الأربعاء، 13 فبراير 2008

سكنى الأجانب في مراكش: جوانب من الواقع والذكرى

كتب يوم الخميس,تشرين الثاني 02, 2006

نبهت كثير من الدراسات والاستطلاعات في الأيام الأخيرة إلى ارتفاع عدد الأجانب الغربيين الذين اختاروا الإقامة بمراكش بصفة نهائية. وخاصة بالنسبة لفئة الجيل الثالث منهم، ممن تجاوز الستين، وأحيل على التقاعد، واختار أن يمضي ما تبقى من حياته في هذه المدينة العتيقة التي تختزل وطنا عظيما بحجم بلاد المغرب كله في معظم ملامحه وصفاته، ودنيا رائعة عجيبة بقدر سحر العالم كله في جاذبيته وإثارته..!!

ترى، ما السبب الذي حمل هؤلاء على هذه الرحلة العجيبة، رحلة من شتاءٍ إلى صيفٍ، ومن برد إلى قيظ، ومن فضاء فروا منه أو شبعوا منه حتى ملوه إلى فضاء آخر حنوا إليه ورضوه مستقرا ومقاما…؟!!

إنها مفارقة عظمى أن يغادر شيوخُ الغرب بلدانهم علنا لأنهم شبعوا منها، وأن يغادر شباب المغرب بلدهم، في رحلة قوارب الموت سرا، لأنه قد شبع منهم حتى لفظتهم شواطئه جثثا هامدة على رمال الساحل…!!

فضاء مراكش غير فضاءات المدن الغربية الكبيرة المتوحشة التي تأكل ناسها وتطويهم في جوفها كطي السجل للكتاب، وتحشرهم في جحيمها حشرا يكتم الأنفاس ويضغط على الأعصاب، في رحلة الصعود والنزول عبر السلالم والمصاعد، وتحجب بعلوها الشاهق الوجوه الشاحبة من أن تصافحها وتداعبها أشعة الشمس الدافئة التي افتقدوها في زحمة حياتهم الصاخبة.

فضاء مراكش فضاء رحب فسيح، يمسك بقرن الشمس الدافئ المتوهج من مكان شروقه خلف الجبال والتلال والأسوار العتيقة وأشجار النخيل الباسقة، ويبقى محتفظا به، حتى يودعه في مكان غروبه في الأفق البعيد الممتد بلا نهاية..

فحيثما كنت في مراكش فعين الشمس بالنهار ترقبك، وبدرها بالليل يلحظك. إنها مدينة الشمس والقمر. وهي عارية مكشوفة لناظرها، قد افترشت الأرض والتحفت السماء؛ فأبنيتها واطئة، ولونها أحمر طيني يشبه لون التراب، أو هي امتداد له.

ولم يخطر على بالي أن أخوض في موضوع سكنى الأجانب بمراكش الحمراء الذي يدور اليوم كثيرا على ألسنة المراكشيين، وتتناوله أقلام الإعلاميين والمتابعين للشأن المحلي المراكشي لولا بعض المواقف اليومية التي تحصل للمراكشيين المغاربة الأصليين مع ( المراكشيين) الغربيين الطارئين.

وأذكر من جملتها موقفين حصلا معي مؤخرا. وكلاهما يدل على مدى تغلغل الوجود الأجنبي بهذه المدينة الآسرة التي بدأت تلوي إليها أعناق كثير من الغربيين المهوسين بسحر الفضاءات الجميلة الحالمة.

الموقف الأول:
فقد حدث ذات يوم أن دُقَّ جرس المنزل الذي أسكنه، وعندما أسرعت لفتح الباب فوجئت بزوج أجنبي مسن مع زوجته يتقدمهما كلب صغير الحجم، أو قل: كتلة من الفرو الرمادي الناعم تتحرك من غير ملامح على الوجه بارزة، ولا قوائم على الأرض مكشوفة..!!

وتلك العادة الأجنبية في سوق الكلاب المدللة في الطرقات والحدائق العمومية بدأت تنتقل عدواها إلى بعض المراكشيين المترفين والمقلدين لهم أيضا.

لم يطل الزوج والزوجة كثيرا في المقدمات الضرورية، وإنما سألاني، على التو، إن كانت هناك إمكانية لبيع هذا البيت أو استئجاره…!!

ثم انصرفا بعد أن عارضت صفقتهما واعتذرت، وعينُ الزوجة على النخلة الفارعة التي نبتت عند أصل البيت، أو قل: إن البيت هو الذي نما عند أصلها لتقدمها عليه في الوجود بأعوام كثيرة لا يعلمها غير الله.

وفي الحقيقة لم أستغرب هذه الحركة العفوية منهما في الحصول على سكن بهذه الطريقة المباشرة من غير لجوء إلى وكيل عقاري أو سمسار…!!

ولكن سلوكهما هذا أعاد إلي بعض ذكرياتي البعيدة عندما قَدِمتُ أول مرة إلى مراكش من أجل الوظيفة والعمل، منذ ما يربو عن عشرين سنة:

فأنا أذكر أني قد تصرفت مثلهما تماما، فكنت أدق على بعض البيوت بالصدفة، ومن باب الثقة والفأل الحسن بالناس، أنشد عندهم السكن بنفس الطريقة المباشرة حتى أتجنب شر السماسرة ومكرهم، وأوفر أجر شهر أو أكثر قد يأخذه السمسار مني ظلما وسحتا.

أقول هذا الكلام مع قياس الفارق طبعا؛ ففرق كبير بين أن تنقاد لمثل هذا السلوك لفراغ الجيب وقلة الحيلة، وبين أن تلجأ إليه وأنت منجذب بسحر المكان عندما يجاور نخلة، كما هو حال الزوجين الأجنبيين…!!

الموقف الثاني:
عندما ذهبت لأداء فاتورة الماء والكهرباء الشهرية في مقر المصلحة التابع لحينا انضممت إلى الطابور الرجالي في انتظار الدور، على عادتنا نحن المغاربة في ممارسة طقوس الانتظار الطويل أمام مكاتب حكوماتنا ومصالحها العمومية وحتى الخصوصية لساعات طويلة، فيما يشبه الفراغ والعبث…!!

وكان يخيم على المكان صمت ووجوم يتناسب مع حالة الصوم. وفجأة اقتحمت سيدة أجنبية المكان وتوجهت توا عند الموظف الجابي، وهي تمد الفاتورة من على رأس الرجل صاحب الدور غير عابئة بطابور الرجال والنساء.

وقبل أن تتم السيدة الأجنبية فعلها وتنال بالمكر بغيتها، انبرت لها الحشود بالصراخ والصياح بالدارجة المغربية: ( وارْجْعـِــي اللُّــور، واشْـــدِّي الصّْــفْ..!!)
فتراجعت المسكينة لهول الضجيج، واضطربت وتوارت إلى الخلف في وجل وخجل.
واستنتجت من تصرفها، حينها، أن التطبع ربما يغلب الطبع في مثل هذه المواقف، على عكس القول الشائع: الطبع يغلب التطبع. فلا بد أن هذه السيدة قد طال عهدها بالمدينة حتى تجرأت وأقدمت على هذا الفعل الذي ربما يستحيل أن تقوم به في موطنها الأول الأصلي، فلا شك إذن أنها قد تعلمت لعبة القفز على الحواجز من بعض الخبثاء والمتنفذين الذين ألفوا التطاول على حقوق إخوانهم المغاربة الكادحين عتوا وعلوا واستكبارا في الأرض…!!
ولكن ، بقيت في نهاية هذا المشهد حرقة أسئلة كثيرة تتفاعل في داخلي:
ترى، لماذا صرخت تلك الحشود في وجه تلك السيدة الأجنبية، ولماذا تصمت نفس الحشود عندما يقوم بذلك الفعل نفسه أحد أولئك المتنفذين الكبار منا، وعندما يقتحم نفس المكان، وفي نفس الدور من المشهد نفسه بنظارته السوداء الداكنة، وهيأته الأرستقراطية، أو ببذلته الرسمية الحكومية …!!

وهل كان موقف تلك الحشود، في هذه المرة، مع تلك السيدة الغربية، تعبيرا عن تبرم المراكشيين بالأجانب الوافدين الذين ضيقوا عليهم في عيشهم اليومي، وارتفعت بسببهم أسعار العقار التي لم تعد تطاق. ؟؟

أم هل تجاوز الأمر حدود ذلك المكان الضيق الذي شهد هذا الموقف الخاص إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير؛ كأن يكون ذلك الصراخ تعبيرا عن الحنق الدفين الذي يكنه قطاع عريض من المغاربة والعرب تجاه الغرب الذي قد يتمثل ويتجسد فجأة أمامنا في بعض العناصر الأجنبية الوافدة، لأسباب استعمارية وقضايا عربية وقومية ودينية متداخلة لا زالت عالقة وشائكة عند الجدار الوهمي العازل الذي يفصل شطري الشمال والجنوب، والشرق والغرب، وخاصة بعد أحداث الصيف الماضي الدامية الساخنة..؟؟!!




صورة شخصية

ليست هناك تعليقات: