الجمعة، 15 فبراير 2008

زْريعة البلاد

كتب يوم الثلاثاء,تشرين الثاني 13, 2007

يكثر الحديث في أوساط الفلاحين عند بداية كل موسم فلاحي جديد عن “الزريعة”. والمقصود ب”الزريعة” في اصطلاح لغة الفلاحين البذور الجيدة المنتقاة المعدة للزرع فقط.

وأذكر في حداثة سني، ولأني منحدر من وسط فلاحي، كمعظم المغاربة الذين ربطوا مصيرهم بتراب الأرض وبغيث السماء أنه لم يكن في ذلك العهد من أنواع بذور القمح الصلب والرطب غير أصناف قليلة لا تتجاوزعدد أصابع اليد الواحدة، وأذكر أيضا أنه كانت هناك أوقات معلومة لبيع “الزريعة” في الأسواق الأسبوعية قبيل كل موسم فلاحي جديد، كما كان بوسع الفلاحين مقايضة ومبادلة أنواع البذور فيما بينهم، دونما حاجة إلى وسطاء أو سماسرة أو دهاقين.

وأذكر أنه كان للفلاحين نظام فطري في التعامل مع الأرض، ومع تلك البذور المنتقاة باليد حبة حبة، قبل أن تحفظ من الرطوبة في أجران كبيرة من القش والطين.

وأذكر أيضا أن صبر الفلاح في تعهده لأرضه إلى درجة العبادة كان جزاؤه الوفاء المستمر من السماء؛ فكانت الأمطار تصب في أوقاتها المعلومة، وحتى الرياح كانت تهب من جهاتها وطرقها المعروفة.

لقد كانت أيام المغرب في ذلك الزمن أياما فلاحية بامتياز، لا ينقطع فيها مجرى المياه عن الأنهار والجداول والعيون، ولا يتجاوز فصل حدود فصل آخر، بعد أن اكتسح اليوم فصل الصيف بقية الفصول.

وبما أن “الزريعة” رمز قوي للخصب وقوة النماء والانتشار، فقد أجاز المغاربة لأنفسهم نقل هذه الكلمة في استعمالهم اللغوي إلى مجال آخر غير بعيد عن دلالات الخصب، عندما أطلقوا على الأنثى أيضا عبارة “زريعة البلاد”، كما أطلقوا العبارة نفسها إطلاقا عاما على النسل المتفرع من الأصول.

أما اليوم، وبعد دخولنا عصر عولمة “الزريعة”، وبعد أن أصبح مصير تلك” الزريعة” بيد وزارة الفلاحة الوصية وشركائها الدوليين فقد انطمست كل ملامح “الزريعة” الفلاحية المغربية القديمة الأصيلة، وأصبحت أثرا بعد عين.

حقا، إنه لمن المؤسف أن تضيع “زريعة البلاد الطبيعية” في غمرة رياح العولمة الفلاحية الدولية في رمشة عين بعد كل هذا المجهود الذي بذله الفلاح المغربي القروي البسيط بخبرته الفطرية على امتداد قرون طويلة من الزمن، والله وحده يعلم مبتدأها أما نحن فإننا نشهد اليوم خبرها ومنتهاها. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ورحم الله “زريعة البلاد”.

ورحم الله مواسم الخير العميم، بعد أن غاضت المياه في جوف الأرض، وانقطع رجاء الفلاحين في هذا الموسم بسبب تأخر موعد الغيث عن وقته بكثير إلى وقت كتابة هذه السطور…

اللهم اسقنا بغيثك الكريم الذي يحيي الأمل ويغسل القلوب كما يغسل المطر الطاهر أديم الأرض من الأدران البشرية. آمين.

ليست هناك تعليقات: