الخميس، 14 فبراير 2008

نَـكـْثُ النـُّكت المنشورة في صحيفة ( نيشان ) المغربية

كتب يوم السبت,كانون الأول 23, 2006

أريد في البداية أن ألفت عناية الزوار والقراء الكرام إلى حقيقة العنوان أعلاه؛ فقد استوحيته من عنوان الكتاب الموسوم ب ( نَـكـْثُ الهَـمْيان في نُكَـت العُميان ) للمؤرخ والمترجم والأديب الكبير صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ( عاش في القرن الهجري الثامن).
وكنت في إدراجات سابقة قد اقتبست من هذا الكتاب بعض طرائف العميان، في الفئة التي أفردتها للحديث عنهم.

والنكتة فن قائم بذاته. وهي أشبه ما تكون بالمثل لأنهما يتمتعان معا بقدرة هائلة على اختزال المواقف والأقوال والأفعال وردود الأفعال البشرية على علاتها وتناقضاتها بأقل ما يمكن من الكلام.

والنكتة بسبب اختزالها الشديد هذا أشبه ما تكون أيضا بالعنوان الذي يخفي وراءه تفاصيل حدث أو قصة أو حياة كاملة.
ولا يشترط في النكتة أن تكون دائما صادقة أو كاذبة، فصيحة أو سوقية، مستهترة أو ملتزمة ومتلائمة مع الشرط الأخلاقي أو العرفي أو الديني أو القانوني… لأنها ببساطة شديدة ابنة اللحظة السريعة التي تولد في رحمها.

وفن النكتة فن طري على الدوام. وهو يتلبس المواقف العامة والخاصة، كما يتلبس الثوب الأجسام، فيأخذ كثيرا من تضاريسها وملامحها وبعضا من تفاصيل الحياة العامة المحيطة بها، فيما يخص الأعراف والتقاليد وأنماط السلوك والعيش المختلفة.

وكما يمكن أن تكون النكتة مغرقة في العموميات يمكن أيضا أن تكون مغرقة في أخص الخصوصيات، وكما يمكن أن ترتفع إلى أبعد حدود الطهر والفضيلة يمكن أيضا أن تنخفض إلى أبعد حدود الفجور والرذيلة ما دام المقصود بها هو ذالك الإنسان الموجود دائما بين حدين متناقضين أحدهما يعلو في سمو وارتفاع والآخر يسفل في انخفاض واتضاع.

والتنكيت أو طريقة إلقاء النكتة فن آخر قائم بذاته أيضا؛ إذ يتوقف نجاح النكتة، من حيث إيقاع تأثيرها في المتلقين، حتى الانفجار والموت من الضحك أحيانا، على مفارقاتها ومبالغاتها الكاريكاتورية الساخرة من جهة، وعلى قدرة المُنَـكـِّت (الحاكي) على تـَمثـُّلها وتمثيلها وإخراجها الإخراج المبهر من خلال الحركات والنبرات من جهة ثانية.

وفي العادة فإننا قد نتقبل النكتة من شخص ما بنوع من الانجذاب والاستحسان، ونتلقى النكتة ذاتها من شخص آخر بنوع من النفور والاستهجان.

ومعلوم أيضا أن أشخاصا كثيرين في عالمنا العربي القديم والحديث احترفوا مهنة إضحاك الناس ورصدوا حياتهم كلها لفن النكتة والطرفة والتهريج والمونولوك؛ فبواسطة فن النكتة يقتاتون من موائد الأغنياء والمترفين والمعجبين، وبفضله يحيون بين الناس ويُعرفون في الوجود. وما أمر جحا العربي عنا ببعيد.

والغريب في أمر النكت أنها مبنية على مبدأ الاختلاف والتضاد كبرنامج (الاتجاه المعاكس) المشهور بنكته السياسية وتناقضاته العربية العجائبية ذات اليمين وذات الشّْمال وذات الجنوب وذات الشَّمال.
فمن علاقة التضاد والاختلاف تتولد كل مفارقات النكت التي يمكن أن تضرب في كل اتجاه أيضا؛

وهكذا نجد مثلا أن نكت الأغنياء تتجه إلى من دونهم، ونكت الأذكياء تتجه صوب الأغبياء والأسوياء صوب المؤوفين( الذين حلت بهم عاهة أو آفة)، كما يمكن أيضا أن تتجه نكت مجموعة بشرية كاملة صوب مجموعة أخرى على وجه المقابلة والتحدي والعناد، كنكت أهل مراكش و أهل فاس مثلا، ونكت أصحاب المدن وأصحاب القرى المجاورة، بل ويمكن أن يتسع مداها الجغرافي أكثر فنكون أمام نكت دولة بكاملها من الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب في مواجهة دولة أخرى مقابلة أو معادية، بل وقد يمكن تصور حتى نكت بين قارتين متباعدتين.
ومن يدري فربما قد تنشأ في المستقبل البعيد نكت كوكبية تسافر عبر الفضاء الفسيح وتخترق الأفلاك والأجرام السماوية.

وفي الحقيقة ليس لفن النكتة منطق أو قانون يحكمه فأمره متروك دائما للارتجال والصدفة، كما أن معدن النكتة زئبقي في الأصل يمسك بالأشياء ولا تمسك هي به.

وإذا جاز لنا أن نشبه النكت الكلامية بالألبسة المنسوجة والمخيطة لقلنا إنها أشبه ما تكون بالثياب الداخلية لا يُكشف عنها إلا في نطاق خاص من الشفافية والحميمية. والناس عادة لا يتبادلون النكت إلا عندما تتأكد ألفتهم وتـُرفع الكلفة الشديدة عنهم. وإذا وجد الحرج بينهم، وغاب الانبساط عن مجالسهم لم يعد لتلك النكت أثر أو مغزى عميق في حياتهم.

ترى، وبعد كل هذا الذي قلناه، هل كانت صحيفة (نيشان) المغربية مستوعبه لمنطق فن النكتة الزئبقي هذا عندما أقدمت على نشر ما نشرته من نكت ملغومة مستعدة للانفجار عند أول عملية عرض ونشر مكشوفة لكل من هب ودب…؟؟!!

وربما يكون العاملون الباقون في الصحافة المغربية قد استوعبوا الآن درس النكت المغربية تماما من (نيشان) قبل أن يزجوا بأنفسهم، مرة أخرى، في شراكها الزئبقية ويعبثوا بموادها الانفجارية الانشطارية.

ولكن ذلك الاستيعاب قد لا يصدر عنهم، في هذه المرة، من منطلق مواصفات النكتة كنكتة في حد ذاتها، وإنما من منطلق ما يحيط بها من مواصفات وحساسيات دينية وأمنية ومخزنية، ومن منطلق قواعد اللعبة السياسية المغربية الجديدة التي أصبحت تتراوح بين تحرر مفرط إلى حدود الانفلات والانزلاق وتشدد مسرف إلى حدود الانكماش والانغلاق.

ورغم كل ما قيل حتى الآن عن قصة تلك النكت المنشورة سواء في وسائل الإعلام المغربية اليمينية واليسارية والمعتدلة والمغالية وحتى بعد أن وصل مدى انفجارها وإشعاعها إلى قناة الجزيرة، فإن الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن الجميع هي أن النكتة مهما قيل عنها تبقى مجرد نكتة. ولكن حدود ونطاق تداولها بالكلام أو النشر يبقى محصورا كما قلنا سابقا بالألفة.

وقد كان حريا بالقائمين على شأن صحيفة ( نيشان) أن يختبروا أولا مدى ألفة تلك النكت وتجاوبها مع المحيط العام في كواليسهم الخاصة ولدى الشريحة المقربة منهم في سرية تامة قبل أن يعرضوها وينشروها على الملأ في صراحة وعلانية.

أما الآن، فقد فاتهم الدرس و جاء اعتذار صحيفتهم متأخرا بعد أن سبق السيف العذل، ووقع فأس تلك النكت في الرؤوس المعلومة وختم على(نيشان) بالشمع الأحمر إلى إشعار آخر، وفي انتظار ما هو آت من تفاعلات ومستجدات…

وفي الوقت الذي استفحلت فيه حرب الكلام حول مضمون تلك النكت المغربية الشعبية كل حسب فهمه وتأويله تنوسي الحديث عن تلك النكت وعن كبش العيد المنذر هذا العام بالغلاء الشديد، وانجر المتخاصمون مع الأسف إلى أساليب التهديد والوعيد وفوضى الاحتجاج والمظاهرات.

وفي الختام أقول لكم بالدارجة المغربية: ( الله يخرج عاقبة النكت فهاد البلاد على خير، واللي عندو شي نكتة فيها ما فيها يلوحها فقاع البير).

ليست هناك تعليقات: