الجمعة، 15 فبراير 2008

من الكتابة إلى التدوين

كتب يوم الأحد,تشرين الأول 21, 2007

ترى ما الفرق بين التدوين والكتابة؟؟
تتحدد أهمية الأسئلة البديهية فيما تتيحه من إمكانيات متعددة للجواب.

وسؤال التدوين هذا الذي نوجهه اليوم إلى التدوين هو نفسه السؤال الذي وجه من قبل إلى الكتابة نفسها عندما استُحدثت لأول مرة في تاريخ التطور البشري الأقلام والمحابر.

وقد يتحد مفهوما الكتابة والتدوين في الأهداف والغايات لاقترانهما في عقل الإنسان وباطنه، وبما ينتفع به في دنياه وآخرته وفي سره وعلانيته وفي مصالحه العاجلة والمؤجلة، هذا وإن تفرقت بالتدوين والكتابة السبل والوسائل.

وإذا رجعنا إلى الدلالات المعجمية في القواميس العربية الكلاسيكية لمادتي: (كتب) و(دون) فإننا نجد منها ما يلي:

الديوان: مجتمع الصحف، فارسي معرب، والفعل منه دون، والجمع دواوين. وفي الحديث: لا يجمعهم ديوان حافظ؛ قال ابن الأثير: هو الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء. وأول من دون الديوان عمر رضي الله عنه.
ولم ترد كلمة الديوان، على ما نظن، ولا واحدة من مشتقاتها في القرآن الكريم.

والكتاب اسم لما كتب مجموعا، والكتاب مصدر، والكتابة لمن تكون له صناعة، مثل الصياغة والخياطة. والكِتبة: اكتتابك كتابا تنسخه. ويقال: اكتتب فلان فلانا: أي سأله أن يكتب له كتابا في حاجة، وفي التنزيل العزيز: (اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا )؛ أي استكتبها. ويقال: اكتتب الرجل إذا كتب نفسه في ديوان السلطان، وفي الحديث: قال له رجل: إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، أي كتبت اسمي في جملة الغزاة. والكتاب ما كتب فيه. وفي الحديث: من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكأنما ينظر في النار. وقيل في شأن هذا الحديث أنه محمول على الكتاب الذي فيه سر وأمانة، يكره صاحبه أن يطلع عليه، وقيل أيضا هو عام في كل كتاب. وفي الحديث أيضا: لا تكتبوا عني غير القرآن، وقيل في توجيه هذا الحديث: إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة. والمُكتب: المعلم الذي يعلم الكتابة. والمكتب موضع الكتاب والكتب، والكتاب موضع تعليم الصبيان. ورجل كاتب حرفته الكتابة والجمع كُتاب وكًتبة. وقيل الكاتب العالم، قال تعالى ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون) وفي كتابه إلى أهل اليمن: قد بعثت إليكم كاتبا من أصحابي، أراد عالما. لأن الغالب على من كان يعرف الكتابة أن عنده العلم والمعرفة، وكان الكاتب عندهم عزيزا وفيهم قليلا. والكتاب يوضع موضع الفرض والحكم قال تعالى( كتب عيكم الصيام) معناه فرض. وكتاب الله حكمه.

وقد وردت مواد الكتابة بصياغات مختلفة وفي سياقات متعدد في القرآن الكريم . وقد أضفى عليها المفسرون والمعجميون فوائد جمة مما يدل على خصوبة هذا التداول اللغوي واتساع نطاقه. ولذلك فقد أوردت لها المعاجم العربية معاني ودلالات شتى ، فليراجعها من شاء في لسان العرب والصحاح وتاج العروس والقاموس المحيط…

ولم يكن القصد من إيراد هذه التعريفات اللغوية والدلالية بخصوص كلمتي التدوين والكتابة أن نشحن ذهن القارئ الكريم بمواد معجمية قد لا تعنيه من قريب أو بعيد، وإنما كان القصد أن نستخلص منها النتائج التالية.

- يستفاد مما ورد في المعاجم العربية أن مواد الكتابة أكثر أصالة وتداولا في البيئة الثقافية العربية القديمة من مواد التدوين، فقد دخلت كلمة التدوين إلى الثقافة العربية عن طريق الاقتراض اللغوي من الفارسية إلى العربية شأنها في ذلك شأن كثير من الكلمات الحضارية والصناعية التي اغتنت بها اللغة العربية إبان صدرالإسلام، وفي العصر العباسي خصوصا عندما بلغ التلاقح العربي الفارسي أوجه كما يدل على ذلك شعر العباسيين ونثرهم، وهذا بخلاف الأمويين الذي أقاموا جدارا منيعا بين العرب والفرس، لغلبة النزعة العروبية والعصبية القريشية على توجههم في الحكم والإدارة وفي كل ما يرتبط بهما من معرفة وأدب.

- إن عودة مصطلح التدوين في التداول اللغوي العربي المعاصر أمر ملفت للانتباه، ولكن لم تعد له علاقة قوية بما درجنا عليه في الاستعمال القديم كأن يتعلق الأمر مثلا بديوان الشعر، أو ديوان الإنشاء والرسائل، أو ديوان الجند وغير ذلك مما يفيد معنى التوثيق والتثبيت بين دفتي كتاب أو كراس أو كناش.

- إن الاستعمال المعاصر لكلمة التدوين انتقل من مستوى التوثيق الخطي عن طريق الكتابة اليدوية على مسطح ورقي إلى التوثيق الرقمي عن طريق نقر الحروف على مسطح زجاجي مشع بالأرقام والحروف والألوان. ومن ثم صار التلازم قويا بين المعرفة والخبرة التقنية المرتبطة بعمل أجهزة الحاسوب وأنظمة تشغيله المعقدة وفي تنسيق الخطوط وفي حفظ المعلومات واستنساخها واسترجاعها بواسطة الذاكرة الثابتة والمتحركة، أو البحث عنها عبر المواقع الافتراضية المبثوتة على الشبكة العنكبوتية بمساعدة محركات البحث العملاقة. وهو نفسه التلازم الكلاسيكي بين الكاتب الورقي وما يحتاج إليه من قلم ومداد وقرطاس.

- ومع انتشار المدونات العربية على نطاق واسع، كما هو واقع الحال بالنسبة لصحون التقاط البث الفضائي فوق السطوح كالفطر عندما يعلو المزابل، فلا زال هناك نوع من التحفظ والتوجس تجاه عمل التدوين وطبقة المدونين عامة في بيئتنا الثقافية العربية المعاصرة، ولازالت رتبة المدونين الكبار المتخصصين دون رتبة الكتاب الورقيين، وإن كانوا مثلهم في أصالة التفكير وجودة التعبير.

- فهل سيتمكن المدونون من انتزاع اعتراف ساحق من مجتمعهم يجعل من عمل التدوين حرفة وصناعة يشتهر بها صاحبها ويعترف له بها في بطاقته الشخصية كما هو حال الكتاب الورقيين؟؟.

- ربما الزمن وحده هو الحَكم بين ما سيؤول إليه واقع الكتابة والتدوين في الأمد القريب أو البعيد، إما عناقا وإما افتراقا وإما صراعا يفضي إلى إلغاء أحدهما أو كليهما معا عندما تتجاوز البشرية مرحلة ما بعد الكتابة وما بعد التدوين أيضا عندما تزول الأطباق المقعرة والخيوط المتصلة من الوجود البشري الأرضي، وعندما يسكن البشر في مدن زجاجية، وفي فقاقيع هوائية شفافة معلقة بين السماء والأرض. وإن غدا لناظره لقريب….

ليست هناك تعليقات: