربي ستترصده بسرعة فائقة أيضا لكن، لحساسيتها المفرطة تجاه الكلمات المنوية.

عفوا عن كل ما اقترفناه في ديباجة هذا الإدراج من رفث ولغو، ولنعد إلى جوهر الموضوع.

هذا الموضوع هو عين الصواب والجد، ولا مجال فيه للهزل. ومن هنا، ومن باب الأمانة العلمية والأدبية والجغرافية والتاريخية، وجب علينا طرح هذا السؤال المصيري الخطير: ماذا أعد العرب لمستقبلهم النووي والمنوي؟، وخاصة بعد أن ينفذ مخزونهم من الغاز والبترول إلى درجة العدم في الأمد القريب، وتنخفض الخصوبة عند ذكورهم إلى درجة الصفر بسبب استفحال الآثار الجانبية للتلوث الإشعاعي في الهواء والتراب والماء وبسبب عواقب أنظمة التغذية الاستهلاكية المعدلة والمهجنة التي تعج بها أسواقهم؟

وفي بلدان الغرب تسير أبحاث التخصيب المنوي جنبا إلى جنب مع أبحاث التخصيب النووي وترصد لهذه التركيبة العلمية المزدوجة في دراساتهم وأبحاثهم واستراتيجياتهم ميزانيات ضخمة، وتستنفر لذلك جهابذة علماء الكيمياء والوراثة والفيزياء والذرة من بلدان العالم أجمع بكل وسائل الإغراء المادي والمعنوي للالتحاق بمختبراتها السرية جدا.

كما تحرص بلدان الغرب على إبقاء نتائج أبحاثها الدقيقة والخطيرة في المجالين معا طي الكتمان، بكل صدق مع نفسها و بكل شفافية، في انتظار (كودو)(1): أي في انتظار الوقت المناسب.

وسيصبح في إمكان الدول المتقدمة في المجالين معا التحكم في مصادر الطاقة المحركة لمستقبل هذا العالم، ووضع خرائط هندسية لتصميم وبيع وتسويق ملامح القادمين الجدد إلى هذا العالم الأرضي في المدى البعيد. ولكن، ليس عبر إحليل الرجل ولا عبر الطريقة الكلاسيكية المعروفة للتوالد البشري، وإنما عبر عملية تخصيب منوي في مختبرات خاصة لا تقل من حيث التعقيد والخطورة والفاعلية عن أي تخصيب نووي في الأفران الفولاذية العالية…

وما أخشاه بعد نفاذ البترول والغاز من أرضنا العربية أن يفوتنا الوقت ونستفيق ذات يوم لنجد أنفسنا في أزمة تخصيب منوي حقيقية عندما سينعدم مفعول إحليل الرجل العربي بسبب عوامل طارئة خارجة عن إرادتنا ، لنهلك وننقرض جميعا بسبب التفريط في البحث الجاد في علوم الطاقة النووية والمنوية، وانشغالنا بالجدل العقيم والغوغائية والصراعات البينية.

فهل أعذر من أنذر.. !!
——-
هامش:
في انتظار كودو ، مسرحية مشهورة للكاتب العالمي صمويل بيكيت (1).

وضعية الإملاء العربي في مجتمع التدوين باللغة العربية

كتب في يناير 26, 2008

كنت دائما أومن بأن المدخل الطبيعي لمعالجة مشكل الإملاء العربي هو القراءة الصحيحة الموجهة. كما كنت ولا زلت أومن بأن كل تعليم صحيح ناجح لا بد فيه من الاحتذاء على مثال صالح مقبول، تماما كما يلزم الأمر عند تعلم أي حرفة أو صناعة، أو عند اكتساب أي مهارة من المهارات التي تتطلب قدرات عالية عقلية أو نفسية أو جسمانية.

فتعلم اللغة نطقا وكتابة لا يقل في شيء عن أي تدريب عضلي. وأمر القوة والتماسك فيهما معا موكول إلى طول الدربة والمراس. وإلا فإن مآلهما الى التراخي والتراجع والانكماش.

وقبل عقد من الزمان لم تكن لدينا مؤشرات كثيرة لقياس وضعية الإملاء المكتوب بالعربية، إلا من خلال تصحيح دفاتر المتعلمين وأوراق إجاباتهم في الامتحان في مراحل التعليم الأولية الابتدائية، أو عبر ما يكنب من بحوث ودراسات في المراحل المتقدمة العالية.

ولعل كل واحد منا يتذكر إشارات التصحيح الحمراء التي كانت توضع من قبل أساتذتنا على أوراقنا وإجاباتنا في كل اختبار إملائي أو نشاط تربوي مكتوب بخط اليد.

وكنا نفخر بأنفسنا قلما قلت تلك الإشارات الحمراء المنبهة من أوراقنا وكراساتنا، وكنا نفرح أكثر كلما اختفت تماما؛ فقد كان أثر المداد الأحمر بين السطور في النفوس كأثر جرح غائر لا يندمل.

وأذكر أن أساتذتنا في مرحلة التعليم الجامعي خاصة لم يكونوا يتسامحون قيد أنملة في شأن أخطاء اللغة والإملاء. بل يمكن لتلك الأخطاء التي قد تبدو في نظر البعض هينة وضئيلة أن تعصف بمجهود الطالب كله، مهما علا كعبه في الفهم والتحليل والتفكير.

أما اليوم، وبعد هذا التدفق الهائل للمعلومات عبر وسائط الاتصال الحديثة المتعددة فقد أصبح في الإمكان قياس وضعية الإملاء العربي عبر كل وسيلة استخدام تقنية تدعم اللغة العربية؛ وأيسرها وأكثرها استعمالا، على سبيل المثال، الهاتف النقال عند كتابة وتبادل الرسائل النصية.

وربما جاءت المدونات على رأس هذه الوسائل الرقمية الجديدة التي يمكن أن تؤشر بوضوح على الوضعية الحقيقية للإملاء العربي للعوامل الثلاث التالية:

- العامل الأول: مرونة وسهولة أنظمة عمل وإنشاء المدونات، بحيث لا يتطلب فتح حساب مدونة غير توفر الشخص على بريد إلكتروني عادي وعلى بضعة دقائق معدودة من مجمل فائض وقتنا العربي الضائع.

- العامل الثاني: لم يعد الارتباط بالشبكة العنكبوتية صعبا على الناس كالسابق بفضل المنافسة الشديدة بين الشركات الكبيرة التي تبيع خدمات الاتصال المعلوماتية السلكية وغير السلكية بأثمان مغرية ومشجعة.

- العامل الثالث: كثرة المواقع التي تقدم خدمة التدوين المجاني فضلا عن وسائل الدعم الفني والتقني لها مع المساعدة والتوجيه خطوة بخطوة.

وبما أن نشاط التدوين الرقمي يعتبر الأكثر استقطابا للشباب والمراهقين ممن هم في سن التعلم والتحصيل، أو ممن أتموا تكوينهم والتحقوا حديثا بالوظائف أو بصفوف المعطلين فيمكن أن نعتبر ما يفرزه هذا النشاط من كتابات عبر صفحات ومدونات تتناسل في كل يوم بسرعة كالفطر، مؤشرا إضافيا على وضعية الإملاء لدى المدونين باللغة العربية من كل الفئات بصفة عامة ومن فئة الشباب بصفة خاصة، لاسيما وأن هذه الفئة العمرية تمثل نصف المجتمع العربي من حيث التعداد السكاني.

وقد ألزمت نفسي منذ أن خضت في الحديث عن التدوين العربي منهج التعميم والحياد؛ فأنا لا أحبذ أن أشير بالأصبع إشارة مباشرة إلى أي أحد لدواعي الإنصاف واحتراما لخصوصيات جميع الناس على اختلاف أصنافهم وتوجهاتهم وأعمارهم، ويغيظنى كثيرا أن أرى ساحة التدوين العربي قد تحولت في الآونة الأخيرة إلى معترك حقيقي لتصفية الحسابات الشخصية وللمهاترات الكلامية والتحرش والتهديد والغوغائية بأساليب لغوية ركيكة تعمها الأخطاء اللغوية والإملائية من كل جانب.

وكنت أتأمل من جيل المدونين ومظة أمل مشرقة تنآى بواقعنا الافتراضي، ولو لبعض الوقت، عن الواقع العربي الحقيقي المفعم بالخلافات والصراعات البينية التي عطلت مصالحنا وأخرت نمونا، وأضعفت وازع القوة لدينا وأطمعت كل من هب ودب من المغامرين وقطاع الطرق للسطو على أرزاقنا ومدخراتنا.

وقد يطول بي الوقت إذا حاولت أن أستعرض بعض علل التدوين العربي الإملائية، حتى لا يتحول هذا الإدراج إلى درس خصوصي للتصحيح والتقويم، ولأنني أربأ بنفسي أن أكون شاهدا على جوانب الضعف والخلل، ولأنني أحبذ أكثر أن أكون شاهدا على جوانب القوة والاكتمال.

وإنما أكتفي هنا فقط بذكر ظاهرة إملائية عامة أثارت انتباهي هذه الأيام، ويتعلق الأمر بمشكل بسيط جدا؛ وهو تهجية بعض الحروف العربية المخصوصة؛ أذكر منها:

حرف الذال الذي يكتب دالا بالإهمال بدل الإعجام، وكذلك حرف الظاء الذي ينقلب ضادا وحرف الثاء المثلثة الذي ينقلب تاء مثناة، والسين إلى صاد أو العكس، والأدهى من كل هذا أن يتحول الطاء إلى تاء والذال إلى زاي والدال إلى ضاد….

هذا فقط ما يتعلق بمستوى تهجية الحروف الأبجدية في الحدود اللغوية الدنيا البسيطة فما بالنا بما فوق ذلك بقليل؛ كأن يتعلق الأمر بكتابة الألفاظ العادية والمستعصية، أو بالتحويل الصرفي، أو بإعراب أواخر الكلمات والجمل، فضلا عما فوق ذلك كله مما يرقى إلى إحكام السبك وجمال الأداء.

وقد شاءت الصدفة العجيبة أن يتوافق وقت كتابة هذا الإدراج مع برنامج ” مباشر مع ” الذي بث مساء هذا اليوم، 26 يناير كانون الثاني، على قناة الجزيرة. وقد كان ضيف البرنامج هذه المرة الأستاذ والشاعر المصري الكبير فاروق شوشة صاحب البرنامج الإذاعي المشهور ( لغتنا الجميلة ) والأمين العام لمجمع اللغة العربية بمصر.

وقد كان موضوع هذه الحلقة أيضا خاصا بوضعية اللغة العربية وبتأثير اللهجات عليها، وبدور مجامع اللغة العربية التي لم تفلح كثيرا في معالجة الاختلالات والاختلافات اللغوية العربية العالقة بين الفصحى والعامية، تماما كما لم تفلح الجامعة العربية في حل ولو خلاف واحد من الخلافات العربية العالقة أيضا في جوانبها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والتنموية…

غزة، حصار فوق الحصار

كتب في يناير 22, 2008

في مثل هذه الأيام من كانون الثاني عام 2006 احتفل الفلسطينيون بعرسهم الديموقراطي الصغير في حجمه الكبير في دلالاته، كما تحدثنا عن ذلك في إدراج سابق.

لكن، يأبى الاحتلال الصهيوني الغادر إلا أن يعبث بجميع الأوراق الفلسطينية السياسية ليعيد الوضع الفلسطيني، في كل مرة، إلى نقطة العدم والصفر، وليمحو أثر كل خطوة إيجابية نحو بناء دولة فلسطينية مستقلة، رغم كل الأيادي الممتدة إلى الكيان المتصهين بالتفاهم والصلح والتعاون.

وقد بدأ مسلسل هذا العبث الذي شاركت فيه أطراف متعددة وفي أدوار مقنعة أو مكشوفة، كما هو معروف، بحرمانها من جني ثمار النجاح السياسي المستحق السابق، ثم بعزلها ومحاصرتها في قطاع غزة، لتصبح هدفا قريبا مقصودا فيما يشبه اللعبة السادية المفضوحة لتفجير كل ما لدى الصهاينة من عقد الحقد والعنصرية.

وقد اجتمع على غزة في أيام الذكرى هذه، وقبل أن ينفض موسم الاستقبالات العربية الحارة لبوش، من كل أشكال التضييق والحصار لون وصنف؛ من حصار الداخل والخارج إلى حصار الجار والغريب، فضلا عن حصار العدو المباشر وتجاهل الصديق.

أولم يكف حكامنا إغراق غزة عدة أيام في ظلام الليل البارد الدامس بلا خبز ولا دفء ولا ماء ولا كهرباء، و حرمان المرضى طريحي الفراش في المستشفيات من بعض الشفاء المتوقف على نبض أجهزة الكهرباء !، فمتى يخرجوا من قمقمهم الذي اختبأوا فيه..!!

ثم متى تتحرك الشعوب العربية والإسلامية في خطوة عملية بدل الركون إلى الصمت والراحة؟؛ أإلى حين تشل الحياة في غزة تماما وتغرق في مجاري أوحالها ليهلك من بقي ومن نجا من نيران الاقتحام والمداهمة والقصف؟ وإلى متى يبقى العالم منخدعا بلعبة السلام وذريعة ( أمن إسرائيل) التي باتت بمثابة القطة المدللة لمعظم بلدان العالم….

فقد علمنا التاريخ أنه عندما أخذ الفرنج (الصليبيون) القدس واستولوا على جزء كبير من الشام سنة اثنتين وتسعين وأربع مائة للهجرة 492 احتاج المسلمون إلى نصر حقيقي يعيد الاعتبار لأنفسهم ولفلسطين والشام والعرب والمسلمين كافة. وهذا ما تحقق لهم بعد زهاء قرن من التهيؤ النفسي والاستعداد الحربي الذي توج بالفتح المبين والنصر المكين سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة للهجرة 583 بعد أن استفادوا من درس التعاون والوحدة.
ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى مثل هذا النصر لتصحيح المعادلة الفلسطينية، وقد كان هذا النصرمنا قاب قوسين أو أدنى في حرب تموز اللبنانية الماضية. وفي الصيف ضيعنا اللبن والغاز والبترول… !!

وقد كان وضع العرب والمسلمين قـُبيل أخذ القدس بيد الصليبين أفدح مما هو عليه حالنا اليوم أو أكثر، كما كان وقع الصدمة على النفوس اليائسة من كل إصلاح في ذلك الوقت كوقع غزة في نفوسنا اليوم لما نراه من حولنا من ترد ومن خور وضعف، رغم كل هذا الكم الهائل من الثروات والطاقات المهدورة عبثا.

وهذا الوضع العربي الجديد القديم هو ما عبر عنها واختزله الشاعر العربي أبو المظفر الإبيوردي في حينه (توفي سنة 507 هج) .

وقد عبر عن ذلك بصدق من خلال قصيدة حماسية قوية تعتبر من أهم القدسيات الشعرية القديمة قبل ظهور الشعر الفلسطيني الحديث يزمان طويل.

ونحن ندرج هنا هذه القصيدة وفي هذه الظروف العصيبة على أهل غزة، فيما يشبه الرسالة إلى كل من يعنيه الأمر، وفيما يشبه الحجة التي ستظل قائمة على جميع حكامنا المتهاونين المتخاذلين إلى أن يستفيقوا من غفلتهم وتصحح الرؤية لديهم، قال:

مزجنا دماء بالدموع السواجــم

فلم يبق منا عَرْصَة ٌ للمراجِــــــــــم

وشر سلاح المرء دمع يُفيضــه

إذا الحرب شُبت نارها بالصــــوارم

فإيهاً بني الإسلام إن وراءكــــم

وقائعَ يلحقن الذُّرا بالمَناسِــــــــــم

أتهويمةً في ظل أمن وغبطـــــة

وعيش كنُوَّار الخميلة ناعـــــــــم

وكيف تنام العين ملء جفونهـــا

على هفوات أيقظت كل نائــــــــــم

وإخوانكم بالشام يُضحِي مَقبلـُهم

ظهورَ المَذاكي أو بطونَ القَشاعم

تسومهم الروم الهوانَ وأنتــــــمُ

تجرون ذيل الخَفْض فعل المُسالــم

وكم من دماءِ قد أبيحت ومن دُمـــى

تـُواري حياءً حُسنَها بالمعاصــــم

بحيث السيوفُ البيضُ مُحمرَّة الظُّبـا

وسُمرُ العوالي دامياتُ اللَّهـــــاذم

وبين اختلاس الطعنِ والضربِ وقفة

تظل لها الولدان شِيبَ القـــــــوادم

وتلك حروبُ من يغِبْ عن غِمارهـا

لِيسلمَ يَقرعْ بعدها سِنَّ نـــــــــــادم

سللن بأيدي المُشركين قواضِبـــــــا

ستُغمد منهم في الطُّلى والجماجـم

يكاد لهن المُستَجِن بطيبــــــــــــــة

ينادي بأعلى الصوت: يا أهل هاشم

أرى أُمتي لا يُشرعون إلى العـــدا

رماحهم، والدينُ واهي الدعائــــــم

ويجتنبون النار خوفا من الـــردى

ولا يَحسبون العارَ ضَرْبــــــــة لازم

أترضى صناديدُ الأعاريب بالأذى

ويُغضي عن ذُلٍّ كماةُ الأعاجـــــــــم

فليتهم إذ لم يَذوذوا حَميَّـــــــــــــة

عن الدين ضنُّوا غيرة بالمَحــــــارم

وإن زهدوا في الأجر إذ حَمِس الوغى

فهلا أتوه رغبة في الغنائــــــــــــــم

لئن أذعنت تلك الخياشيم للبُرى

فلا عَطـَسوا إلا بأجْــدَعَ راغِــــــم

دعوناكم والحرب ترْنو مُلِــحة

إلينا بألحاظ النسور القـَشاعـِـــــم

تراقب فينا غارة عربيــــــــــة

تـُطيل عليها الروم عَض الأباهـم

فإن أنتم لم تغصبوا بعد هــــذه

رمينا إلى أعدائنا بالجرائـِـــــــــم

—–
هامش:
توجد هذه القصيدة في كثير من المصادر التاريخية التي أرخت لحدث احتلال بيت المقدس في العهد الصليبي لقوة هذه القصيدة في التعبير عن هذا الحدث المشؤوم مع بعض الاختلافات اليسيرة في ترتيب الأبيات وفي ضبط الكلمات، كما توجد في ديوان الإبيوردي نفسه، وعنه نقلنا، بتحقيق الدكتور عمر الأسعد، الجزء الثاني الخاص ببقية العراقيات والنجديات، مطبعة زيد بن ثابت 1975م.

واسم الشاعر كاملا: أبو المظفر محمد بن أحمد بن إسحاق المشهور بالإبيوردي، والملقب عند البعض بالمتنبي الصغير. توفي سنة 507هج.

كوكل في خدمة التدوين باللغة العربية

كتب في يناير 19, 2008

أخيرا وبعد انتظار طويل، تحقق الأمل الذي انتظره المدونون العرب من كوكل لدعم اللغة العربية. وهذا ما اكتشفته كغيري منذ يومين فقط قبل كتابة هذا الإدراج. حيث أصبح في الإمكان تغيير واجهة البلوغر التابع لكوكل، لتصبح اللغة العربية،لأول مرة، من الخيارات الأساسية المتوافقة المتاحة للتدوين على هذا الموقع المشهورعالميا.

ومع أن صلتي بالبلوغر قديمة قدم عهدي بالتدوين و ببريد كوكل في سياق قصة طريفة كنت قد أفردت لها إدراجا خاصا، وكنت قد حجزت كغيري ممن يحبون تجربة الكتابة في المواقع المجانية، عنوانا لمدونتي (كلمات عابرة) على هذا الموقع، وسجلت اسم مدونتي في بعض تجمعات التدوين العربي بعنوان البلوغر أعلاه غير أنني لم أكن مقتنعا في أي وقت مضى بنتيجة هذه التجربة.

وكان يغيظني كثيرا أن أرى نص الإدراج العربي يسير في غير اتجاهه الصحيح على هذا الموقع، بالإضافة إلى ما يتبع ذلك من هروب لعلامات الترقيم كالفواصل والنقط وعلامات الاستفهام والتعجب إلى بداية السطر بدل أن تستقر عند نهايته.

ومع الأسف فإن كثيرا من المدونين باللغة العربية على المواقع التي لا تدعم اللغة العربية بشكل كامل لا يعبأون لهذا الأمر، فتبدو مدوناتهم بسبب ذلك كمن يسير بالمقلوب، ومفتقدة لمعظم جماليات تنسيق الحرف العربي في ترتيب الجمل وفي نظام الفقرات.

ومع أن كثيرا من المدونين العرب المتمرسين قد تغلبوا على مشاكل العرض والتنسيق على بلوغر عن طريق استيراد بعض القوالب والبرمجيات الداعمة، غير أن هذه الإمكانية لم تكن متاحة للجميع، لما يتطلبه ذلك من جهد خاص، ومن تعديلات ومن خبرات تقنية عالية بلغات البرمجة التي يفتقر إليها كثير من المدونين، أو ربما لمجرد تعود معظمهم على استعمال القوالب والتنسيقات الجاهزة.

ومن المتوقع أن يعود كثير من المدونين العرب الذين جربوا البلوغر من قبل وتحولوا عنه للأسباب التي ذكرتها إلى هذا الموقع مرة أخرى بعد أن تحقق مرادهم، وأصبح متطابقا مع معايير الكتابة باللغة العربية بشكل شبه كامل.

ومن المتوقع أيضا أن ترتفع وتيرة التدوين على البلوغر بين المدونين العرب الجدد عندما يكتشفون مميزاته الكثيرة، ويشعرون أنهم يتحركون بانطلاق في مساحته الحرة الخالية من الإشهار، وهذا ما لا يتوفر مع الأسف في بعض المواقع العربية التي لا تقدم خدمة التدوين المجاني إلافي ظل كثير من الشروط والإكراهات المجحفة المقيدة لحركة المدون ومناوراته بحجة الأمن والخوف من الاختراق ومراقبة السلطة وهلم عذرا..
وحتى إذا ما توفرت بعض المواقع العربية على بعض المميزات التفضيلية فنادرا ما تخلو من الوصلات الإشهارية التي تشوش على تفكير المدون وتعمل على تشتيت انتباه المتصفحين والزوار.

طقوس عاشوراء من الاحتفال إلى التسول

كتب في يناير 17, 2008

تصاحب أيام عاشوراء المغربية بدء من فاتح محرم إلى العاشر منه طقوس كثيرة، وقد سبق لنا أن تناولنا بعضها في إدراجات سابقة.

والغريب والمدهش في هذه الطقوس هو اجتماع عنصري النار والماء، رغم أنهما يتناقضان لغويا كما يستحيل الجمع بينهما في الحقيقة والواقع؛ ففي ليلة عاشوراء توقد النيران الضخمة التي تسمى عند المغاربة ب (الشعالة) ليتحلق حولها الأطفال مبتهجين بالشرر المتطاير في عنان السماء وبمشهد النار وهي تلتهم ما جمعوه خلال عشرة أيام من أكوام الحطب، وفي يوم عاشوراء الموالي يأتي الدور على الكبار لممارسة طقوس التراشق بالماء(زمزم) ولتمتلأ الشوارع والأزقة بالماء المهراق.

وتردد في أيام عاشوراء أهازيج شعبية لا يعرف مغزاها الحقيقي الأول لبعد المسافة الزمنية بيننا وبين بواعثها الأولى. ومن هنا منشأ اختلاف الدارسين والباحثين حول دلالاتها الخاصة والعامة.

وربما اختلطت في العقائد العيشورية المغربية ما نسجه المخيال الشعبي المغربي على فترات متباعدة في الزمن حول معجزة النبي إبراهيم عليه السلام عندما أحرقه قومه بالنار ونجاه الله منها، ثم تعمق ذلك بما تكون لدى المغاربة من وجدان عاطفي تجاه قصة مقتل الإمام الحسين (1) في كربلاء لتكون هذه الاحتفالات مزيجا غامضا من الفرح والحزن، دون أن ننسى طقوس العبادة من زكاة وصوم، وطقوس الأكل حيث الإقبال على تناول الفاكهة اليابسة، أو ما يعبر عنه المغاربة في لسانهم الدارج ب(الفاكية).

كما يمكن أن نضيف إلى هذا المزيج بعض عقائد اليهود الذين سكنوا المغرب منذ القدم، وخاصة في الجانب التجاري والاقتصادي المصاحب لهذه الطقوس فيما يعرف عند التجار بيوم ( الهبا والربا )، فربما عمدوا إلى تخفيض الثمن أو إلى إغلاق محالهم التجارية في اليوم الموالي لعاشوراء.

ومع أن هذه الطقوس قد بدأت تأخذ طريقها نحو الاندثار وتكاد تفرغ من كل مدلولاتها الرمزية، ومن كل حرارتها الحميمية الشعبية بسبب تغير نمط العيش وتغير بنية المجتمع المغربي من الداخل بسبب الانفتاح والعولمة، إلا أنه مع الأسف بدأت تظهر طقوس جديدة تبعث على القلق والحرج، ولعل أبرزها ظاهرة التسول الجماعي للأطفال في أيام عاشوراء، حيث يتعرضون للناس وهم ينقرون الدفوف الصغيرة ( التعارج ) متضرعين متسولين كالمحترفين الكبار في الشوارع والأزقة ولدى مداخل المحال التجارية والبيوت، وحتى عند إشارات الوقوف الضوئية.

———
إدراجات ذات صلة:
عاشوراء المغربية
(1) على هامش عاشوراء

عندما يرقص بوش سيفا

كتب يوم يناير 16, 2008

من يتابع زيارة بوش الأخيرة إلى عواصم الشرق الأوسط والخليج يدرك أنها أشبه ما تكون برحلة وداع أخيرة قبل أن يحزم حقائبه ويشد الرحال إلى وجهة مجهولة للراحة والاستجمام، على عادة رؤساء البيت الأبيض المشؤوم في واشنطن بعد انتهاء مدة صلاحية حكمهم.

وربما يحاول بوش في آخر مشواره السياسي وبمشاهد الحفاوة والاحتضان المبالغ فيه وبالقبل وبالرقص على إيقاع الأهازيج الخليجية والتلويح بالسيف الطويل اللامع ذهبا وبذخا وترفا أن يعطي الانطباع لأصدقائه وأعدائه بأنه قد أنجز مهمته المستحيلة، تماما كما ينتهي ممثلو هوليود الأشاوس الشجعان من تصويرهم لآخر مشاهد بطولاتهم الحربية الدموية المدمرة بعد أن يقضوا على كل الأعداء والأشرار ويدمروا ويحرقوا كل شيء يعترض طريقهم، ليعودوا إلى قواعدهم سالمين غانمين، دون أن يتطرق إلى نفوسهم الكلل والملل أو يصيب عضلاتهم المفتولة البارزة أدنى خدش أو وهن ليتفرغوا بعد ذلك إلى الرقص واحتساء الكأس ومراودة النساء.

وكالعادة فقد بدأ بوش زيارته بالحج إلى الركن المفضل لديه من إسرائيل المتصهينة مركز اهتمامه الأول حيث قدم طقوس الولاء و العبادة والتبتل، قبل أن يكمل جولته الختامية الاستعراضية الثانوية ويتنقل بين عواصمها العربية من باب تأثيث المشهد العام ومن قبيل الديكور والإكسسوارلا أقل ولا أكثر،لأن حبه الأول والأخير لإسرائيل ثابت لا يمكن أن يتحول، على غرار قول شاعرنا الكبير أبي تمام من غير إضافة أو تعليق:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزلا في الأرض يألفه الفتى
وحنينه دوما لأول منــزل

حقا، إنه لمن المخجل في حق تاريخ الشعب العربي الحديث أن يستقبل حكامنا طاغية هذا القرن بوش بالرقص والتهليل، وأن يتورطوا وحدانا وزرافات في هذا الاحتفاء المبكي والمخجل، أو بالأحرى أن يكونوا مجبرين على توديعه، من غير حول ولا إرادة، بهذه الحرارة المفرطة إلى مثواه الأخير من حياته وبقية عمره، بعد أن يخلد إلى الراحة ويعتزل السياسة.
وتلك دماء الشعب العراقي والفلسطيني واللبناني المهدور لم تجف بعد، وشهداء غزة يتساقطون في كل يوم بالجملة عبثا كأوراق الخريف، وتلك آثار العدوان الأمريكي الصهيوني المشترك في الأهداف والوسائل شاهدة في أكثر من مكان عربي على عمق المأساة الكبيرة التي حلت بالشعب العربي في هذا القرن من المحيط إلى الخليج. وستبقى آثارها في العقل والوجدان مستمرة تتوارها أجيالنا المقبلة كما ورثنا نحن أثار النكسة تلو النكسة وتجرعنا حتى الثمالة كل كؤوس الوهم والخيبة.

فكيف تسنى لهؤلاء الحكام الجبابرة على شعوبهم فقط أن يطووا بهذه السهولة صفحات طويلة عريضة من جرائم بوش دون أن يتحرك فيهم أدنى حس أو يرف لهم رمش..!!
ثم وبعد كل هذا وذاك، ليقنعهم في النهاية أن عدوهم الوحيد المتبقي أمامهم بعد صدام هو إيران، وأن عليهم فقط أن يضخوا مزيدا من النفط في خرطوم الاستنزاف والشفط..!!

فأي خطر إذن ينتظر الشعوب العربية في المستقبل القريب، بعد أن امتدت أيادي حكامنا المتنفذين بالجاه وبعائدات البترول وبصكوك المسامحة والغفران إلى بوش بالتسليم والتهنئة والشكر مع إتحافه بأغلى الهدايا التي لا يمكن أن تكون إلا من حبيب لحبيب…!!

فقد أثبتت الدلائل والقرائن أن كل يوم امتدت فيه اليد اليمنى لحكامنا إلى العدو الصهيوني والأمريكي بالسلام والمصافحة إلا وجاء الرد السريع من يده اليسرى بالقصف والضرب والغدر والخيانة.

فمتى يتعلم حكامنا العرب من دروس المصافحات المخادعة وغدر الابتسامات الماكرة… ( السْنْ يـْضْحكْ للسْنْ والقلب فيه خديعة)، كما نقول في لساننا المغربي الدارج !!

التدوين العربي بين الصحافة والإعلام

كتب في يناير 15, 2008

كان توجه الكتاب العرب نحو الصحافة خلال القرن الماضي، بل ومنذ فجر النهضة العربية قبيل نهاية القرن التاسع عشر، أكبر فرصة مبكرة أتيحت لهم لإثبات الذات والشهرة.

وقد ارتبطت أسماء كثير من رواد الأدب والشعر والقصة والمسرح والسياسة في ذلك الزمن بالعمل الصحفي والإعلامي والاحتكاك به في القرب أو البعد، لما للصحافة من انتشار كبير في أوساط القراء على اختلاف مستوياتهم واهتماماتهم وأذواقهم.

وكانت متابعة الصحف والجرائد العتيدة في ذلك الوقت، كما اليوم فيما يعبر عنه ب (السبق الصحافي)، تسمح بالاطلاع على بواكير أعمال كبار الكتاب والأدباء والشعراء قبل أن يجمعها أصحابها أو المهتمون بها ويخرجوها مرة تلو أخرى في طبعات أنيقة منقحة كلما نفدت أعدادها السابقة من سوق القراءة.

وكلنا نعلم أيضا أن عشاق عميد الأدب المرحوم طه حسين المعاصرين له قد استمتعوا بأحاديثه الأدبية الشيقة عبر المذياع قبل أن تطبع في كتاب مشهور مستقل تحت عنوان ( حديث الأربعاء).

ونفس الأمر ينطبق على محبي شعر محمود درويش الذين يروق لهم أن يستمتعوا بتسجيلاته الصوتية، أوبطريقة إنشاده في الملتقيات الأدبية الدافئة التي تلهب حماسهم ومشاعرهم ليسارعوا، بمزيد من الوعي وربما حتى من غير شعور وبسبب الحماسة الزائدة، إلى اقتناء نسخة واحدة أو أكثر من دواوينه المطبوعة.

ولا زالت الصحافة المكتوبة ووسائل الإعلام السمعية والبصرية التي تطورت كثيرا في أيامنا هذه، تقوم بنفس الأدوار السابقة من حيث الترويج والتسويق للكتب والأعمال والأبحاث والمخترعات والأسماء والشخصيات والمشاهير والنجوم في مجال الفن والدراما والرياضة والطبخ والتجميل والغناء والرقص والخلاعة والتنجيم والشعودة وطب الأعشاب فضلا عن الدعاة من الشيوخ التقليديين ذوي العمائم والوجوه المتجهمة القاسية والدعاة الجدد من الشباب والكهول أصحاب البدل الأنيقة والوجوه البشوشة المبتسمة.

ومن هذا المنطلق الذي شرحناه يمكن أيضا أن نفهم سر التقارب المتزايد بين التدوين والصحافة في الآونة الأخيرة. وهو تقارب يمكن أن نرصده من جهتين:

من جهة تزايد إقبال منابر الإعلام المختلفة على متابعة حركة التدوين العربي والتعريف بها وملاحقة قضاياها السياسية والحقوقية والأخلاقية.

ومن جهة التحاق كثير من المدونين للكتابة ببعض الجرائد الورقية أو الإلكترونية؛ بل إن من المدونين من تخلى عن مدونته الأولى لينشئ بمجهوده الخاص أو بمجهود مشترك مجلة ورقية أو إلكترونية مستقلة.

وهذا في نفس الوقت الذي يزداد فيه تكتل عمل كثير من المدونين في حركات أو تجمعات أو هيئات للم جهود المدونين العرب المشتتة، كما الواقع العربي العام. وقد بدأت صيحاتهم تتعالى أكثر من أي وقت سابق من أجل صيانة عمل التدوين من الانزلاق والتردي في مهاوي السخافة والابتذال بوضع قوانين تنظيمية تحدد حقوق المدونين وواجباتهم وصياغة مواثيق شرف أو عمل أشبه ما تكون بدفتر تحملات الخاص بالشركات والمقاولات.
وتدل كل هذه المساعي في صفوف كثير من المدونين المناضلين على ازدياد الوعي بقيمة العمل التدويني الجاد الملتزم الذي يجدر به هو الآخر أن يحظى بالاعتراف وبالمكانة التي ينبغي أن تليق به في نظر الرأي الخاص والعام، وفي نظر وسائل الإعلام التي قد لا يهمها من التدوين إلا الشق السياسي والأخلاقي الذي قد يتحول إلى نزاع قانوني بين المدون والسلطة إذا ما تجاوز الخطوط السياسية الحمراء المرسومة، أو إلى خلاف بين المدون والمجتمع إذا ما تعلق الأمر بخدش الحياء العام أو التشهير أو التحريض على الفتنة والغواية.

ولكن، ينبغي أن لا ننسى، في هذا السياق، أن معظم المدونين القدامى والجدد قد قدموا إلى عوالم التدوين بمبادرة شخصية حرة وربما بمحض الصدفة.

ومن ثمة، فإن المدون يبقى هو الوحيد المسؤول عن مدونته وهو الوحيد الذي يملك حق التصرف في مسارها ومآلها؛ فله أن يدرج فيها ما شاء ومتى شاء في حدود المقبول والمعقول، وله أن يتخلى عنها متى شاء أو يحذف منها ما شاء.

والمدونة بالنسبة للمدون، وفي نظري الخاص كما أوضحت ذلك في عدة مناسبات، مشروع تنقيبي مفتوح على الدوام في دواخل نفسية المدون وذهنيته ولواعجه، ولذلك فأنا أفضل أن تبقى المدونة نابضة بحس صاحبها ودالة على تطور منحاه الفكري ووجدانه الداخلي تجاه الواقع القريب المحيط به وتجاه العالم بدل أن تتحول إلى معرض خارجي للصور أو نشرة يومية عادية للأخبار والأحداث، أو سردا للطرائف والمسليات والتوافه المثيرة التي تبقى مع الأسف هي الشغل الشاغل لمعظم العرب الذين يرتادون العوالم الافتراضية، كما تدل على ذلك مدخلات الكلمات العربية لمحرك كوكل العملاق.

ومع الأسف فأنا أقرا كثيرا من المدونات العربية ولا أجد فيها آثارا واضحة تدل على شخصية أصحابها إذا ما استثنينا جهد التوضيب والتنسيق.
ورغم التنامي المتصاعد لمدونات الأخبار والمنوعات التي تتصيد موادها من قناتي العربية أو الجزيرة ومن وكالات الأنباء المحلية والدولية، أو حتى من بعض جرائد الرصيف التي تنشر كل ما هب ودب من القصاصات وأخبار السوق والحواري فهي تبقى في الحد الأدنى نوعا من التطفل على موائد الصحف والجرائد الصفراء الرخيصة وفي الحد الأقصى نسخة باهتة لبعض المنابر الورقية أو الإلكترونية المتميزة.

ولو كان في وسع كل من يملك حسابا بريديا عاديا أن ينشئ مدونة لتضاعف عدد المدونات العربية مرتين أو أكثر، وهذا ما قد يجعل من أحكامنا على التدوين العربي حتى اليوم مجرد انطباعات وأفكار واقتراحات أولية في انتظار أن يكتمل النصاب العام.

عندما يعود مجرى الوادي إلى سابق عهده

كتب في يناير 12, 2008

لم يتم تأسيس كبريات مدن المغرب بجوار الأنهار والوديان عبثا، وإنما ليصبح نسيج الحياة فيها مكتملا بما يوفره شريان الوادي الطبيعي من خير يشبع البطون ويروي الظمأ، ومن حسن يبهج النفس ويشرح الصدر.

أذكر إلى عهد قريب عندما كنت في سن الطفولة أن الوديان التي تخترق كبريات مدن المغرب أو تمر بجوارها كانت في حالة جيدة من الامتلاء والنقاء، بحيث كانت تفتح شهية الناس للخروج إلى جنباتها المخضرة لقضاء أمتع أيام الربيع، أما في الصيف فتصبح خلجان تلك الأودية ملاذ أطفال وشبان الطبقة الشعبية لإظهار مواهبهم في فن الغطس والعوم عندما تعوزهم الوسائل الضرورية لارتياد الشواطئ والمصطافات.

أما اليوم فقد أصبح مجرد المرور العابر بقرب هذه الوديان خطرا في حد ذاته يضيق له جهاز التنفس ذرعا كما الخاطر بسبب الروائح الكريهة المنبعثة من البرك الآسنة التي قد يبعث منظرها على التقزز والغثيان، بالإضافة إلى ما تنشره من أمراض وأوبئة في التجمعات السكنية المجاورة التي يقوم جزء كبير من نشاطها على الفلاحة المسقية بالوادي الحار وتربية الدواجن والماشية التي تقتات من الفضلات والأزبال.

ولعل زوار مراكش قد لاحظوا أن مجرى وادي إسيل الذي يخترق مدينة مراكش في جزء كبير منها قد تغير منظره هذا العام، بعد أن تم حصر معظم المياه المستعملة والنفايات السائلة والصلبة لهذه المدينة السياحية في مركز خاص للمعالجة بعيدا عن مجرى الوادي.

إن هذه الخطوة المهمة في تدبير ومعالجة النفايات الحضرية دون الاعتماد في تصريفها على مجرى وادي إيسيل جعلت هذا الوادي يستعيد كثيرا من بهائه ورونقه وخاصة بعد أن ارتفع منسوبه بفضل أمطار الخير التي عرفها المغرب مؤخرا.

ولأول مرة، ومنذ قدومي الأول إلى مراكش للوظيفة والعمل، أحسست أن هذا الوادي قد تنفس مثلي ومثل جميع المواطنين العاديين الصعداء بعد أن تخفف كثيرا من الروائح الكريهة وعبء حمل أطنان المقذوفات البشرية والصناعية لهذه المدينة السياحية الفاتنة قبل أن تتوارى في البحر أو في جوف الأرض.

ولو تواصلت أمطار الخير وارتفع منسوب المياه أكثر لتمكن هذا الوادي من تنقية نفسه بنفسه بعد جرف كل الأكياس البلاستيكية وكل نفايات الأتربة ومخلفات البناء العالقة بين ضفتيه، كما تظهر الصور التي التقطتها حديثا بالهاتف المحمول.




ساركوزي ومـُعترك اللغة

كتب في يناير 10، 2008

أعلن الرئيس الفرنسي في تصريح متلفز البارحة، وبملء شدقيه، أن حكومته غير مستعدة للإنفاق على قنوات تنطلق من بلاده ولا تنطق بالفرنسية، في إشارة منه إلى قناة 24 الفرنسية الدولية في نسختها الإنكليزية فضلا عن العربية.

وقد ترك هذا التصريح استياء كبيرا في صفوف هيئة التحرير والمذيعين وكل الموظفين الأجانب الملحقيين للعمل بالقسمين: الإنكليزي والعربي لهذه القناة، بعد الجهود الكبيرة التي بذلوها في التدريب والإعداد والتوضيب والدبلجة منذ انطلاق بثها حتى اليوم.

ومهما كانت الآثار المترتبة عن هذا القرار مما قد يدفع إلى فتح جبهة جديدة لمعركة لغوية مرتقبة بين الفرنسيين والإنجليز، ومهما كانت الدوافع الشخصية التي جعلت ساركوزي يقدم بدون تردد على الجهر بهذا التصريح في وجه الإنجليز، فيما يشبه الصفعة المباشرة بكل ما أوتي من رباطة جأش وشجاعة لغوية، فإن هذا الموقف بالذات يصلح أن يكون درسا لحكومتنا في المغرب خاصة وفي العالم العربي عامة لفهم أبعاد وكنه المواطنة اللغوية الحقيقية الممتدة في عمق التاريخ التي لا يمكن أن تقل في شيء عن المواطنة الجغرافية المتجذرة في عمق التراب والصخر أيضا.

ومهما بلغت درجة اعتماد حكومتنا الرشيدة للغة شكسبير أو فولتير في تدبير الشأن المغربي الخاص والعام، ومهما بلغ إتقان النخبة المغربية المثقفة للغة الفرنسية التي تتصدر معظم الكراسي وتحوز أغلب المناصب، فإن ذلك يبقى مجرد ترف لغوي في انتظار أن يستوعب الجميع درس ساركوزي هذا ويعودوا إلى جادتهم اللغوية أسوة بجميع الأمم التي تعي ذاتها وتحترم كيانها.

ومما لا شك فيه أن هذا الموقف سيعيد لساركوزي كثيرا من ألقه في نظر الفرنسيين الذين أحبوه وانتخبوه، وكثيرا من الدفء إلى وجدانهم في هذه الأيام الباردة بسبب الصقيع، وقد يعيد إليه الجزء الأعظم الذي افتقده من شعبيته بسبب نزوعه الشخصي الخاص في الحياة وغرامياته وبعض تحركاته المشبوهة.
————
إدراجات ذات صلة:
ساركوزي والنزعة البوشية
وداعا بوش … أهلا بروحه وبساركوزي

الهجرة النبوية وسياق التحولات الكبرى

كتب في يناير 8, 2008

كانت الهجرة النبوية الشريفة بداية حركة نوعية في تحديد مفهوم الزمن الخاص بالمسلمين، ليعوا حقيقة وجودهم وكيانهم حيثما وجدوا.

وهذه الهجرة، وإن تراوحت في مداها الزمني القصير بين مكة والمدينة، وبينهما مسافة قريبة، إلا أنها قد استوعبت في طياتها كل المقومات الضرورية لنهضة أمة كاملة على أرض راسخة صُلبة…
ولأهمية درس الهجرة هذا فقد جعل هو المبتدأ والمنتهى بالنسبة لتاريخ المسلمين كافة.

وحدث الهجرة العظيم هذا، وإن كان قد بني على حركة الرسول الكريم في زمن ومكان معينين مخصوصين، فهو في الحقيقة يتسع لكل زمان ومكان ليظل مفعوله ساريا أبد الآبدين.
ولذلك لم يبن حدث الهجرة على تاريخ ميلاده الشريف ولا حتى على تاريخ بدء تلقيه لأول آية من آيات القرآن المبين، على عظيم قدر القرآن وعلو شأنه في تشكيل كيان أمة الإسلام خاصة والحياة الإنسانية كافة.

وأنا هنا، في هذه الفسحة الافتراضية وبهذه المناسبة المجيدة، لا أريد أن أتقمص دور الخطيب الواعظ أو المؤرخ العارف بالسير والمدقق لأحداث التاريخ وتطوراته، وإنما أكتفي فقط بتقديم خلاصة عامة مرتبطة بدرس الهجرة وما قد يتولد عنه من دلالات كبرى في تاريخ المسلمين.

فالملمح الأول المُستفاد من درس الهجرة أن خروج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مهاجرا في سبيل الله وإعلاء صوت الحق كان مدعاة لجلب النصر والتأييد ولصناعة حياة إنسانية مدنية جديدة جديرة بالاحترام.

ومن هنا، يمكن أن نعتبر كل التحولات الكبرى في تاريخ المسلمين، وكل اللحظات المشرقة التي سجلت بمداد الفخر والعزة والكرامة نظائر للهجرة النبوية وامتدادات أخرى لها في الزمان والمكان.

وفي هذا السياق، يمكن أن ندرج خروج الأمويين إلى الشام وبناءهم لحاضرة دمشق، وخروج العباسيين إلى العراق وتأسيسهم لبغداد العظيمة عل سبيل المثال.

وما يجري على بغداد ودمشق يجري أيضا على الفسطاط في أرض الكنانة وعلى القيروان وعلى بجاية وفاس ومراكش وإشبيلية وقرطبة وأصفهان وبخارى وطشقند وإسطنبول وغير ذلك من حواضر الإسلام الكثيرة الممتدة شرقا وغربا.

فأي امتداد للمسلمين في المكان والزمان، وأي نصر أحرزوه، وأي حق استرجعوه، وأي علم نشروه، وأي ابتكار حققوه ما هو في العمق إلا شكل من أشكال الهجرة النبوية الأولى، وأثر من آثار تحولاتها الكبرى.

وربما لهذا السبب لم يجد المؤرخ والكاتب المشهور عماد الدين الأصفهاني في مقدمة كتابه ( الفتح القـُسِّي في الفتح القـُدسِّي ) الذي أرخ فيه لحدث فتح القدس سنة 583 هجرية وما تلاه من أحداث إلى حدود وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي قائد هذا الفتح العظيم سنة 589 هجرية أي ما نع لاعتبار تاريخ الفتح هذا هجرة ثانية بعد الهجرة النبوية الأولى كما عبر عن ذلك بأسلوبه البلاغي العجيب في مقدمة كتابه هذا.

أما اليوم، فقد تراجع دور القادة والزعماء العرب والمسلمين ليس فقط عن صناعة حالة واحدة من حالات الهجرة الكثيرة إلى الديموقراطية وإلى العلم والحداثة والعدالة الاجتماعية، بل حتى عن استعادة ألق حدث الهجرة النبوية الشريفة في نظر العالم وفي نظر شعوبهم على الأقل عبر وسائل التواصل والإعلام.

فكيف يعقل، بعد الذي استوعبناه من درس الهجرة أن يبقى مجرد حدث يومي بسيط يمر علينا مرور الكرام.؟؟
فما أبعد الفرق، في حياتنا العربية والإسلامية، بين مرور اليوم الأول من كل سنة هجرية الذي نستقبله في صمت واليوم الأول من كل سنة ميلادية الذي نحتضنه بكل ما أتيح لنا من صخب وهرج ومرج وإنفاق وتبذير.
ثم كيف سيكون واقع حالنا في السنة المقبلة إذا ما تصادف بدء التقويمين معا في يوم واحد ..؟!.

والأدهى من كل هذا أن حكامنا وأولياء أمورنا في السياسة الداخلية والخارجية قد صاروا أعجز من أي وقت مضى عن من منع حركة الهجرة المعاكسة لكثير من الأدمغة والعقول العربية والإسلامية التي يجذبها وهج الجاه والمال في الضفة الأخرى خلف البحر المتوسط والأطلسي والهادي ليكونوا شهداء على خراب بيوتهم بأيديهم ومتورطين حتى النخاع في مشهد الاستنزاف العام الذي تجاوز الدم العراقي والفلسطيني إلى مدخرات الغاز والبترول والمال العام وإلى ما هو أغلى من هذا وذاك.
فكل عام هجري وأنتم وأمتنا بألف خير.
————-
إدراجات ذات صلة:
حقيقة التقويمين: الهجري والميلادي

التدوين المغربي بين الفصحى والعامية

كتب في يناير 1, 2008

إذا سلمنا بأن القسم الأكبر من المدونين المغاربة يكتبون باللغات الأجنبية وخاصة الفرنسية فإن القسم القليل المتبقي يتوزع بين الفصحى والعامية، دون إغفال اللهجات الأمازيغية التي قد يكتبها بعض المدونين بحروف عربية أو لاتينية، أو قد يكتبها البعض الآخر بحروف (تيفناغ ) التي اعتمدها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، سواء بالنسبة للهجة (تاريفيت) في شمال المغرب، أو (تامازيغت) بالنسبة لوسطه أو( تاشلحيت) بالنسبة لجنوبه، وحتى (الحسانية) بالنسبة لأقصى جنوبه الصحراوي .

إن هذا التعدد الثقافي واللغوي في مشهد التدوين المغربي ظاهرة طبيعية وصحية تجد تفسيرها العميق في التعدد الجغرافي والمناخي الذي ينعكس على سحنة المغاربة وعلى لون بشرتهم، ويؤثر بشكل كبير في لكنتهم وحتى في عاداتهم وطباعهم وأمزجتهم.

ولكن، لا أحد في هذا البلد يملك أن يزيح فسيفساء واحدة من هذا المشهد اللغوي المتنوع إلا إذا كان في وسعه، وأنى له ذلك، أن يزيل من خريطة المغرب سهله أو بحره أو رمله، أو يزحزح بجرة قلم أو كبسة زر جبلا واحدا من جباله الشامخة الممتدة إلى الأزل عبر السلاسل الريفية أو الأطلسية.

ومهما علت أصوات بعض الغلاة من أصحاب النزعات اللغوية واللهجوية الانفصالية والإقصائية عبر هذه الجريدة أو تلك، أو عبر هذا الموقع أو ذاك فإن ذلك لن يستطيع أن يغير من حقيقة هذا المشهد شيئا.

ومنذ أن من الله على المغرب بنعمة الإسلام أصبحت اللغة العربية الفصحى أحد المعالم الكبرى المحددة لكيان المغاربة، مثلهم مثل باقي الشعوب العربية والإسلامية الأخرى، وقيمة مضافة إلى جانب ما قد يتقنوه بامتياز من لهجات محلية، أو لغات أجنبية.

والذي يقرأ تراث المغرب الغني في جوانب العلم والفلسفة والتاريخ والأدب والعمران يدرك مدى أهمية اللغة العربية في تشكيل وعي ووجدان المغاربة الجمعي، وفي التعبيرالقوي الفعال عن حقيقة كيان المغاربة قاطبة، بغض النظر عن سلالاتهم وانتماءاتهم القبلية أو الجغرافية المتنوعة بين سهل وجبل، وبر وبحر، وخصب وجدب.

ويدرك أيضا حقيقة الأدوار الكبرى المتبادلة بين مختلف شرائح وأطياف المغرب في صناعة الحضارة المغربية على أكمل وجه من وجوه التضامن والالتحام، وهذا طبعا بغض النظر عن اختلاف ألوان البشرة وتعدد الللهجات واللكنات أيضا.

وقد يكفي هنا كدليل، أن نستحضر اللحظة المشرقة من حكم الموحدين (خلال القرنين السادس والسابع الهجريين)؛ فقد انصهر في الحضارة الموحدية مجهود العرب الوافدين من الشرق والأندلسيين والمغاربة المحليين ذوي اللسانين: العربي والأمازيغي دفعة واحدة.

ومع أن الأمازيغية لم تكن مكتوبة خلال العهد الموحدي، كما كان حال اللغة العربية الفصحى، غير أنهم كانوا يأمرون بترجمة رسائلهم وخطبهم شفهيا إلى الأمازيغية.

وهذا ما عبر عنه بعض المؤرخين آنذاك بعبارة ( قال فلان أو خطب فلان باللسان الغـَربي ) يقصدون بذلك اللسان الأمازيغي وليس الأوروبي كما هو في المفهوم السائد في وقتنا الحالي لكلمة (الغرب).

ومع أن التداول الشفوي للآداب والفنون الشعبية (اللهجوية) المحلية من الزجل والملحون والموشح قد بلغ مداه خلال العصر الموحدي أيضا غير أن حظ المكتوب منها بقي في حكم العدم. وقد اعتذر عبد الواحد المراكشي في كتابه التاريخي المشهور ( المُعجب) عن إيراد أي نموذج من فن الزجل أو الملحون بحجة أن العادة لم تجر في عهده إلا بتدوين ما هو عربي فصيح.

ونحن في هذا الإدراج لسنا بصد الدفاع عن اللغة العربية أو التحيز لها ضد أي استعمال لغوي أجنبي أو لهجوي محلي؛ لأن اللغة العربية تحمل في داخلها مقومات لا حصر لها للبقاء والتعايش والاستمرار مهما يمكن أن يتراكم عليها من غبار أو يعلوها من صدأ.

وإنما نريد فقط أن ننبه إلى ما يمكن أن تشهده اللغة العربية من تراجع بسبب ما يعرفه المشهد الإعلامي السمعي والبصري والتدويني داخل بلد المغرب خاصة وفي الأوطان العربية كافة، من ميل متزايد إلى تغليب اللهجة والأسلوب المحلي الدارج.

كما أن ضعف التعبير باللغة العربية الفصحى أصبح ظاهرة عامة مقلقة ومحرجة في صفوف التلاميذ وحتى لدى طلبة الجامعة المنتسبين إلى تخصص اللغة العربية وآدابها فضلا عن من دونهم، بسبب التساهل المفرط في قواعد اللغة العربية من نحو وصرف وإملاء، فضلا عن سيادة ثقافة التسطيح والبذاءة عبر كثير من الصحف والجرائد ومئات من القنوات الفضائية العربية الترفيهية التي تبث عبر مدار الساعة أطنانا من رسائل ( التشات) التافهة الركيكة التي تنحت في جوانب الفصحى دون أن تنفذ إلى عمقها كما ينحت السيل في الصخر.

وليت المشكل بقي محصورا في أمر تراجع استعمال اللغة العربية الفصحى بين المدونين العرب خاصة ومستعمليها عامة أمام البدائل الكثيرة المتاحة أمامهم، وإنما سيتعداه إلى تراجع مماثل في التواصل بين المواطنين العرب داخل البلد العربي الواحد، وبين البلدان العربية كافة، عندما سنحتاج في يوم من الأيام إلى سفير أو ترجمان عند حلولنا بهذه المدينة المغربية أو تلك أو بهذا البلد العربي أو ذاك.

فاللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم ستبقى، في الحدود الدنيا لمطامحنا، أهم ضامن لوحدة الشعوب العربية من محيطها إلى خليجها، وخاصة عندما يفقد الأمل في حكامنا وساساتنا ومن آل إليه تدبير شؤوننا في الحال والمآل للم شعث هذه الأمة.

عود على بدء، مرة ثالثة


كتب في ديسمبر 30, 2007

بعد ساعات معدودة ستطوى صفحة أخرى من سنوات عمرنا. أعاد الله علينا سائر الأيام والأعوام بالخير واليمن والسلام.

ونحن على مشارف بداية سنة ميلادية أخرى جديدة بدأ جميع المواطنين العرب في جرد حصاد الموسم الماضي؛ ما تم إنجازه وما لم يتم، ما بني وما هدم، من ربح ومن خسر، من مات حتف أنفه ومن قصف ومن نجا، ومن ومن …وذلك قبل أن تطوى جميع محاضر السنة القديمة وتحال على أرشيف الزمن .. !

وبين شنق صدام حسين في مثل هذا التوقيت عند متم السنة الماضية بقليل، واغتيال بينظير بوتو في نفس التوقيت تقريبا عند متم السنة الحالية، مسافة سنة كاملة تختزل حقيقة وضعنا العربي والإسلامي لتطرح مرة أخرى نفس الأسئلة الاستفهامية المريبة عن حالنا هذا: لم، وكيف، وإلى متى.. ؟ !

وبين هذين الحدثين المثيرين أيضا تكمن تفاصيل أزمة أمة كبرى من المحيط إلى الخليج نالت خلالها الشعوب العربية والإسلامية نصيبها الأكبر من الموت والفقر والجوع والقهر بما يفوق طاقتها وزيادة..

ولولا حقيقة هذا الوضع العربي المزري لما كانت لنا هناك حاجة إلى هذا الإدراج ولا حتى إلى قناتي العربية والجزيرة اللتين صار حالهما أشبه ما يكون بحال الضباع الجائعة حين تنتعش بنهش الجيف والأشلاء.

يخيل إلي وكأن تاريخنا الحديث ما عاد يكتب إلا من خلال نشرات الأخبار لقناتي العربية والجزيرة وما يتخللهما على مدار الوقت العربي الضائع، من أحداث ومشاهد دموية.

وأنت تقرأ سطور تاريخ أمتنا العربية والإسلامية من فجر تاريخها إلى اليوم قد يتكون لديك نفس الانطباع الذي تتركه فيك نشرات الأخبار العربية أيضا، وكأننا أمة سيزيفية تعشق الموت وقتل الفراغ بالهدم.

هناك خلل مزمن ناشب في علاقة الشعوب العربية بساستها وحكامها يجعل وضعهما أيضا أشبه ما يكون بعقدة المنشار أو عنق الزجاجة؛ فلا الشعوب العربية تستسيغ حكامها إلا على طريقة بلع السم الزعاف أو تجرع الدواء المر، ولا الحكام يستسيغون شعوبهم إلا من طرق الترغيب والترهيب الملتوية، أو بفصل الأعناق وقطع دابر الخلاف بحد السيف.

وهذا الوضع المريب هو الذي يحول دون تحقيق راحة الشعوب العربية التي طالما تحدثنا عنها في إدراجاتنا، ويسبب لها في كل يوم مزيدا من الآلام والأوجاع.

إن راحة الشعوب مظهر من مظاهر صحتها، وحافز كبير لها على العطاء والعمل دونما حاجة إلى التحايل والغش أو القفز السريع على الرقاب. وهو ما يحسه المريض في أعماقه، كحالة فردية، عندما يتطلع في حزن وأسف وانكسار إلى عيون الأصحاء. وهو ما قد نشعر به معشر المواطنين العرب، كحالة جماعية عندما نتطلع إلى اليابانيين وهم يتحركون في شوارع طوكيو بهمة النمل العالية، أو حتى إلى الشعوب الاسكندينافية التي لا يكاد يسمع لها أدنى حس في نشرات الأخبار الدولية.

وقد يحتاج المدونون العرب اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى رفع درجة حدة الخطاب لإثارة الانتباه وللاحتجاج والغضب، ولكن عليهم قبل كل شيء أن يضعوا بأعلى مدوناتهم عبارة تحذيرية تقول: ( هذه المدونة قد تكون معرضة في أي وقت للتدمير أوالحجب ).
——-
إدرجات ذات صلة:
عود على بدء (2)
بعض أشجان العيد والعام الجديد (2)