الأربعاء، 13 فبراير 2008

القطار والشعر 2

كتب يوم الأربعاء,تشرين الثاني 22, 2006

الورقة الثانية: ما أشبه الشعر العربي بالقطار وبخطوط السكك !!

لم أجد، في حدود ما اطلعت عليه من كتب ودراسات للنقاد العرب المحدثين ربطا بين الشعر العربي والقطار، أو مقارنة مَــا بين سكك الشعر العربي اللغوية وبين خطوط السكك الحديدية.

وقد تكون خطوط السكك الحديدية وتقاطعاتها العجيبة، عند الملتقى، عبر المحولات اليدوية أو الكهربائية، وكذا صور القطارات السريعة والبطيئة التي ترسبت في ذهني وتفاعلت في كياني من الصغر حتى الكبر، كما أوضحت في الإدراج السابق، من بين الأسباب الخفية التي فعلت فعلها السحري الخفي في نفسي، ودفعتني للحديث عن موضوع الشعر والقطار، وعقد مثل هذه المقارنة العجيبة بين كتلة القطار الحديدية وكتلة الشعر اللفظية.

إن ذكريات الماضي المترسبة في محيط النفس الواسع كثيرا ما تفرض نفسها علينا بقوة فتطفو على السطح عندما تثيرها الأشواق والأشجان، فيتجدد عهدنا بها مرة تلو المرة كأنها بنت اللحظة، وإن كانت قد بلغت من العمر مدى قصيا.

وهكذا، قد يجد المدون أو الكاتب نفسه فجأة محشورا في زوايا نفسه يتعثر في أكوام ذكرياته، ثم يحاول جاهدا أن ينهض ويلملم ما تبعثر من خيوط تلك الذكريات، أويبحث لها عن روابط ممتدة بين الأمس واليوم، ويصنع لها صورة حقيقية من نسج كلامه لتثبت وتسكن أخيراعلى سطح ورقة أو شاشة حاسوب حتى لا تضيع منه مرة أخرى، أو يفقدها إلى الأبد.

وإذن، ما علاقة الشعر العربي الذي هو كتلة من لحم اللغة وشحمها، وذوب من عصارة تجربة صاحبها في ورشة عقله الصغير المبدع، وبين القطار الذي هو كتلة من الحديد المنصهر في معامل الأفران العالية قبل أن يصير قاطرة أو عربة مجرورة أو قضيبا من فولاذ أوحديد ؟؟

لقد دأب أسلافنا المهتمون بصناعة الشعر العربي ودراسته ونقده، وقبل أن تظهر صناعة القطارات بزمن طويل، على ربط العملية الشعرية برمتها، بواقع حياتهم الماثلة أمامهم رغم طابعها الساذج الموغل في البداوة.
وربما لهذا السبب البسيط سهل عليهم أن يجدوا روابط منطقية وطبيعية عدة بين بيت الشِّعر أي: “الكلام المنظوم” وبين بيت الشََّعر أي: ”الخيمة”؛ فكما كانوا يلوذون بخيامهم المتواضعة طلبا لراحة أبدانهم المنهكة من الجري وراء قطعان الماشية في البراري القاحلة، أو بالكر والفر في حروبهم الطويلة الممتدة كانوا أيضا يلوذون بأشعارهم الغنائية والحماسية والشجية طلبا لراحتهم الفكرية والنفسية.

والذي يدرس علم العروض الخاص بالشعر العربي، أو يقرأ كتبه المتخصصة يكتشف بسهولة أن معظم ألفاظه ومصطلحاته مقتبسة من واقع الخيمة العربية ومتعلقاتها ومستلزماتها الضرورية والكمالية. بل إن نسج الخيمة من شعَر الماعز أو وبر الإبل والغنم هو أشبه ما يكون بنسج الشِّعر العربي نفسه، غير أن لـُحمته كلام وسـَداه ألحان وأنغام كان يحدو بها الحادي وجماعة الركبان على إيقاع خطوات الجمال الوئيدة، تماما كما يوحي بذلك جو قصيدة أمل دنقل “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” التي صور فيها الواقع العربي بعد نكسة حزيران المشؤومة، وفيها يقول، مما له علاقة بسياق إدراجنا هذا، ولو في جوانبه الرمزية التى قد لا تخفى على صاحب عقل حصيف ونظر ثاقب:
ما للجمال مشيها وئيدا
أجندلا يحملن أم حديدا

وعلى هذا، فالعلاقة واضحة بين بيت العرب”الخيمة” الذي تـُرفع أركانه وزواياه بالعمود الخشبي، ويشد إلى الأرض بالأوتاد والأسباب والحبال وبين بيت الشعر العربي الذي يـبنى على نفس النمط، ويرفع على نفس الدعائم والركائز تقريبا.

ومن ثم، فإن الولوج إلى الشعر العربي القديم أشبه ما يكون بالولوج إلى الخيمة العربية نفسها. ولذلك لم يجد الخليل بن أحمد الفراهيدي مكتشف علم العروض العربي أية غضاضة في الحديث عن عمود الشعر وأشطره وأسبابه وأوتاده المماثلة أيضا …

ولكن، هل يجوز لأحدنا اليوم أن يقيس هذا الشعر بنفس المقياس القديم، على غرار صنيع الفراهيدي مثلا، وأن يوجد له روابط أخرى منتزعة من واقع هذا العصر ومكتشفاته ومنجزاته أيضا؛ كأن يتحدث أحدنا مثلا عن علاقة هذا الشعر بالبنيان الشاهق بدل الخيمة، أو عن علاقته بحركة القطارات السريعة أو السيارات أو الطائرات النفاثة أو الصواريخ العابرة والأقمار الاصطناعية السابحة بدل حركة الجمال الوئيدة الرتيبة، أوعن صلة هذا الشعر بإيقاع الحياة الصاخب السريع من حولنا وبوسائل الاتصال المتطورة عبر الأثير وعبر دوائر الكهرباء والبطائق الممغنطة وعبر صبيب الأنترنت المتدفق على الدوام وعبر عناصر شرائح السليكون والرقائق الإلكترونية الدقيقة الجامعة المانعة بدل حركة الرواة والحداة وهم يرددون وينقلون الأشعار العربية بأصواتهم البشرية المحدودة عبر الرمال والتلال والجبال؟؟

وإذا ما عدنا مرة أخرى إلى علاقة الشعر بالقطار نكتشف أن نظام الشعر العمودي بشطريه المتوازيين يشبه تماما خط سكة الحديد الذي يتكون من قضيبين حديديين متناظرين ممتدين إلى ما لا نهاية ولا يلتقيان أبدا.

إن قوة نظام الشعر العربي العمودي الشطري السـِّككي على تحمل ونقل ثقل المعاني التي وردت على خاطر جميع الشعراء العرب، وعبر كل الأمكنة والأزمنة العربية كقوة السكة الحديدية تماما في الثبات والهدوء، وفي الرتابة والأمان، بحيث يخيل إلي أحيانا أن نظام الشعر العربي الشطري كأنه هو الذي أوحى لمكتشفي القطار وصانعيه بفكرة السكة الحديدية.
ولربما كان العرب أجدر باكتشاف فكرة القطار وخط سكته قبل غيرهم من الأمم، لأنها صورة ماثلة في أشعارهم منذ آلاف السنين، غير أنهم لم يستوعبوا حقيقة هذا الاكتشاف المبهر، لما هم عليه، دوما، من الذهول والغفلة عن الذات.

ولنا أن نتخيل حجم الأفكار والمعاني التي تناقلها العرب عبر سكة شعرهم الحديدية من لدن المهلهل وامرئ القيس حتى عصرنا هذا دون أن يضيع منه شيء يذكر؛ فأي شخص بمقدوره اليوم أن يحصي بضاعة الشعر العربي التي أوصلتها إلينا سكته، ولو أنفق في ذلك عمره كله وتعاونت على ذلك جهود عدة، وأي خط شعري آخر أقدر على الصمود في وجه الزمن، والثبات أمام الكوارث والمحن والحروب التي حلت بالعرب منذ فجر تاريخهم الطويل، ولا تزال إلى يومنا هذا متقدة في أكثر من مكان … ؟؟!!.

وإن من يقرأ أطنان الشعر العربي المكدسة في الدواوين والمجاميع وفي الكتب العامة والخاصة يشعر كأن ناظمها شخص واحد، وكأن مصدرها من مكان واحد، وكأن زمانها يؤول إلى زمن واحد، وأن سكة ذلك الشعر سكة واحدة ثابتة لا تتغير ولا تنحرف ولا تتآكل، وقد لا يزيغ عنها إلا هالك.

وقد تقرأ شعر المتنبي مثلا، فتحس كأنه لم ينظم في حياته المليئة بالأحلام والأوهام والتحديات والمجابهات إلى حدود الموت غير قصيدة واحدة يُفصلـُها على مقاطع حياته المتقلبة تفصيلا بدل أن يفصل مقاطع شعره على تفاصيل حياته.

وعندما استـُبدل نظامُ الشعر العربي السككي الحديدي الصارم هذا بما يـُسمي اليوم بالشعر الحر أو القصيدة النثرية ذات الشطر الواحد الممتد أفقيا أصبح هذا الشعر العربي الجديد أشبه ما يكون بالقطار الياباني فائق السرعة الذي يزحف بسرعة خارقة في مجال سككي مغناطيسي أيضا غير أنه أحادي القضيب.

غير أن نظام الشعر العربي الحديث هذا، ورغم مواصفاته الجديدة التي توحي بالسرعة القصوى والانسياب الخارق بدا أبطا من حركة قطار الشعر القديم في الوصول إلى أهدافه وتحقيق غاياته، إذ لم يتجاوز حدود التجريب ولم ينتقل بعدُ إلى دوائر التأصيل. وكثير منه لا يقنع حتى أصحابه الذين أنتجوه.

ولا تعدو كثير من التجارب الشعرية الجديدة، مع استثناءات قليلة، إما لبطئها الناتج عن تعثرها ودورانها على نفسها، أولتسرعها أن تكون شبيهة ببعض التدريبات الرياضية الشاقة، عندما يكلف المرء نفسه السير لمسافات طويلة على رجل واحدة، مع أن الله سبحانه وتعالى قد منحه رجلين تدعمان جسمه في حالة الوقوف التام، أو في حالتي الإبطاء والإسراع!!

فهل يعود قطار الشعر العربي الحديث يوما إلى سكته الحديدية التقليدية المزدوجة المأمونة؟ أم أنه قد أضاع سيره الأول؛ فلا هو أحسن مشيته الأولى، ولا هو أحسن مشية الغرب أو الغراب الذي قلده؟.

ومع أني قد وصلت، الآن، بهذا المقال الذي خصصته لموضوع القطار والشعر إلى نهاية المطاف ومحطة النزول بقيت في نفسي حرقة بعض الأسئلة: لماذا نقلد الغرب، ولا يقلدنا هذا الغرب حتى ولو تبدى لنا في صورة غراب الشؤم واللؤم؟ وإلى متى سيبقى هاجس الحداثة العربية التجريب واللهاث وراء هذا الغرب أو الغراب؛ فكلما شهق بأرضهم بعير أو صاح غراب أو نبح كلب إلا واستجابت لشهيقهم وصياحهم ونباحهم ببلادنا آلاف الأصوات المزهوة بالتقليد والبصبصبة؟.

متى نلتفت إلى أنفسنا وذواتنا، ومتى يتحرك قطار العرب المتوقف عند حدود النقل والتقليد؟؟

ليست هناك تعليقات: