السبت، 16 فبراير 2008

حكايات هامشية 3

كتب يوم يناير 30, 2008

الحلقة الثالثة: لغز الخوف من عوالم البرية.

قد لا يحتاج أحد القراء مثلي ممن قضوا شطرا من حياتهم يجوبون الأحراش والبراري، وممن تلونت جلودهم بلون الشمس القمحي، وكرعوا الماء بأفواههم عند طرف جدول أو غدير إلى تعريف ما لعوالم البرية. فهذه العوالم ينبغي أن تعرف ولا تـُعرَّف أو توصف.
ولكنني أدرك أن كثيرا من أطفال اليوم قد لا يعرفون من معانى البرية، فضلا عن حكايات البرية العجيبة إلا ما ارتسم في أذهانهم الصغيرة من وراء شاشة التلفاز، أو من خلال القصص المصورة ل(ترزان) أمير البرية وصديق الحيوان.

ولهذا تراهم يرتعدون خوفا كلما رأوا صرصورا أو فأرا صغيرا، ويتجمدون في مكانهم من الفزع والهلع يبكون ويستغيثون كلما اعترض طريقهم قط من قطط الشوارع، ويرتفع بكاؤهم ونحيبهم في عنان السماء أكثر كلما دنا منهم ذلك القط السمين البطيء المترهل الأشعث الأغبر، ويتضاعف الخوف والصراخ والعويل أكثر وأكثر، وكأن القيامة قد قامت عندهم، كلما تجرأ ذلك القط وتمسح بوقاحته المعهودة بأرجلهم الصغيرة الغضة الطرية، أو داعبهم بذيله المعقوف الطويل، أو هم بلعق أحذيتهم اللامعة بلسانه الأحمر الصغير، ليس لخبثه ولا لرغبته اللعينة في التحرش شأن بعض القطط الآدمية ذات الجاه والوجاهة والمال والأظافر والخناجر، وإنما لبعض الفضول الذي تعلمه من عادته الطويلة في حشر رأسه الصغير في القمامات وفي كل شيء، أو ربما لأنه يتخيلهم في هيأة دمى متحركة صنعت توا للعب والمداعبة لما هم عليه من حسن الترتيب والتلميع والتصفيف وحسن الهندام. أو ربما لأنه يقصد فقط، وبشكل غريزي وطبيعي، أن يكسر حاجز الخوف القابع في نفوسهم والجاثم على صدورهم بتلك المداعبة اللطيفة.

كما أعلم أن معظم أطفالنا اليوم ما عادت عيونهم تصافح هالة القمر المستديرة في السماء، ولو مرة واحدة في الشهر أو في السنة، وكأنهم قد دفنوا بالحياة داخل مربعات ومستطيلات الحديد والزجاج والبلاستيك والإسمنت والإسفلت.

كما أن معظم أطفال اليوم لا تستطيع عيونهم الرطبة من فرط إدمان النظر في شاشة الهاتف النقال وأجهزة اللعب الإلكتروني أن تقع على ضوء الشمس إلا من وراء زجاج النظارات السميك الداكن، كما لا تستطيع جلودهم البضة الفتية أن تصبر، ولو لدقائق معدودة، للفح شمس النهار إلا بدهن مرطبات الجلد والمراهم.

ولذلك ينبغي، من الآن فصاعدا أن نعد الأعذار لأطفالنا في المستقبل القريب إذا ما رسموا لنا القمر في هيأة مربعة أو مثلثة، أو رسموا لنا الحمار بقرون بارزة، أو الثور بأثداء متدلية…فهم لا يتصورون العالم الخارجي الطبيعي إلا من خلال ما توحي لهم به برامج الألعاب والخيال الافتراضي التي تعمل في كل يوم على تشويه ومسخ وطمس معالم وحقيقة العالم الطبيعي في عقولهم وأذهانهم ونفوسهم…

وبالأمس القريب فقط كانت البرية جزء من مدرسة الحياة، يتعلم الناس على اختلاف مستوياتهم وأعمارهم بين خمائلها وجداولها وأحراشها على مدار العام وعبر تقلبات الفصول، ما لا يمكن أن تقدمه لهم النظريات والأطروحات العلمية المتخصصة؛

فهناك فرق كبير بين أن تقرأ عن الخوف مثلا في نظريات علم النفس الطبي السريري، وبين أن تستشعر قمة الخوف عندما يفاجئك في جنح الليل لأول مرة ذلك الذئب الحقيقي، الذي يمكن أن تكون قد قرأت عنه سابقا في الحكايات الخيالية المسلية، لكن هذه المرة تجده بحقيقته كما هو في الطبيعة وبلحمه وشحمه وعوائه وتكشيرة أنيابه.
وحين يحفزك هذا الخوف ذاته على المواجهة والمجابهة الحقيقية تنحل عقدة الخوف الذئبي لديك بيسر وسهولة لتنتقل إلى مغالبة الخوف الثعلبي والأسدي وهكذا دواليك…؛ فكل الحيوانات الطبيعية والآدمية تخشانا بمقدار ما نخشاها وزيادة….ولكن العامل الحاسم يرجع إلى حكم العادة وإلى طريقة الإعداد والتكوين والتربية.

ففي حالة الخوف الأولى البكر الخالية من الممارسة والتجربة يظل الخوف في نفسك كما هو، إن لم يزدد ويتراكم بنسب مضاعفة ومركبة عند تبلد الخواطر واستمراء طعم رفاهية الخمول وفراغ والراحة.
وأصعب شيء على الإنسان أن يخاف من الخوف نفسه، كأن يخاف من جهله أو من أوهامه مثلا، أو حتى مما ليس له أصل في الوجود.

وأعتقد أنه لدى حكامنا العرب مثل هذه العقدة التي قد تشبه في كثير من جوانبها وملابساتها عقدة خوف الأطفال الصغار من الأشباح ومن قطط الشوارع..!!
حقا، لقد أثبتت لنا التجارب والأحداث والوقائع التي تعاقبت على بلادنا العربية خلال السنوات القليلة الماضية التي يشيب من هولها شعرالولدان، أنهم يعيشون حالة وهم فظيع من البعبع الإسرائيلي ومن الفزاعة الأمريكية أو (خيال المقاسة) بلغة إخواننا المصريين، مع أنه يمكن لهم بسهولة أن يتجاوزوا عقدة الخوف المتمكنة من قلوبهم.
وقد يكفيهم فقط أن يقولوا بملء شدقهم كلمة: لا، ويعلنوها بثقة وصراحة ودون استحياء أو مواربة في وجه إسرائيل وأمريكا، ولو مرة واحدة في حياتهم، فرادى أو مجتمعين إذا ما قدر لهم في يوم من الأيام أن يجتمعوا بصدق وعزم حقيقين، بعد أن ينزعوا من أنفسهم الخوف من أمنا الغولة.
وإن كنت أشك في ذلك لعوامل التربية السياسية والدبلوماسية المتراكمة في جوانبها المخملية الناعمة التي تبتعد بهم وبنا جميعا في كل يوم أكثر عن حكايات (السرحة) والبرية.. .

فكلمة لا هذه على شفاه حكامنا أحلى من كل عسل، ومطمح شعوبهم الذليلة المنكسرة، وهي وإن كانت في الحدود الدنيا جهد المقل، غير أنها يمكن أن تغير أشياء كثيرة في واقعنا العربي المترهل بالفساد وبوهج النفط الزائف وعائدات اليورو والدولار المكدسة في الجيوب والبطون والفروج…!!

وقد كان من الممكن لهم، لو صح عزمهم، أن يجلبوا بتلك الأموال الطائلة وصفة دواء سحرية لتقوية جهاز الممناعة المنعدمة لديهم. ولو كانت تلك الوصفة ممتزجة بلبن العصفور لتخلصت، أو معلقة في قرن الشمس البعيدة لأحضرت …وهل ينفع النداء إذا (طنش) المنادي…؟!
وما أظن إلا أنهم يتشبثون بالتطبيق الحرفي للمثل المغربي المعكوس والمضروب والسيئ في الإعداد والتربية الذي يقول: (اللـِّي خـَافْ نـْجـا)، أو المثل المغربي الآخر: (الخـَوَّاف ما كـَتـْخاف عليه امـُّه)…
وأعتقد أن المثل الثاني ينطبق على حكوماتنا التي هي بمثابة أمهاتنا ليس من الرضاعة ولكن في التفريط والإهمال والوضاعة، فمن الأمهات الحقيقيات ما هن بثقل وقوة كتيبة كاملة من الرجال المكبلة بعقد الخوف بلا حول ولا قوة داخل الثكنات، والمستعبدة بالتطبيق الحرفي لما هب ودب من الأوامر والإملاءات.. .

وقد أعلنت إيران كلمة لا بعد أن نزعت كل عقد الخوف من حكومتها وشعبها لتنطلق إلى استراتيجيات أخرى جديدة أكثر أمنا واستقلالا للمناورة والمواجهة والمجابهة إن أمكن، ولتدوخ عدوها بملفاتها النووية في دهاليز الأمم المتحدة وغير المتحدة جيئة وذهابا وتجعل أمريكا وإسرائيل حائرتين تتقلبان فوق صفيح ساخن كالمرجل، من الغيظ والحيرة والارتباك والحرقة وطبقتها لبنان بشكل محدود مشخص في حزب الله في حرب تموز الماضية، وكان من أمر ذلك ما كان… لولا عقد المنشار الكثيرة في وطننا العربي، ولولا العصي الممتدة في كل مرة لشل حركة عجلة القطار العربي الذي لا يراد له أن يتحرك أبدا…

وإذا، وباختصار شديد، يمكن لمزاج الخوف لدى شعوبنا وحكامنا أن يعتدل إذا ما أعدنا النظر الجاد في دروس الممانعة التطبيقية الأصيلة الطبيعية، واستفدنا من دروس الحياة في البرية.

ليست هناك تعليقات: