السبت، 16 فبراير 2008

الهجرة النبوية وسياق التحولات الكبرى

كتب في يناير 8, 2008

كانت الهجرة النبوية الشريفة بداية حركة نوعية في تحديد مفهوم الزمن الخاص بالمسلمين، ليعوا حقيقة وجودهم وكيانهم حيثما وجدوا.

وهذه الهجرة، وإن تراوحت في مداها الزمني القصير بين مكة والمدينة، وبينهما مسافة قريبة، إلا أنها قد استوعبت في طياتها كل المقومات الضرورية لنهضة أمة كاملة على أرض راسخة صُلبة…
ولأهمية درس الهجرة هذا فقد جعل هو المبتدأ والمنتهى بالنسبة لتاريخ المسلمين كافة.

وحدث الهجرة العظيم هذا، وإن كان قد بني على حركة الرسول الكريم في زمن ومكان معينين مخصوصين، فهو في الحقيقة يتسع لكل زمان ومكان ليظل مفعوله ساريا أبد الآبدين.
ولذلك لم يبن حدث الهجرة على تاريخ ميلاده الشريف ولا حتى على تاريخ بدء تلقيه لأول آية من آيات القرآن المبين، على عظيم قدر القرآن وعلو شأنه في تشكيل كيان أمة الإسلام خاصة والحياة الإنسانية كافة.

وأنا هنا، في هذه الفسحة الافتراضية وبهذه المناسبة المجيدة، لا أريد أن أتقمص دور الخطيب الواعظ أو المؤرخ العارف بالسير والمدقق لأحداث التاريخ وتطوراته، وإنما أكتفي فقط بتقديم خلاصة عامة مرتبطة بدرس الهجرة وما قد يتولد عنه من دلالات كبرى في تاريخ المسلمين.

فالملمح الأول المُستفاد من درس الهجرة أن خروج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مهاجرا في سبيل الله وإعلاء صوت الحق كان مدعاة لجلب النصر والتأييد ولصناعة حياة إنسانية مدنية جديدة جديرة بالاحترام.

ومن هنا، يمكن أن نعتبر كل التحولات الكبرى في تاريخ المسلمين، وكل اللحظات المشرقة التي سجلت بمداد الفخر والعزة والكرامة نظائر للهجرة النبوية وامتدادات أخرى لها في الزمان والمكان.

وفي هذا السياق، يمكن أن ندرج خروج الأمويين إلى الشام وبناءهم لحاضرة دمشق، وخروج العباسيين إلى العراق وتأسيسهم لبغداد العظيمة عل سبيل المثال.

وما يجري على بغداد ودمشق يجري أيضا على الفسطاط في أرض الكنانة وعلى القيروان وعلى بجاية وفاس ومراكش وإشبيلية وقرطبة وأصفهان وبخارى وطشقند وإسطنبول وغير ذلك من حواضر الإسلام الكثيرة الممتدة شرقا وغربا.

فأي امتداد للمسلمين في المكان والزمان، وأي نصر أحرزوه، وأي حق استرجعوه، وأي علم نشروه، وأي ابتكار حققوه ما هو في العمق إلا شكل من أشكال الهجرة النبوية الأولى، وأثر من آثار تحولاتها الكبرى.

وربما لهذا السبب لم يجد المؤرخ والكاتب المشهور عماد الدين الأصفهاني في مقدمة كتابه ( الفتح القـُسِّي في الفتح القـُدسِّي ) الذي أرخ فيه لحدث فتح القدس سنة 583 هجرية وما تلاه من أحداث إلى حدود وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي قائد هذا الفتح العظيم سنة 589 هجرية أي ما نع لاعتبار تاريخ الفتح هذا هجرة ثانية بعد الهجرة النبوية الأولى كما عبر عن ذلك بأسلوبه البلاغي العجيب في مقدمة كتابه هذا.

أما اليوم، فقد تراجع دور القادة والزعماء العرب والمسلمين ليس فقط عن صناعة حالة واحدة من حالات الهجرة الكثيرة إلى الديموقراطية وإلى العلم والحداثة والعدالة الاجتماعية، بل حتى عن استعادة ألق حدث الهجرة النبوية الشريفة في نظر العالم وفي نظر شعوبهم على الأقل عبر وسائل التواصل والإعلام.

فكيف يعقل، بعد الذي استوعبناه من درس الهجرة أن يبقى مجرد حدث يومي بسيط يمر علينا مرور الكرام.؟؟
فما أبعد الفرق، في حياتنا العربية والإسلامية، بين مرور اليوم الأول من كل سنة هجرية الذي نستقبله في صمت واليوم الأول من كل سنة ميلادية الذي نحتضنه بكل ما أتيح لنا من صخب وهرج ومرج وإنفاق وتبذير.
ثم كيف سيكون واقع حالنا في السنة المقبلة إذا ما تصادف بدء التقويمين معا في يوم واحد ..؟!.

والأدهى من كل هذا أن حكامنا وأولياء أمورنا في السياسة الداخلية والخارجية قد صاروا أعجز من أي وقت مضى عن من منع حركة الهجرة المعاكسة لكثير من الأدمغة والعقول العربية والإسلامية التي يجذبها وهج الجاه والمال في الضفة الأخرى خلف البحر المتوسط والأطلسي والهادي ليكونوا شهداء على خراب بيوتهم بأيديهم ومتورطين حتى النخاع في مشهد الاستنزاف العام الذي تجاوز الدم العراقي والفلسطيني إلى مدخرات الغاز والبترول والمال العام وإلى ما هو أغلى من هذا وذاك.
فكل عام هجري وأنتم وأمتنا بألف خير.
————-
إدراجات ذات صلة:
حقيقة التقويمين: الهجري والميلادي

ليست هناك تعليقات: