الجمعة، 15 فبراير 2008

آفة النسيان: حقيقة أم لعبة

كتب يوم السبت,تشرين الثاني 17, 2007

يصبح النسيان، في بعض الأحيان، ضرورة حتمية للتخلص من تبعات الذكرى المؤلمة ومن وقع تجارب الحياة الفاشلة…
ومعنى هذا أن وعي ولاوعي الإنسان بالوجود والموجود يقبعان عند طرفين متباعدين هما: الذاكرة والنسيان.

ولقد قـُدر لحياتنا البشرية منذ عهد أبينا آدم وأمنا حواء أن تسير على إيقاع ثنائي عجيب متضاد أساسه المحو والإثبات، فالذاكرة إثبات ووجود، والنسيان محو وعدَم أو إِعدام للموجود وللوجود….

وهذا الإيقاع المتضاد أشبه ما يكون بروتين الحياة اليومي المتكون من طرفين متباعدين متضادين أيضا: أحدهما يقظة وانتباه، وآخر سبات ونوم.
أو ليست الذاكرة يقظة وانتباها إلى وجود الموجود، ثم أليس النوم نوعا من السكون أو الإعدام المؤقت للوجود ولكل الموجود من حولنا..؟؟ !!

وهذه الحالة تنطبق تماما على وضعية السبات المؤقت لجهاز التلفزيون لدينا. فهذا السبات المؤقت لا يعني بالضرورة توقف البث أو الاستقبال عن باقي الأجهزة لدى أقرب الجيران إلينا، فضلا عن جميع الناس الأباعد

وعندما يجري الحديث عن شريط حياتنا الدنيوية المتحرك إلى الأمام باضطراد إلى أجل مقدر معلوم لدى الحي الخالق الذي لا يموت قد يتداعى إلى ذهننا شريط نشرات الأخبار العربية المنسدل أسفل الشاشة التلفزيونية في حركة دائبة يمحو بعضه بعضا ويجب بعضه بعضا على إيقاع مشاهد الدمار والقتل بالجملة والتقسيط …

ولا يتعلق الأمر هنا، بما نريد أن نثبته فقط على شريط ذاكرتنا المتحرك بشكل آخر متواز على الدوام، بمساعدة الكتابة والتدوين وبوسائل التسجيل والتصوير لأجزاء متفرقة أو ملتحمة من حياتنا اليومية ووقائعها المتجددة، وإنما يتعلق الأمر كذلك بما نريد أن نمحوه أو أن نشطبه في كل وقت، أو بما نقضي مع أنفسنا بضرورة تناسيه إلى حين، أو نجزم بمواراته إلى الأبد وذلك بقذفه في سلة المهملات والنسيان دونما أدنى رغبة في استرجاعه أو استرداده…

والفرد منا يمارس لعبة التناسي والنسيان على مدار الساعة لحفظ توازنه العقلي والنفسي والجسمي، كل حسب مزاجه وشخصيته وطبيعة ثقافته وقناعاته، وكيفية تعاطيه ومداخلته للناس وللعالم من حوله.

وكما يمكن أن تـُمارس لعبة النسيان على المستوى الفردي يمكن أن تمارس على المستوى الجماعي أيضا؛ وخاصة عندما تتحول إلى خطة مرسومة وسياسة مقصودة لدى القوى المتغلبة للمصادرة على الذاكرة الجماعية لشعب أو مجموعة شعوب مستضعفة بوسائل المكر السياسي وببلاغة الخطاب المعسول وبأسلوب الحوار الثقافي المسموم أو حتى بخطاب التسامح الملغوم، وربما اقتضى الأمر عندما لا تنفع الحيلة إلى مداهمة ذاكرة الشعوب بشكل مباشر عن طريق شن الحروب ونهج سبيل الأرض المحروقة.

ولنا فيما يجري اليوم على أرض العراق الشقيق ولبنان وفلسطين آلاف الأمثلة على عمليات المحو والغسيل المقصودين للذاكرة العربية بكل وسائل التنظيف السائل والجاف والمنسم بالعبق الأمريكي المتصهين.

وإن ما ضاع من ذاكرة أمتنا من تراث طريف وتليد في خضم هذه الأحداث المريعة التي شهدناها على مدار السنوات القليلة الماضية لا يمكن أن يقاس بأي حال من الأحوال بما فقدناه من أناس ومن طير ومن نبات ومن شجر خلال عصور مترامية الأطراف…

وما أخشاه اليوم أكثر أن يصبح وقع موت المواطن العربي بنار العدو كوقعه عندما يموت بنيران صديقة، وأن يصبح شطبه من قائمة الأحياء بالرصاص المخترق للعظام تارة، وبالنسف المبعثر للأشلاء تارة أخرى، حدثا حاديا لا يحرك ذرة واحدة من شعور ملايين العرب المتابعين لنشرات قناتي (العربية) أو (الجزيرة) على امتداد الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، وحيث تكتظ المقاهي بالرواد العاطلين وبأشباه العاطلين في انتظار مقابلة رياضية حامية الوطيس تهتز لها أفئدتهم لحركة كرة مستديرة فارغة، ولا تهتز أبدا عند تطاير الجماجم…

فعلا، لقد أصبح وضع المواطن العربي ووضع كل الدول العربية كوضع أي ملف عادي في ذاكرة حاسوب لا يكلف أمر تحريكه أو إقباره غير ضغطة زر عشوائية أو بلهاء… !!

ليست هناك تعليقات: