الأربعاء، 13 فبراير 2008

حدود الجرأة في التدوين العربي (1)

كتب يوم السبت,تشرين الثاني 04, 2006

موضوع الجنس نموذجا
عناصر الموضوع:
1 ــ تمهيد
2 ــ الورقة الأولى: موضوع الجنس بين التلميح والتصريح في الموروث الثقافي والديني.
3ــ الورقة الثانية: جاذبية التدوين وجاذبية القراءة بخصوص قضايا الجنس.

1 ــ تمهيد:
أن تخرج على الناس بمدونة ما، بغض النظر عن طبيعة شكلها ومضمونها، هو نوع من الجرأة، وهتك صريح لغشاء الصمت المطبق علينا في معظم أحوالنا العادية. فأكثرنا مخبوء تحت لسانه، ولا يُعرَفُ، على حقيقته، إلا من خلال كلامه، عندما يقرر أخيرا، وعن سابق إصرار وترصد أن يتكلم، أو بالأحرى أن يقترف (جرم) الكلام….!!

وقد وفرت المدونات، في أيامنا المعولمة هذه وبفضل خدمات الأنترنت العجيبة، حلولا سحرية رائعة لفض غشاء الصمت ذاك، وإن كان المدونون يكتبون في حالة من العزلة الافتراضية، من وراء شاشاتهم الإلكترونية.

غير أن سلوك التدوين، بهذا الوضع الخاص المنعزل، يهيئ للمدون مجالا رحبا ممتدا بلا نهاية للبوح والاعتراف والغوص على المعاني الدفينة في نفسه أو في نفوس الناس من حوله، والإنصات مليا إلى صوته المنبعث من الداخل الذي كثيرا ما يتبدد ويضيع في الأمكنة المكتظة بالناس.

وموضوع الجنس من أكثر الموضوعات بساطة وتعقيدا في نفس الوقت، فهو كالبحر سهل على الجاهل الذي تتوقف نظراته عند حدود السطح، صعب على العالم الذي تنفذ نظراته إلى أعماق الأعماق.
كما يمكن أن يكون أكثر الموضوعات رقة وشفافية عند التلميح، وأكثرها فجاجة ووقاحة، وعربدة وفحشا عند التصريح.

ولذلك فإن الخوض فيه يختلف كثيرا عن الخوض في غيره من الموضوعات. وقد يعرض صاحبه لكثير من الشكوك والاتهامات، ويضع كلامه تحت المحك، وبين شفرتي المقص، إذا لم يستطع أن يوفق بين حالين، ويضم ما تباعد من طرفين.

والخوض في قضايا الجنس، في عالمنا العربي، حسب فهمي الشخصي المتواضع، كالخوض في قضايا السياسة. فوراءهما قوة استبدادية هائلة تطبق على الناس بأشكال مختلفة من العنف والقهر والإكراه بدل المصارحة والمكاشفة والحوار البناء، للوصول إلى حد معقول من التراضي والانسجام المقبول مع الذات ومع المحيط، من غير تقييد وتعقيد مجحف، أو إطلاق وتهاون مخل أو متلف.

ولا أرى مبررا واحدا مقنعا يمكن أن يمنع أي إنسان من الحديث في هذا الموضوع، أو يدفعه إلى تجنبه والإعراض عنه. لأنه ببساطة، ممتد فينا ومتمكن منا بالضرورة وبالقوة وبالفطرة.

ولذلك فإني سأترك المجال مفتوحا بيني وبين القارئ الكريم للحوار والنقاش الرزين المثمر، بعد أن يقرأ مضمون الورقتين التاليتين الخاصتين بهذا الموضوع، ويستنتج من واحدة منهما أو من كلتيهما، ما يمكن أن يتباعد أويتقارب مع طبيعة فهمه وعلمه وخبرته.

2 ــ الورقة الأولى: موضوع الجنس بين التلميح والتصريح في الموروث الثقافي والديني:

إن موضوع الجنس، رغم أهميته البيلوجية والفزيلوجية في تقرير وجود البشر واستمرار سلالتهم على وجه هذه البسيطة، لا زال في واقعنا العربي الحياتي، والثقافي، والديني والرمزي، سرا من الأسرار.

وحتى كلمة السر نفسها، في مدلولها الأول الحقيقي، كانت تفيد معنى الممارسة الجنسية في موضعها الطبيعي من جسم الرجل والمرأة حيث الفرج.

ثم تغير هذا المدلول مع مرور الزمن، وصار مجازيا ليفيد معنى الإخفاء والتغطية والستر والكتمان وغير ذلك، كما هو شائع في التداول اللغوي لنفس الكلمة اليوم. وقليل منا يعرف أن أصل كلمة سر يفيد الممارسة الجنسية.

وبما أن هذه الممارسة يفترض فيها أن تتم في السر فقد سهل على الناس تجاوز المعنى الأول إلى الثاني. والرابط المعنوي الذي بقي ممتدا فيهما هو الإخفاء والستر، كما يتبين لنا من المثالين التاليين اللذين يرجعان بنا إلى أصل الكلمة الحقيقي الأول.

ـ المثال الأول: من القرآن الكريم، وهو الحجة الأولى في الاستعمال اللغوي العربي الفصيح:
قال سبحانه وتعالى: ( وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) سورةالبقرة، الآية235.

والمقصود الجنسي من الآية واضح. وقد كنى الله عز وجل عنه بكلمة السر، تأدبا وتلطفا، كما ورد في معاجم اللغة العربية، وفي كتب التفاسير.

ــ المثال الثاني من الشعر العربي القديم، قال الأعشى:
ولا تقربن من جارة إن سرها
عليك حرام فانكحن أو تأبدا


والمراد بالسر، في بيت الأعشى واضح أيضا. ومعنى تأبد: ابتعد.
فالمرأة في عرف العرب، وحتى قبل مجيء التعاليم الإسلامية الدينية السمحة سر زوجها لأنها تنكشف له وحده دون سواه. والعكس بالعكس صحيح أيضا، صونا للأصول ولحقوق النسب. فلا يحق لهما أن ينكشفا على بعضهما البعض إلا بالزواج. وقد حكم بذلك الأعشى، منذ العصر الجاهلي، في بيته السابق.

ولنا في سورة يوسف عليه السلام، وفي قصته مع زليخة التي مارست عليه لعبة الإثارة والغواية خير مثال للمقاربة الربانية المتكاملة لجوانب هذا الموضوع الشائك، سواء في بعدها المادي الجسدي الشهواني، أو في بعدها الروحي النقي السامي، من غير إفراط أو تفريط، أو تجاوز لحدود اللياقة والأدب.

فلماذا يتحدث القرآن عن الجنس بهذا الشكل الشفاف الراقي، ويصم كثير من المتشددين في الدين والمتزمين آذانهم عن هذا الموضوع جملة وتفصيلا…؟؟!!

ومن المفارقات العجيبة لهذا الموضوع أن الناس يمارسون الجنس بالفعل أو بالإثارة، بالرمز أو بالإشارة، في الواقع وفي الحلم وفي الخيال، وفي دوائرالحلال والحرام، وبالطرق السوية والشاذة، والصحية والمرضية …، ولكنهم لا يتحدثون عنه إلا في أضيق الحدود، وفي غالب الأمر لأغراض ذاتية نفعية كالغواية والإثارة، والشهرة والتغرير، والدعارة والإفساد، أو لأغراض تهجمية وتدميرية كتشويه السمعة والتشنيع والتحقير؛ فكثيرا ما تتخذ تهم التحرش الجنسي والخيانة الزوجية مثلا سببا لتحطيم القلوب، وإثارة الفتن في أوساط المحبين، بل وحتى لتصفية الحسابات الشخصية، والإطاحة بكبار الوجهاء والرؤساء والحكام، من غير لجوء إلى مؤامرات سياسية أو انقلابات عسكرية؛ فتهمة جنسية واحدة صادقة أو كاذبة قد تنسف في ثانية واحدة ما بني خلال أعوام متوالية…

ومع خطورة هذا الموضوع، على مستوى الفرد والأمة والعالم أجمع تبقى قضايا الجنس، وخاصة داخل الوطن العربي، من بين الملفات السرية المطوية التي لا تفتح غالبا، إلا لغرض التشنيع، مما يجعلها بعيدة عن كل رؤية مستنيرة، أوفهم رزين، أو مقاربة سليمة لجوانب هذا الموضوع الخطير الشائك. وخاصة بعد أن عج عالمنا الواقعي والفضائي والافتراضي بأوكار الرذيلة والفاحشة.

وتلك الأوكار يرتادها كثير من الناس اليوم خلسة، كبارا وصغارا وذكورا وإناثا عبر الفضائيات والمواقع والمنتديات وحتى المدونات، فيما يشبه سلوك خفافيش الليل التي تأوي دائما إلى العتمات الفاسدة الموبوءة.

وإذن، كيف يتعامل المدونون وقراؤهم اليوم مع هذا الموضوع، وما هي المقاربة العلمية المنهجية المثلى له انطلاقا من واقع المدونات العربية، مقاربة توفيقية تجمع بين رأي من لايقبل الخوض في هذا الموضوع من أساسه، وبين من يقبل عليه بتعقل، وبتحفظ وبحذر، أو بانزلاق وجنوح وتهور.
هذا هو موضوع الورقة المقبلة التي سنعرض لها في الإدراج الموالي.

ليست هناك تعليقات: