الجمعة، 22 فبراير 2008

منام الوهراني نموذج المسرح العربي التراثي الساخر

قراءة تمهيدية:

عطفا على الإدراج السابق الذي وعدنا فيه بعرض وتقديم بعض النصوص والمتون التراثية التي تنتمي إلى ما أطلقنا عليه: أدب الظل أو “الأدب المستريح”، يسرنا أن نقدم لزوار ومتتبعي هذه المدونة الكرام متن (المنام الكبير) الذي أبدعه منذ حوالي تسعة قرون الكاتب المغمور ركن الدين الوهراني المتوفى سنة 575 هجرية.

وقد سبق لنا في هذه المدونة أن عرفنا بركن الدين الوهراني هذا في ديباجة إدراج عرضنا فيه رسالة واحدة من رسائله الهزلية. وكنا قبل ذلك قد استوحينا إدراجا آخر من الروح الساخرة الفذة التي تميز بها هذا الكاتب، كما قدمنا دراسة مفصلة مطولة قارنا فيها بين عمل المعري في رسالة الغفران وعمل الوهراني في المنام، لأنهما معا استلهما فكرة العالم الآخر ليس كقضية دينية أو ميتافيزقية، وإنما كعمل أدبي فني خالص.

وقد وردت علي منذ ذلك الوقت رسائل عديدة يستفسر أصحابها عن مزيد من المعلومات عن عن متن (المنام الكبير) للوهراني؛ أين يوجد وما السبيل إلى الاهتداء إليه؟؟.
وهو استفسار معقول ومقبول من لدن القراء العاديين الذين تصفحوا هذه المدونة، وحتى من لدن كثير من الباحثين والدارسين المتخصصين المتعطشين إلى كل ما هو غريب وجديد، ولكنهم قد يجدون صعوبة كبيرة في التعرف على مناطق الظل في تراثنا العربي حيث تقبع وتستريح كثير من المتون الأدبية المغتربة أو المُغربة التي لم ينفض عنها الغبار حتى يومنا هذا…

وقد كان حظ المنام رغم طرافته وخصوصياته الفنية الكثيرة كحظ صاحبه من حيث سوء البخت وانعدام الاهتمام في حياته وبعد مماته للعوامل التي ذكرناها في الإدراج السابق لخلل في نوع العلاقة التي تنظم المهمشين في عالمنا العربي بالمتنفذين وبعلية القوم..

ومنذ أن قام الباحثان إبراهيم شعلان ومحمد نغش بتحرير أعمال الوهراني الأدبية في الكتاب الذي يحمل اسم (منامات الوهراني ومقاماته ورسائله) والذي طبع في 308 صفحة، سنة 1968 تحت عناية وزارة الثقافة في الزمن القصير للجمهورية العربية المتحدة، عن دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، لم يتجدد طبع متن الوهراني الأدبي مع الأسف، فانقطعت صلته بالناس باستثناء قلة قليلة من المهتمين بفن هذا الرجل.

ونحن هنا ننوه بالمجهود الذي بذله المحققان في إخراج نصوص الوهراني الأولى من حيزها المخطوط إلى حيزها المطبوع، وتصحيحها وضبطها انطلاقا مما توفر لهما في ذلك الوقت من مصادر مخطوطة رغم العلات التي شابت عملهما هذا .

وحتى يأخذ منام الوهراني حظه الوافي من الوضوح والاهتمام لدى قراء هذه المدونة أيضا فقد عمدنا إلى عزله من مجموع أعمال وكتاباته الأخرى التي تضم مقامات ورسائل منوعة في مضامينها وأشكالها، وتكون تارة طويلة جدا وتارة قصيرة جدا. وبذلك يأخذ المنام طابع الاستقلال والتميز والخصوصية بتركيز الأضواء عليه وحده دون سواه.

وبما أن نـَفس الوهراني قريب من الكتابة المسرحية الحديثة من حيث توظيف الرمز والسخرية، ومن حيث البساطة والارتجال، ومن حيث الجرأة والصراحة، ومن حيث اعتماد أسلوب الحوار وتعدد المشاهد واللوحات والخلفيات فقد قدمنا هذا النص بطريقة تختلف تماما عن طريقة المحققين المذكورين. فقدعرضا متن المنام ككتلة كلامية واحدة دون أن ينتبها لخصائص الكتابة الحوارية.

وعلى العموم، فقد نهج الوهراني في منامه أسلوبا جديدا في المعالجة الأدبية والسرد. ولو كان يعيش بين ظهرانينا اليوم لأدرج ضمن أعظم الكتاب المسرحيين.

وإن غياب مفهوم كلمة “المسرح” في تراثنا العربي النقدي من الناحية النظرية لا ينفي حضور هذا المسرح كتصور بكر وخصب مجسد من خلال كثير من المتون والنصوص من الناحية العملية الآبداعية، ولو اعتبر ذلك الحضور كحد أدنى من المسرح، كمسرح بالمفهوم المعاصر، أو حتى كمجرد إرهاصات أو محاولات تجريبية أولية في حقل الإبداع الفني المتميز.

ومن عيوب النقد العربي القديم أنه لا يتسع للمتن الأدبي المستريح الهامشي، بل إنه يكاد لا يتسع إلا للمتن الأدبي الذي يسير في ركاب السلطة ويمسك بتلابيبها، كما أوضحنا في الإدراج السابق. ومن هنا كانت الضربة القاضية لكل الأنواع الأدبية العربية والمتون التي أنتجها أصحابها على هامش الحياة الدنيا التي لا تروق لذوي الفضل والتميز، أو لأنها ابتعدت كثيرا عن مألوفهم وعن قواعدهم وضوابطهم المعيارية التي لا يزيغ عنها إلا مغامر أو مهمش أو هالك.

وبما أن متن مسرحية المنام، إذا جاز لنا أن ننسبه إلى جنس المسرح، متن طويل أيضا فقد آثرنا تقديمه في مجموعة فصول سنعمل على إدراجها تباعا. كما قسمنا كل فصل إلى مجموعة مشاهد منسجمة مع طبيعة الشخصيات التي تكون فيه، كما سنعمل على تذييل كل فصل من فصول المنام بلائحة من الهوامش المرقمة بغية الشرح والتوجيه.

يعمد الوهراني إلى إعمال الحيلة لاستدراج المخاطب القريب الحاضر الذي هو صديقه (العليمي) والمخاطب الغائب الذي هو القارئ المفترض إلى عالم المنام بأهواله وأحداثه عن طريق افتعال النوم أو التناوم. ثم يرخي العنان بعد ذلك لسرده العجيب الذي تجري وقائعه في العالم الآخر، وفي لحظة حاسمة عند الحشر والنفخ في الصور حيث إرادة الله تحكم وتتحكم، وحيث الملائكة والخزنة، وحيث الميزان العظيم الذي توزن فيه أعمال البشر ليفوز من يفوز بعبور الصراط إلى الحوض والنعيم والرحمة، وليخيب من يخيب ليقع ويتردى في مهاوي جهنم وفي العذاب والشقاء.

ويستدعي الوهراني إلى منامه هذا مجموعة من الشخصيات يقحمها في سياقات ومواقف تفيض بالنقد اللاذع والسخرية التي تصل إلى حد التطاول والوقوع في المحظور الشرعي أحيانا، كما قد يستنتج من القراءة السطحية الأولى.
ويجمع المنام إلى جانب شخصيات عصره الحقيقية المعروفة المثبتة في كتب التراجم والأعلام والوفيات شخصيات مغمورة لا نقف لها على أي أثر في الكتب، وربما يكون الوهراني قد التقاها في حياته التي بدأها في المغرب وأنهاها في المشرق.

ومن هذا المزج الغريب في الشخصيات بين المُعرف والنكرة، وبين تداعيات التاريخ والأحداث التي عاصرها والتجارب الشخصية التي عاناها، وبين الواقع والخيال والممكن والمستحيل والأنا والآخر والشعر والنثر والموت والحياة والبعث والنشور تنبع كل تناقضات البوح والحكي في كشكول سرد الوهراني.

- من القضايا التي عالجها الوهراني في منامه: فساد القضاء، القيم، المحسوبية والفوارق الطبقية، الأمراض الاجتماعية والأخلاقية كالزنا واللواط، وأدب خطاب السادة والأعيان على سبيل الاستهزاء وغير ذلك من القضايا التي يمكن أن يستنتجها كل قارئ لبيب، كما عرض الوهراني موقفه من بعض القضايا الخلافية والسياسية، كموقفه صراع الأمويين والشيعة، والصوفية، والفاطميين والأيوبيين وغير ذلك.

- لقد عملنا على حذف الديباجة التي وضعها الوهراني لمنامه التي لا تختلف كثيرا عن أسلوب الرسائل السلطانية أو الإخوانية المعروفة بمبالغتها في التودد والإطراء ومن التكلف والرياء. وكأن منام الوهراني الذي جاء بعدها مباشرة هو المعادل الموضوعي لتلك الكتابات والمراسلات التي يقوم جزء كبير منها على النفاق الأخلاقي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وكأن الوهراني نفسه المهمش في الظل هو المعادل الموضوعي لكل الكتاب البلاطيين المنعمين الذين سلطت عليهم كل أضواء العناية والشهرة، وعلى رأسهم القاضي الفاضل والعماد الأصفهاني في عصره.

ويمكن قراءة متن المنام كاملا في مدونتنا المتخصصة على الرابط التالي:
منام الوهراني: (النص الكامل)

ليست هناك تعليقات: