السبت، 16 فبراير 2008

التدوين المغربي بين الفصحى والعامية

كتب في يناير 1, 2008

إذا سلمنا بأن القسم الأكبر من المدونين المغاربة يكتبون باللغات الأجنبية وخاصة الفرنسية فإن القسم القليل المتبقي يتوزع بين الفصحى والعامية، دون إغفال اللهجات الأمازيغية التي قد يكتبها بعض المدونين بحروف عربية أو لاتينية، أو قد يكتبها البعض الآخر بحروف (تيفناغ ) التي اعتمدها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، سواء بالنسبة للهجة (تاريفيت) في شمال المغرب، أو (تامازيغت) بالنسبة لوسطه أو( تاشلحيت) بالنسبة لجنوبه، وحتى (الحسانية) بالنسبة لأقصى جنوبه الصحراوي .

إن هذا التعدد الثقافي واللغوي في مشهد التدوين المغربي ظاهرة طبيعية وصحية تجد تفسيرها العميق في التعدد الجغرافي والمناخي الذي ينعكس على سحنة المغاربة وعلى لون بشرتهم، ويؤثر بشكل كبير في لكنتهم وحتى في عاداتهم وطباعهم وأمزجتهم.

ولكن، لا أحد في هذا البلد يملك أن يزيح فسيفساء واحدة من هذا المشهد اللغوي المتنوع إلا إذا كان في وسعه، وأنى له ذلك، أن يزيل من خريطة المغرب سهله أو بحره أو رمله، أو يزحزح بجرة قلم أو كبسة زر جبلا واحدا من جباله الشامخة الممتدة إلى الأزل عبر السلاسل الريفية أو الأطلسية.

ومهما علت أصوات بعض الغلاة من أصحاب النزعات اللغوية واللهجوية الانفصالية والإقصائية عبر هذه الجريدة أو تلك، أو عبر هذا الموقع أو ذاك فإن ذلك لن يستطيع أن يغير من حقيقة هذا المشهد شيئا.

ومنذ أن من الله على المغرب بنعمة الإسلام أصبحت اللغة العربية الفصحى أحد المعالم الكبرى المحددة لكيان المغاربة، مثلهم مثل باقي الشعوب العربية والإسلامية الأخرى، وقيمة مضافة إلى جانب ما قد يتقنوه بامتياز من لهجات محلية، أو لغات أجنبية.

والذي يقرأ تراث المغرب الغني في جوانب العلم والفلسفة والتاريخ والأدب والعمران يدرك مدى أهمية اللغة العربية في تشكيل وعي ووجدان المغاربة الجمعي، وفي التعبيرالقوي الفعال عن حقيقة كيان المغاربة قاطبة، بغض النظر عن سلالاتهم وانتماءاتهم القبلية أو الجغرافية المتنوعة بين سهل وجبل، وبر وبحر، وخصب وجدب.

ويدرك أيضا حقيقة الأدوار الكبرى المتبادلة بين مختلف شرائح وأطياف المغرب في صناعة الحضارة المغربية على أكمل وجه من وجوه التضامن والالتحام، وهذا طبعا بغض النظر عن اختلاف ألوان البشرة وتعدد الللهجات واللكنات أيضا.

وقد يكفي هنا كدليل، أن نستحضر اللحظة المشرقة من حكم الموحدين (خلال القرنين السادس والسابع الهجريين)؛ فقد انصهر في الحضارة الموحدية مجهود العرب الوافدين من الشرق والأندلسيين والمغاربة المحليين ذوي اللسانين: العربي والأمازيغي دفعة واحدة.

ومع أن الأمازيغية لم تكن مكتوبة خلال العهد الموحدي، كما كان حال اللغة العربية الفصحى، غير أنهم كانوا يأمرون بترجمة رسائلهم وخطبهم شفهيا إلى الأمازيغية.

وهذا ما عبر عنه بعض المؤرخين آنذاك بعبارة ( قال فلان أو خطب فلان باللسان الغـَربي ) يقصدون بذلك اللسان الأمازيغي وليس الأوروبي كما هو في المفهوم السائد في وقتنا الحالي لكلمة (الغرب).

ومع أن التداول الشفوي للآداب والفنون الشعبية (اللهجوية) المحلية من الزجل والملحون والموشح قد بلغ مداه خلال العصر الموحدي أيضا غير أن حظ المكتوب منها بقي في حكم العدم. وقد اعتذر عبد الواحد المراكشي في كتابه التاريخي المشهور ( المُعجب) عن إيراد أي نموذج من فن الزجل أو الملحون بحجة أن العادة لم تجر في عهده إلا بتدوين ما هو عربي فصيح.

ونحن في هذا الإدراج لسنا بصد الدفاع عن اللغة العربية أو التحيز لها ضد أي استعمال لغوي أجنبي أو لهجوي محلي؛ لأن اللغة العربية تحمل في داخلها مقومات لا حصر لها للبقاء والتعايش والاستمرار مهما يمكن أن يتراكم عليها من غبار أو يعلوها من صدأ.

وإنما نريد فقط أن ننبه إلى ما يمكن أن تشهده اللغة العربية من تراجع بسبب ما يعرفه المشهد الإعلامي السمعي والبصري والتدويني داخل بلد المغرب خاصة وفي الأوطان العربية كافة، من ميل متزايد إلى تغليب اللهجة والأسلوب المحلي الدارج.

كما أن ضعف التعبير باللغة العربية الفصحى أصبح ظاهرة عامة مقلقة ومحرجة في صفوف التلاميذ وحتى لدى طلبة الجامعة المنتسبين إلى تخصص اللغة العربية وآدابها فضلا عن من دونهم، بسبب التساهل المفرط في قواعد اللغة العربية من نحو وصرف وإملاء، فضلا عن سيادة ثقافة التسطيح والبذاءة عبر كثير من الصحف والجرائد ومئات من القنوات الفضائية العربية الترفيهية التي تبث عبر مدار الساعة أطنانا من رسائل ( التشات) التافهة الركيكة التي تنحت في جوانب الفصحى دون أن تنفذ إلى عمقها كما ينحت السيل في الصخر.

وليت المشكل بقي محصورا في أمر تراجع استعمال اللغة العربية الفصحى بين المدونين العرب خاصة ومستعمليها عامة أمام البدائل الكثيرة المتاحة أمامهم، وإنما سيتعداه إلى تراجع مماثل في التواصل بين المواطنين العرب داخل البلد العربي الواحد، وبين البلدان العربية كافة، عندما سنحتاج في يوم من الأيام إلى سفير أو ترجمان عند حلولنا بهذه المدينة المغربية أو تلك أو بهذا البلد العربي أو ذاك.

فاللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم ستبقى، في الحدود الدنيا لمطامحنا، أهم ضامن لوحدة الشعوب العربية من محيطها إلى خليجها، وخاصة عندما يفقد الأمل في حكامنا وساساتنا ومن آل إليه تدبير شؤوننا في الحال والمآل للم شعث هذه الأمة.

ليست هناك تعليقات: