الجمعة، 2 يوليو 2010

وماذا بعد شبكة الإنترنت العادية …!؟

ربما كان هذا السؤال الوارد في العنوان أعلاه، سابقا لأوانه في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا الإدراج لأن عهد البشرية بالإنترنت ما زال غضا طريا، ولم يخرج بعد من طور البحث والتجريب.

ومع ذلك بدأ كثير من الناس يصابون بنوبات ملل افتراضية قد تصل بالبعض إلى درجة الجفاء والقطيعة، وأصبح أقصى ما يطلبونه تصفح جديد بريدهم الإلكتروني بضعة دقائق لينفضوا سريعا عن حواسيبهم المتصلة زاهدين في بضاعة الإنترنت الأخرى المزجاة..

ويبدو الوضع حاليا بالنسبة لمن عايش تطور شبكة الإنترنت منذ نشأتها الأولى حتى اليوم، كما لو أنها استنفدت كل ما في جعبتها بعد أن أدت وظائفها الأساسية التي لا تكاد تخرج عن تأمين اتصال سريع بالحرف والصوت والصورة أو استعراض محتوى معين للفائدة أو المتعة أو التسلية أو حتى لمجرد الفضول، أو تخزين محتوى معلوم إلى أجل غير معلوم، فضلا عن هامش كبير متاح على مدار الساعة للقراصنة وقطاع الطرق والمتسكعين والمتسولين على عتبات بريدنا الإلكتروني وفي كل أماكن التعارف الاجتماعي العالمي.

وإذا ما حللنا الوظائف الأساسية للإنترنت: أقصد وظائف الإرسال والاستقبال ووظائف التسليم والاستلام فإنها لا تخرج عن طبيعة وظائف البريد العادي التي ما زالت قائمة بمنشآتها وبشبابيكها وبسعاة البريد الذين يجوبون الأرض جيئة وذهابا على دراجاتهم البخارية أو الهوائية أو حتى على الأقدام، يحملون الرسائل والطرود إلى أصحابها ويسلمونها لهم يدا بيد وبعد دق جرس الباب وإلقاء التحية، أو وظيفة عون البنك الذي يسلم الأموال أو يستلم الصكوك بعد فحص التوقيعات والتأكد من هوية الزبناء، أو وظيفة ناشر أو صاحب مطبعة أو كشك مركون في زاوية ينقل محتوى معين من مؤلف إلى قارئ، أو حتى متسول يسأل الناس إلحافا عند بوابة مسجد أو مدخل سوق أو محطة للمسافرين…
فماذا يمكن أن يقدم الانترنت أكثر غير تأمين الاتصال السريع وتقديم كثير من الخدمات الضرورية أو الكمالية دون مغادرة الناس لبيوتهم صوب محل تجاري أو بنك أو مكتبة أو بريد أو مصلحة حكومية…، أو بالأحرى ما ذا ينقص شبكة الإنترنت حتى لا يصاب كثير من مستخدميها بالقنوط والملل؟.

صحيح أن الإنترنت دنيا أخرى متوارية خلف شاشة الحاسوب، وهي تشبه دنيانا الحقيقية بل تكاد تكون لها نسخة ثانية مجانية كبضاعة كاسدة، غير أنها بدون لون ولا نكهة ولا روائح ولا توابل، ولا حس ولا نبض غير نبض الموجات الكهرومغناطيسية المتدفقة عبر الأسلاك وعبر أثير السماء، عندما نشغل جهاز الحاسوب، ونربط الاتصال بالشبكة.
فواقع الإنترنت حاليا واقع جامد رغم كل ما يعج به من أشلاء الصور المقززة التي تشمئز منها النفوس، أو الصور الكاملة المفضوحة إلى درجة العري والعهر والابتذال.

ويسعى المهندسون اليوم في الجامعات والمعاهد المتخصصة في نظم المعلومات والحاسبات وشبكة الاتصال العالمي لإخراج شبكة الإنترنت من حالة الجمود هاته عن طريق ضخ بعض الدماء الحيوية الجديدة في شرايينها، لتصبح أكثر جدة وشبابا؛ فمصيبة الإنترنت أنها تشيخ بسرعة، لذلك عليها أن تغير جلدها في كل دورة ألف مرة، كما تفعل الحيات خلال مراحل عمرها عندما تتخلص من جلدها القديم الذي يضيق عنها فتنزعه نزعا، لتكسب جلدا طريا انسيابيا ثم تعود فتطرحه في العراء في فترة تحول تالية.

وقد كثر الحديث في هذه الأيام عن دورة حياة جديدة للإنترنت، وهي دورة مثيرة حقا إذا ما تجسدت (نسبة إلى الجسد) وتأنسنت(نسبة إلى الإنسان)، وقد تكون خطوة فريدة من نوعها إذا ما قدر للانترنت أن تهجم علينا، كما يفعل العدو المتربص أوتحضننا، كما كل أم رؤوم، أو تغمرنا كما يغمرنا الليل، أو تفضحنا كما يفضحنا ضوء النهار، وخاصة مع ظهور الجيل الثالث من الإنترنت، حيث بدأت بعض المواقع تدخل مرحلة جديدة قادرة على انتشال الشخص من واقعه الحقيقي لتقذف به في عوالم غريبة ثلاثية الأبعاد أشبه ما تكون بالعوالم الأخرى العجائبية، أقصد عوالم ما وراء الحقيقة وما وراء الطبيعة.

ترى، كيف سيكون واقع حالنا عندما ستغمرنا الانترنت قريبا بمحتوى رقمي جديد لا نراه أو نسمعه أو نقرأه فقط وإنما نشمه ونتذوقه ونلمسه؟. وعندها ستبدأ مرحلة أخرى من الكتابة والتدوين الجديد لا أعرف بالضبط كيف ستكون. ولكنها على كل حال ستتجاوز معطيات التراسل القديم بالنصوص والصور والرموز والأيقونات بمسافات بعيدة إلى التراسل بمعطيات حواسنا الخمسة دفعة واحدة. وعندها سيصبح في إمكاننا أن نتحسس افتراضيا حرارة من نصافحهم عن بعد، أو حتى أن نصفعهم باليد على الخد أو القفا عن بعد أيضا بدل أن نهجوهم بالكلام أو نسخر منهم بالرسم والصورة والكاريكاتير.

وعندما ستحقق هذه الأحلام أو الأوهام يمكن عندها أن نقول عن شبكة الإنترنت إنها قد دخلت دورة النقمص من أوسع أبوابه لتماثل دور الإنسان في أقواله وحركاته وفي أفعاله وفي انفعالاته أيضا. لكنها ستكون من طينة غير طينته، وربما قد تتفوق عليه فتستخدمه بدل أن يستخدمها وتطلبه إلى الحرب والسلم واليقظة والنوم بدل أن يطلبها إلى ذلك.
وما أتمناه في نهاية هذا الإدراج أن لا أكون قد تجاوزت حدود الكلام المعقول إلى ما يشبه حلم اليقظة أو الهذيان.

الأربعاء، 19 مايو 2010

الإنترنت عند مواعيد الامتحانات

صار للبيئة التعليمية في بلادنا المغرب، كما في بقية بلدان العالم، وجهان: أحدهما واقعي يكون بوجود المقررات والمناهج المعتمدة من لدن الوزارات الوصية وبحضور المتعلمين والأساتذة كأشخاص ذاتيين حاضرين بلحمهم وشحمهم داخل الفصول والحجرات والأقسام النظامية.

أما الوجه الثاني فهو كل ما انعكس في البيئة الافتراضية مما له علاقة بأمور التعليم والتحصيل، سواء في شكل مواقع تربوية وتعليمية تابعة لمؤسسات التربية والتعليم العمومي أو الخاص، أو في شكل مواقع ومنتديات ومدونات خاصة بالتلاميذ والطلبة والأساتذة وكافة الأطر التربوية والإدارية.

وقد عرفت البيئة التعليمية الافتراضية في بلادنا، وخلال سنوات قليلة ماضية لا تتجاوز عند العد أصابع اليدين، امتلاء كبيرا يكاد يصيب المتصفح لها اليوم بالتخمة والغثيان. وكل ذلك راجع إلى ما يطبعها من حشو ونقل حرفي بمختلف عمليات القص واللصق الرقمية الممكنة.
وعلى العموم، فالمعروض الافتراضي من المواد التربوية والتعليمية كثير، ولكن المفيد منه قليل، وأغلبه معاد مكرور ويفتقد في الغالب، إلى حس الإبداع والتجديد؛ سواء تعلق الأمر بالدروس وتطبيقاتها، أو بالأسئلة وأجوبتها، أو بالتمارين وحلولها…

وليس في كلامنا هذا أي تقليل مقصود من قيمة الجهود المبذولة من لدن كل الأشخاص الذين يعملون ليل نهار على صب مواد التربية والتعليم على اختلاف أنواعها ومسمياتها وتخصصاتها في بحر الإنترنت. وكثير من هؤلاء لا يدخر أي جهد فني خاص بتصميم الصفحات والبوابات التربوية من حيث اعتماد آخر صيحات البرمجة الرقمية.
ولكن، ما جدوى كل بناء حقيقي أو افتراضي إذا أُسسا على مضمون ضحل يشبه الفراغ أو فوضى أو عشوائية، أو غياب رؤية واضحة استشرافية.

وخلال الأيام القليلة التي تسبق مواعيد الامتحانات السنوية أو الدورية يزداد إقبال المتعلمين في بلادنا على استهلاك المواد الافتراضية التي لها علاقة بالمنهاج أو المقرر المعتمد لكل فصل أو شعبة أو مسلك في أحد الفروع العلمية أو الأدبية أو التقنية.
وتسطيع بكل بساطة أن ترصد حركة الطلاب والتلاميذ المتزايدة زرافات ووحدانا في اتجاه مواقع التربية والتعليم على الإنترنت خلال تلك الأيام القليلة التي تسبق كل اختبار أو امتحان من خلال ملاحظة مؤشر عداد الزوار للمواقع والمدونات والمنتديات وكل الصفحات الإلكترونية التي تتنافس في تقديم مواد التربية والتعليم بسخاء حاتمي يفوق التصور والخيال؛ فمؤشر عداد زوارها قد يصل في الأيام القليلة التي تسبق كل امتحان مهم أقصى درجات ارتفاعه، بينما يكون في أوقات العطل الصيفية مثلا في أدنى دراجات انخفاضه.

ولعل أهم المواعيد التي تنتظر التلاميذ كل عام موعد امتحان الباكالوريا، أما أهم مواعيد التكوين المستمر لأطر التربية والتعليم فموعد اختبار الترقية وموعد الامتحان المهني، وحيث تعرف المواقع المختصة بمناهج التدريس ومواد الديداكتيك وعلم النفس والبيداغوجيا أقصى درجات الإقبال من لدن رجال التعليم الذين يطمحون إلى تغيير الإطار، أو يطمعون في ربح بعض الوقت عبر الترقي السريع قبل نفاد العمر بدل الانتظار الطويل في طابور الأقدمية.

ولا شك أن كثيرا من وقت ناشئتنا الفتية يمكن أن يضيع هدرا في كل فترة حاسمة من فترات الامتحانات الصعبة في غياب خطة استراتيجية ذاتية محكمة للمتعلم نفسه، أو انعدام توجيه مباشر من مشرفه التربوي، داخل البيئة التربوية أو من قبل ولي أمره داخل البيئة العائلية.

ومع الأسف الشديد، فإن معظم المتعلمين والمتمدرسين يجدون أنفسهم في فترات الامتحانات العصيبة وجها لوجه أمام غابة الأنترنت المتوحشة غير المحمية، من دون بوصلة، ومن غير أدنى توجيه؛ فتتقاذفهم التيارات والرياح في مسلك غير المسلك وفي اتجاه غير الاتجاه، ويسلمون زمام أمرهم إلى محركات البحث الرقمية العشوائية التي قد تصيب الهدف المنشود مرة، وتخطئه عشرات المرات.
ولنا أن نحسب الوقت الضائع من بين أيديهم ومن خلفهم بين نتيجة بحث واحدة صحيحة على الإنترنت مقابل عشرات النتائج الخاطئة، ثم ما بالك بما فوق ذلك كله مما يقتضيه كل مقرر أو منهاج من حيث خطط الفهم والاستدلال والاستنباط والاستنتاج.

صحيح أن الانترنت مفيد لكل متعلم ولكل راغب في التكوين المستمر لأنه يقدم مواد كثيرة للفهم والتحليل والمناقشة، ولكنه لا يستطيع أن يعلمنا في كل الأحوال، كيف نفهم وكيف نحلل وكيف نناقش أو نستنتج…
وقديما، كان قدماؤنا ينتقصون من قدر الرجال الذين يأخذون العلم من بطون الكتب ولا يأخذون العلم من أفواه الرجال فيقولون عنهم: إنهم صحفيون أي يكتفون بالأخذ من الصحف والأوراق؛ لأنهم كانوا يعتقدون بأن العلم الحقيقي هو ما وقر في الصدور.

فهل يعيد الزمن دورته مرة أخرى لنتهم نحن أيضا من يكتفي بالأخذ من محتوى الأنترنت لنقول عنه بأنه (أنترنيتي) ثم ياليته كان صحفيا، فربما هان الأمر وخفت حدة الضرر المنبعثة من وراء شاشة الحاسوب المتصل بخيوط عنكبوتية لا يعرف المتعلم الناشئ من نسجها ولأي هدف، ولا يملك اتجاهها أية إمكانية للمساءلة والنقد والمقاومة، فهو يستسلم لمحتوى الإنترنت استسلام الأعزل المغلوب على أمره.

وحتى لو كان في الأنترنت شر قليل أو كثير فقد أصبح أمرا واقعا لا مفر منه، وربما صار في السنوات القليلة المقبلة بديلا نهائيا عن كل ورقة أو صحيفة. فهل أعددنا العدة الكافية لتمحيص محتوى الأنترنت العربي وتدقيقه وتنظيمه، حتى لا يكون فوضى عارمة وشرا مستطيرا على أجيالنا القادمة، لا قدر الله؟ !!

الأحد، 2 مايو 2010

الثوابت والمتغيرات في الزمن الرقمي.

يختلف الحديث عن موضوع الثوابت والمتغيرات الرقمية باختلاف المُرسِلين والمُستقبِلين وتقنيات الإرسال والاستقبال المستخدمة في كل وقت وحين.

وربما قد لا يستطيع الواحد منا تذكر عدد المرات التي غير فيها جلد حاسوبه الشخصي أو هاتفه النقال خلال السنوات القليلة الماضية جزئيا أو كليا لمواكبة سرعة التطور المتسارع في البرامج وفي أنظمة العرض والتشفير والاختزال والتخزين.

ويفرض كل تجديد في أنظمة التواصل الحديثة قطيعة مع الماضي الرقمي؛ فكل منتج تقني جديد يجُب ما قبله ويلغيه، بحيث لا يصبح القديم منها صالحا للاستعمال إلا بمواصفات بدائية لا يمكن أن تفي بالغرض المطلوب المتجدد على مدار الوقت والساعة شكلا ومضمونا.
فكل حياة رقمية جديدة ما هي في الحقيقة إلا إعلان عن موت افتراضي حتمي وشيك لأجهزة موجودة سلفا عند الناس قبل أن تصاب بالشلل أو بالسكتة الرقمية التي لا وجود بعدها ولا حياة.

لقد أصبح عمر الأجهزة التقنية التي تقع تحت تصرفنا أكثر قصرا من كل وقت رقمي افتراضي مضى؛ وتلك الأجهزة التي نقتنيها أول مرة بشغف المعجب المفتون سرعان ما تذبل في أيادينا قبل أن يمر عليها عام أو شهر أو ربما أقل من ذلك، خاصة وأن كل طفرة تقنية تستدعي منظومة جديدة متكاملة من الأجهزة والوسائل والبنيات التي لا يمكن الإعلان عنها أو عرضها للبيع والاستخدام الخاص أو العام إلا بعد اختبار درجة تفوقها على المنظومات القديمة التي يعمل الخبراء والباحثون والمهندسون على تجاوزها باستمرار بمسافات إضافية جديدة بغية إلغائها ومحو أثرها من السوق الرقمي نهائيا.

ومن هنا، فإن الأزمة التقنية لا تكمن في المنتج التقني الجديد القادم توا من المعامل بكل بريقه وبكل سحره، وإنما في القديم الذي أكل عليه الزمن الافتراضي وشرب। فيكون التخلص منه عبئا جديدا يقض مضاجع المواطنين العاديين فكريا ونفسيا وماديا كلما عاينوا منتجا رقميا جديدا على رفوف المتاجر الفاخرة، أو عبر الوصلات الإشهارية، فيسيل لها لعابهم وتصيبهم الحسرة لقلة ذات اليد. ويعلقون أملهم على الوقت الافتراضي الضائع، في انتظار الإعلان عن تخفيض الأثمان لحظة بوار أو كساد.

ومع الأسف فإن المستخدم العادي هو الذي يدفع في العادة ثمن الفرق بين كل منتج تقني جديد وآخر قديم، وهذا بغض النظر عن مقدار الثمن وكلفته المادية والنفسية.
ويستطيع الواحد منا أن يقرأ أثر التحولات الرقمية المتجددة على تصرفات الناس وسلوكياتهم العاطفية والنفسية والفكرية من خلال طرق تعاملهم مع الهواتف النقالة على سبيل المثال؛ لأنها الأكثر انتشارا بين الناس رغم اختلاف مقاصدهم منها، ولأنها الأكثر تنوعا واختلافا من حيث التقنيات ومن حيث الخيارات اللانهائية المتاحة..

وكثير من الناس عندما يشهرون هواتفهم النقالة أو يلوحون بها في الأماكن العامة ربما قد يختلط لديهم الشعور بالحاجة إلى التواصل عن بعد وبالرغبة في المباهاة وإظهار الوجاهة عن قرب لمن يرونهم في الشارع العام، وخاصة عندما يتعلق الأمر بحيازة أحدهم لأخر طراز ولأخر سلسلة من سلاسل الهواتف المطروحة في السوق.
وتلك السلاسل لن تكتمل حلقاتها الحلزونية المعقدة قبل أن تطوى صفحة وجودنا على هذا الكوكب الرقمي العجيب.

يذكرني وضعنا مع الأجهزة التقنية بقصة بعض العناكب البرية التي يأكل بعضها بعضا لحظة التزاوج لمنح حياة أخرى جديدة محتلفة في الحال والمآل؛ فما أشبه بيئتنا الرقمية ببيئة العناكب حينما تنسج شباكها في الفراغ، وحينما تراود، وحينما تصطاد، وحينما تفترس…
لاحظ معي كيف يقوم التسويق الإلكتروني اليوم على أسلوب الغواية العنكبوتي هذا؛ غواية الألوان الطرية وغواية النعومة وغواية السلاسة وغواية الانسيابية وغواية الرشاقة عندما تطوى تلك الأجهزة على بعضها البعض أو عندما تنحني، أو عندما تستدير.. أو عندما تلفها لك أنثى انتدبتها شركة ما للبيع في ورق مصقول لامع وناعم كالحرير .

الثلاثاء، 23 مارس 2010

الحائط الإلكتروني؛ طريقة جديدة للتواصل المختصر (الورقة الثانية).

الورقة الثانية: في المفهوم التواصلي

لتقنيات التواصل الحديثة قدرة سحرية عجيبة على إلغاء مفهوم المكان من الأذهان؛ فلا الشرق عندها شرق ولا الغرب غرب، وكل خطوط الطول والعرض صارت مجتمعة لديها في حيز واحد، هو حيز شبكات وخيوط وحبال الاتصال العالمي البرية والبحرية ودوائر السليكون وترددات الأمواج الكهرومغناطيسية التي يزدحم بها أثير السماء.

يبدو لي أحيانا كأن زماننا هذا قد ضاق برفيق دربه المكان، فلم يعودا قادرين على تحمل بعضهما البعض، وكل واحد منهما يرجو الفكاك والافتراق ليمضي في حال سبيله متحررا من وطأة صاحبه.
ومن هنا فإن أزمة التواصل الحديثة لا تكمن فقط في عباءتي الزمن والمكان التي تضيق بنا أو نضيق بها حينما نلبسها أو تلبسنا، وإنما أيضا في الدور المزدوج للعملية التواصلية الحديثة التي تتطلب منا أن نكون مرسلين ومستقبلين في نفس الوقت، فلا معنى ولا قيمة لهاتف ثابت أو نقال، أرضي أو فضائي، إذا لم يوجد في الطرف الآخر من خط هاتفنا من يقوم بنفس دورنا، وإلا فإنه يتحول إلى مجرد تحفة تقنية مكملة لديكور البيت، ولك أن تقيس هذا المثال على سائر الوسائط التقنية الأخرى…

وحتى أنظمة التواصل الكلاسيكية الحكومية الممعنة في البرتوكول والرسميات كالراديو والتلفزيون، بدأت تغير جلدها تدريجيا لأنها وجدت نفسها مضطرة إلى التخلي عن دورها القديم أحادي الاتجاه الذي كان يقتصر على البث فقط। وأصبحت لأول مرة تنزل هي الأخرى بمبعوثيها وبالكاميرا والميكروفون إلى الشارع لتستقبل رأي الشارع وصورة الناس البسطاء ومتجددات الحياة العادية والاستثنائية والطارئة.

إن ازدحام شبكة الاتصال العالمي بالمرسلات السمعية والبصرية، يحتم على مستعمليها استحداث طرق وأنظمة عديدة لاختصار تلك المرسلات وطيها مثنى وثلاث ورباع كما يطوى ويثنى الورق على بعضه البعض حتى يصير متناهيا في الصغر..
وقد يطول بنا الحديث إذا وسعنا دائرة البحث في أنظمة التواصل المختصر من قبيل الرسائل النصية الهاتفية القصيرة (SMS)، وأنظمة الدردشة الفورية عبر المواقع الإلكترونية بأبجديتها المعقدة وأيقوناتها المختزلة للمشاعر والأفكار والمواقف، دون أن نغفل أيضا الأشرطة المنسدلة بالطول والعرض وفي كل الاتجاهات على شاشات البث التلفزيوني الأرضي والفضائي، المركزية والجهوية، الحكومية والخاصة… وكل نظام من هذه الأنظمة يتطلب دراسة خاصة.

غير أننا خصصنا هذا الإدراج للحديث عن الحائط الإلكتروني باعتباره طريقة جديدة للتواصل الافتراضي المختصر:
فإذا افترضنا أن المواقع الإلكترونية بيوت خاصة، وأن مفاتيح الولوج إليها تكون بأيدي أصحابها كما أوضحنا ذلك في إدراج سابق، فإن الحائط الإلكتروني لكل موقع أو مدونة أو منتدى هو الجزء الهامشي الخارجي المتاح للزوار حيث يمكنهم أن يسجلوا مرورهم بإضافة تعليق أو تنبيه أو إشارة أو أي حشو بلا معنى أو أي أثر آخر مفاده: (لقد مررت من هنا)، ولو تم ذلك في أحيان كثيرة ببعض الكلمات والعبارات الممتزجة بالسخرية والتحرش والبذاءة، والمغلفة بكثير من الأحقاد الدفينة والأمراض الاجتماعية المتمكنة والعلل النفسية المزمنة، كما هو الحال بالنسبة للكتابة الحائطية الواقعية التي نراها في الخارج عندما نعبر الشارع العام.

فلا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن عوالمنا الافتراضية مليئة بالمرضى والسكارى والمعربدين واللصوص والمطاريد والمتسكعين والمتطرفين والمدمنين والمنبوذين والحمقى والأغبياء بنفس الدرجة التي يكون عليها الأصحاء والمعتدلون والعقلاء والنبهاء والأتقياء والشرفاء إن لم تكن أكثر…

ولو خصصنا يوما واحدا من أيامنا العادية لقراءة تعاليق الزوار العابرين على الجدران والحيطان الإلكترونية لتعرفنا على كثير من الأسرار والنماذج البشرية المختلفة في سلوكها وتصرفاتها وأفعالها وانفعالاتها، وربما عدنا إلى تحليل ودراسة بعض نماذج الكتابات الحائطية الإلكترونية في إدراجات لاحقة.

لكن، هناك جانب آخر إيجابي في هذه الكتابات الإلكترونية الحائطية، فضلا عن أسلوبها المختصر، عند الإشارة إلى خبر أو إدراج عنوان مقال أو رابط، أو التنبيه إلى موعد أو لقاء أو ندوة أو مظاهرة أو استطلاع رأي وغير ذلك من الرسائل القصيرة والإخباريات التي تشبه إلى حد كبير البرقيات في النظام البريدي القديم.

وقد بدأت كثير من المواقع الإخبارية والفنية والثقافية ومن المجلات والصحف الإلكترونية ومواقع التعارف الاجتماعي الكبيرة تفرد مساحة كبيرة للزوار كي يكتبوا ويتعارفوا ويتواصلوا على حيطانها الإلكترونية الخارجية المكشوفة للعموم بالحرف والصوت والصورة.
والحيطان الإلكترونية نوعان: النوع الأول حيطان جماعية حيث يمكن أن يكتب كل زائر أو عابر ما شاء. وميزتها أنك تستطيع أن تتعرف على أساليب الناس في التفكير وفي فهم الأشياء دفعة واحدة، بحيث تستطيع أن تكون من هذه المختصرات صورة متكاملة عن النوايا والدوافع الكامنة وراء كل كلمة أو جملة أو شعار أو حزمة صور أو رسوم …

النوع الثاني حيطان فردية خاصة بأصحابها فقط، كأن يعمد أحد المدونين مثلا إلى حائط خارجي بعيد عن مدونته ليسجل عليه عناوين ومقترحات وروابط ومختصرات لأنشطته الخاصة في الحياة وفي العمل وفي الكتابة والتدوين। وهذا الحائط الإلكتروني الخاص أشبه ما يكون بدفتر يومي لكنه مفتوح أمام أصدقائه وزواره على مدار الساعة ليتابعوا مختلف أنشطته التواصلية مهما كانت بسيطة وعادية؛ كأن يخبر مثلا عن موعد سفر شخصي أو يذكر اسم كتاب فرغ من قراءته أو يقدم اعتذارا أو يستدعي مجموعة من الأصدقاء…وغير ذلك من متجددات الحياة اليومية.
وأكثر المدونين العرب إنما انتسبوا إلى موقع (تويتر) و(فيس بوك) وغيرها من مواقع التدوين المختصر المتخصص ليُعرفوا أكثر في محيطهم الافتراضي.

ومن هنا تأخذ الحيطان الإلكترونية هذا البعد الإشهاري الذي نجده أيضا على واجهات المحال التجارية الفخمة وفي كل ما يحيط بنا من جدران عندما تضيء بالليل لتشع بالحروف والصور والألوان في حركات ضوئية متناسقة، وحتى في سياج المستطيل الأخضر لملاعب كرة القدم عندما تقفز منه الصور والكلمات في حركات بهلوانية رشيقة بديعة قد تذهلك أحيانا عن حركة الكرة التي تتقاذفها وتتلاعب بها أقدام كبار اللاعبين المحترفين.

الجمعة، 19 مارس 2010

الحائط الإلكتروني؛ طريقة جديدة للتواصل المُختصر (الورقة الأولى).

الورقة الأولى: في المفهوم اللغوي للحائط وما جاوره.

إذا رجعنا إلى قواميس اللغة العربية نجد أن كلمة الحائط وردت بمعان ودلالات تقترب مما تفيده كلمات الجدار والسور والسياج، لأنها جميعها لا يمكن أن تسمى بهذه المسميات إلا إذا كانت محيطة بشيء ما أو مشتملة عليه. وإنما تختلف كل واحدة منها عن الأخرى فيما يمكن أن تحتمله من درجات القوة والعلو والمنع والامتداد والعمق أو التجدر في الأرض.

وإذا كان السياج هو الأضعف والأوهى في سلسلة هذه المسميات فإن السور هو الأعظم والأفخم؛ فهناك فرق شاسع بين سور المدينة العالي السميك المتماسك بالحجارة والطوب والجير وسياج الحظيرة الذي يتخذ في العادة من الشوك أو الهشيم.

ولا تسمى الحديقة حديقة إلا إذا أحدق بها أو أحاط بها حائط يمنع الآخرين من تسلقه أو تََسَوٍُره لنهب ما فيها من خضر أو فواكه। ولذلك قد تسمى الحديقة أو البستان مجازا بالحائط من باب التوسع في اللغة العربية، فيقال مثلا: حائط فلان يقصدون بستانه، أما إذا كان البستان من غير سور فهو ضاحية، ومنه ضاحية المدينة، أي: ناحيتها مما يكون خارج السور.

قال عز وجل:( فضُرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب) سورة الحديد، آية 13، إذ شبه الله عز وجل الحاجز بين أهل الجنة وأهل النار بأعظم وأفخم حائط يمكن أن نراه في الدنيا.

ولكل سور أو حائط أو جدار ظاهر وباطن، أو وجه وظهر مثل أي مسطح ورقي صالح للكتابة। أما السور والحائط فظاهرهما هو ما يراه الناس بأعينهم من الخارج فيكون ما بدا منهما شأنا عاما، أما الداخل والباطن منهما مما توارى عن العيون فهو شأن خاص ولا يمكن معرفته إلا بالاقتحام والاختراق، ومن ذلك جدران الغرف داخل البيت الواحد مثلا. ولولا وجود الحيطان لما طمح أهل الفضول والمتطفلون إلى التجسس…

وقد تستخدم هذه الكلمات بصيغ اشتقاقية مختلفة وفي سياقات مجازية। وقد ورد كثير منها في القرآن الكريم؛ كقوله تعالى (والله محيط بالكافرين) البقرة أية 19؛ أي جامعهم يوم القيامة. وقوله تعالى: (أحطت بما لم تحط به) سورة النمل آية 23: أي علِمته من جميع جهاته، (وأحاطت به خطيئته) البقرة 81 : أي مات على شركه…

أو كقول بعضهم في لغة التحليل الاقتصادي مثلا: (الضرائب الحائط القصير لدى الحكومات الفاشلة)، وفلان حائط قصير: أي سهل التجاوز، ومنه قولنا في التعبير عن الخوف من الرقباء: (للحيطان آذان).

ويمكن في نفس السياق أن نورد أمثلة مرتبطة بدلالات الجدار المجازية كالجدار الرابع في لغة أهل المسرح. وهو الحاجز الوهمي الذي يكون بين الممثلين على الخشبة وجمهور الممثلين في الصالة। وقد قاد المسرحي الألماني الشهير برتولت بريشت ثورة عنيفة ضد المسرح الكلاسيكي لتحطيم هذا الجدار، عندما وجه كامل عنايته إلى الجمهور وأشركه في التمثيل والحوار فأصبح منفعلا وفاعلا في الحدث المسرحي بدل أن يكتفي بالتفرج من بعيد. ويقوم مسرح بريشت، كما هو معروف لدى المهتمين بالمسرح الطلائعي في النصف الأول من القرن الماضي على فكرة التغريب؛ أي تغريب الأحداث اليومية العادية وذلك بجعلها غريبة ومثيرة للدهشة ومحفزة على التأمل والتفكير.

كما يمكن أن نتحدث في نفس السياق عن جدار العار أو جدار الفصل العنصري بين بني البشر: كما كان الحال في جنوب إفريقيا، وكما هو الحال اليوم في فلسطين المحتلة وفي كل أرض عندما يكون النزاع قائما على التفرقة بين اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو أية ذريعة أخرى لطمس هوية الآخر.

كما أننا لا يمكن أن نغفل الحديث هنا عن الجدران والحيطان التي صنعتها الطبيعة بفعل عوامل التعرية من مطر ورياح وسيول وترسبات وانجرافات وزلازل وبراكين।وقد جرى الحديث في معاجم اللغة العربية عن الصوح، (بفتح الصاد وضمها): ويقصدون بهذه الكلمة وجه الجبل القائم أمامنا كأَنه حائط، وصُوحا الوادي: حائطاه المنتصبان كذلك.

ومن المسميات الجديدة المستحدثة في عصرنا مما يرتبط بالتحولات السياسية والاستراتيجية الجدار الفولاذي الذي أقامته الحكومة المصرية الحالية بينها وبين قطاع غزة، والجدار الإلكتروني الذي تعمل إسرائيل على إنشائه الآن بعد أن خاب مسعاها في الجدار الكهربائي الصاعق والجدار الإسمنتي العازل.

غير أن الحيطان لم ترفع قواعدها من الأرض ومنذ فجر التاريخ لتأمين السلامة والحماية فقط لأصحابها، بل لقد تحولت مع مرور الوقت إلى معارض وتحف فنية لما تراكم على واجهتها من حفر ونقش وكتابة وتشكيل.

ومجموع ما يعرض ويكتب على الحيطان من نقوش وكلمات وشعارات يمثل اليوم علما قائما بذاته، وهو علم أوفن الكاليغرافي (Calligraphy)، وهو علم تخصصي له علماؤه وأساتذته.

ولقد كانت الكتابة على الحيطان و على شواهد القبور وعلى الحجارة المنتصبة في طريق المسافرين وحتى على جذوع الأشجار شكلا من أشكال التواصل المكاني، لأنه مرتبط ومحصور في حيز جغرافي ضيق لا يمكن نقله أو تحويله.


وتحتاج المصالح البلدية في كل مدينة من مدن المغرب إلى ميزانية سنوية خاصة لتجديد طلاء الأسوار المحيطة بالمدن والأسواق والمؤسسات العمومية، ومحو ما تراكم عليها من كتابات ومنمنمات ورسوم، وخاصة عند حلول المواعيد الانتخابية.

أما الكلام عن فحوى ومغزى ما يكتب على أسوار المدارس وداخل حجراتها وحيطانها وكراسيها وطاولاتها ومراحيضها فتلك قصة أخرى لن تكتمل في تفاصيلها وأبعادها إلا بدراسة نفسية وسلوكية متخصصة। فكثير من التلاميذ يرون في كل ما يحيط بهم من مسطحات امتدادا لسبورة القسم. لكن ليس لاستظهار بيت من الشعر أو حل معادلة رياضية، وإنما لنشر بعض الشائعات حول أصدقائهم ومدرسيهم، وكتابة أسماء النجوم التي يتعلقون بها وخاصة نجوم كرة القدم وأنديتها المشهورة، وربما حتى كتابة بعض البذاءات اللفظية وبعض السخافات والشتائم والسباب، وكثير من الرسوم المخلة بالحياء العام.


ولو كان ما يكتب أو يرسم على هذا الحائط أو ذاك بالطباشير لهان الأمر، ولكن استعمال علب الصباغة البخاخة يجعل هذا المكتوب أوضح للنظر وأبقى في وجه تقلبات المناخ والدهر.
أما ما يكتب على الحيطان الإلكترونية عبر مواقع التدوين والتعارف الاجتماعي فسيكون موضوع الورقة الثانية.

الجمعة، 12 مارس 2010

على هامش اليوم العالمي لحرية الإنترنت.

لعل أهم ما يميز محتوى الإنترنت أن الناس جميعا يوجدون منه على مسافة واحدة. وهي المسافة الفاصلة بين ضغط زر البحث وإظهار المتصفح الإلكتروني أو المحركات الرقمية للمعلومات أو المواضيع المبحوث عنها. وهذا رغم تباعد الناس في المكان حيث يكونون عند أطراف حواسيبهم المتصلة، ورغم تباين ألسنتهم وألوانهم وأعمارهم ومراتبهم، واختلاف أنماط عيشهم وتفكيرهم. وفي ذلك مظهر من مظاهر الكونية المعرفية والديمقراطية الثقافية التي لم تتح للبشرية جمعاء من قبل.

وقد أصبح اجتماع الناس اليوم عند المواقع والملتقيات الافتراضية في السر أو العلانية أسهل من اجتماعهم في الأماكن الحقيقية المعلومة لدى الدوائر الحكومية؛ إما للدردشة والتسلية أو للمحاورات والمناظرات العلمية والثقافية الجادة، وإما للتنديد والنضال ضد أشكال القمع والفساد والاضطهاد والطغيان والاحتلال، وإما لجمع التوقيعات والتبرعات والمؤازرة، وإما للإثارة والفتنة، وإما لحبك خيوط جرائم التجسس والسطو والمؤامرات والاغتيالات وحتى للعهر والفجور أو الزهد والعبادة. فلا معنى للحياة الافتراضية إلا بوجود الشيء ونقيضه في نفس الوقت، كما هو حال حقيقتنا على أرض الواقع بحلوها ومرها، وبخيرها وشرها، وبصلاحها وفسادها.

فكم عدد المواقع والمدونات والمنتديات التي تتناسل في كل يوم من غير حاجة إلى تصريح رسمي أو فرمان حكومي؟، وكيف يمكن للمتابع العادي وحتى للحكومات بأجهزة رصدها المختلفة أن تجد الوقت والجهد الكافيين لإحصاء كل ما تراكم في العقدين الأخيرين في جوف الانترنت من كل غث وسمين، وتتبع كل شاردة وواردة فيه من حرف أو رمز أو صورة، فضلا عن إمكانية تنظيف محتوى الإنترنت من الأوساخ والعوالق والطحالب قبل نشر كل هذا الغسيل الافتراضي المتبقي وتجفيفه وتقديمه إلى صفوة الصفوة ونخبة النخبة، كأنقى وأنظف وأسلم ما يكون، حسب مزاج الوصي أو الرقيب، وعبر عمليات الفرز الإلكترونية بالغربال والمصفاة…؟!!.

وتتحرك الكائنات الافتراضية في الغالب في شكل جماعي مثل الطيور التي تقع على أشكالها؛ فإذا قلت لهم: أيًَ المواقع تطرق أبوابها سيقولون لك: من تكون. صاروا يعرفونك من آثار أناملك وهي تدوس الأزرار بدل الأقدام، ومن عناوين الوضوعات التي تقرأ أو تـُقرأ لك، ومن الصور التي تًـراها أو تـُريها. ليس هناك شيء يمكن أن يخفى في بيئتنا الافتراضية، فمغناطيسها القوي يجذب حروف أبجديتها الصغيرة، ولو كانت محشورة داخل جبل عظيم من القش والغثاء.

غير أن المحتوى الافتراضي بكل ما فيه من مألوف وشاذ ومستأنس ومستوحش أشبه ما يكون بالمرعى المهمل وبالغابة الاستوائية المطيرة الكثيفة التي يستحيل معها تعيين ناطور عند كل شُجيرة أو أكمة، أو رقيب على رأس كل مدون أو صاحب موقع أو مقهى أنترنت…
وحتى المدونات التي تبدأ كحالات فردية سرعان ما تذوب في المجموع، عندما تتلقفها محاضن التدوين ومجمعاته ومراصيده، وتتصل مع غيرها من المواقع الصغيرة والكبيرة بعمليات التشبيك الإلكتروني، أوحينما ينخرط أصحابها في هيئات تحرير كبرى كالمجلات والجرائد والصحف والكتب الإلكترونية، أو ينضمون إلى أحزاب ونقابات، أو يلتحقون بصفوف الاحتجاجات والتظاهرات الافتراضية والحقيقية، النظرية والعملية…

وإذا كان بوسع الحكومات أن تضبط إيقاع الحياة في الشارع العام وفي كل بيت، وأن تحصي الرؤوس وما حوت والبطون وما هضمت والألسنة وما نطقت…، وأن تكون أجهزة الأمن لديها بمثابة صمام الأمان الذي يحول دون حدوث أي انقلاب أو أدنى تمرد أو انفلات، فإنها من المستحيل أن تضبط حركة الناس الافتراضيين الهلامية، عندما يجتمعون على هذه الصفحة الإلكترونية أو تلك، أو عندما يرسلون موضوعا أو يفشون معلومة أو يكشفون عن سر أو وثيقة أو يبثون تسجيلات بالصوت والصورة بواسطة هواتفهم النقالة على مدار الوقت والساعة، أو حتى عندما يتسللون لواذا عبر النوافذ والأبواب والشقوق الإلكترونية الضيقة ويفرون من حيز افتراضي إلى آخر متوهمين أنهم لم يتركوا أي بصمة أو أثر.

وحتى إذا ما استطاعت الحكومات أن تحجب موضوعات أو معلومات أو صورا في موقع ما داخل بلد ما فإنها ما تلبث أن تظهر في مواقع أخرى وفي بلدان أخرى بأعداد مضاعفة، فيما يشبه (الغـُميضة) أو لعبة المطاردة بين القط والفأر التي يتسلى بها الأطفال، وتلك اللعبة المشوقة المليئة بالغرائب والمفاجآت لا يمكن أن ينفد مخزونها। فكل ممنوع في دنيا الانترنت مطلوب مرغوب، وقد أصبحت المواقع والبرمجيات الخاصة بإظهار المواقع المحجوبة أكثر فعالية وأكثر انتشارا بين المتصفحين ذوي الفضول العالي والخبرة الكافية لفك عقد وطلاسم الحجب والتشفير، مما يستحيل معه محو أي أثر افتراضي نهائيا وعلى وجه التمام، إلا بإلغاء شبكة الإنترنت من الأصل، وتدمير كل الأجهزة الإلكترونية لدى الناس، ورميها في طواحين الرقابة أو في مزبلتها التاريخية إلى الأبد، وذلك من سابع المستحيلات…

وليس هناك ما يحرك البرك الراكدة في دنيا الإنترنت أكثر من حجب موقع أو مصادرة مدون، وليس هناك ما يبعث على السخرية أكثر من غباء بعض الساسة، وليس هناك ما يثير حب الاستطلاع والفضول أكثر من صور وفضائح المشاهير والنجوم في فن التمثيل والغناء والرياضة وحتى في المجون والخلاعة، وحيث يمكن بضربة حظ طائشة أن يصير المجهول معلوما، والمغمور مشهورا…

فأتفه الأمور وأسخفها وأبلدها يمكن أن تتحول بضغطة زر إلى نكتة إلكترونية وإلى صيد افتراضي ثمين يتهافت عليه البصاصون والفضوليون عبر كل الطرق الافتراضية السيارة وغير السيارة، وإلا كيف يمكن أن نفسر هذا التباين العجيب بين العدد الكثير الذي يتقاطر على المواقع السطحية التي تكشف الفضائح وتعرض الصور العارية وتخاطب الحس والغريزة البهيمية، وبين العدد القليل الذي يحج لماما إلى قلة قليلة من المواقع الجادة العاقلة العالمة..

لقد أعـُلن الثاني عشر من شهر مارس كيوم عالمي لحرية الإنترنت ومكافحة الرقابة الإلكترونية. وفي هذا اليوم بالذات، ولكي يكون لهذا الاحتفال معنى بدأت تتعالى أصوات كثير من المدونين الغيورين وأصحاب المواقع العربية الرصينة ليس فقط للمطالبة بهامش مريح من حرية التعبير الافتراضي، وإنما بدعوة جادة للمساهمة في إثراء المحتوى الافتراضي العربي، من باب المسؤولية الأخلاقية تجاه أنفسنا وضميرنا الغائب أو المغيب أولا وتجاه محيطنا المتقلب الذي نعيش فيه ثانيا، وتجاه الأجيال التي ستخلفنا ثالثا. إذ لا يعقل أن نخلف لأبنائنا وأحفادنا مجرد صور عابرة ملتقطة، ونكت فجة ومفارقات وتسالي في الإنترنت وتفاهات في برامج تلفزيون الواقع…

الثلاثاء، 9 مارس 2010

استراتيجيات الكتابة؛ الورقة الثانية.

الورقة الثانية: انتزاع الموضوع.
مع أن ذواتنا أقرب إلى وعينا وإدراكنا وعلمنا من حبل الوريد، فإن انتزاع الموضوعات منها أشق.
وفي العادة فإننا نحكي كثيرا وفي كل حين عن تقلبات أحوال المناخ من حولنا، وعن الغلاء في أسواقنا، وعن حوادث السير على طرقاتنا، وحتى عن ما يجري بعيدا عنا أو في الجوار من كوارث وزلازل ومجاعات وفيضانات وعن كل شيء وحتى عن الفراغ، ولكننا قلما نتحدث عن أحوالنا ولا عن تلك الرجات الخفيفة أو القوية التي تعتمل في داخلنا كبركان خامل، مع أنه متقلب في داخله ومشتعل…

إننا دائما نفضل أن يكون وقع الأحداث والخطوب والأتراح على غيرنا لا علينا، حتى أن كل دول العالم المهددة في خبزها وأمنها ومناخها قد تعلمت أخيرا الدرس وبدأت تنشئ عند كل فاجعة لجنا للطوارئ ووزارات لتدبير الأزمات والنكبات، وكذلك الكلامُ نفضله دوما أن يكون لنا لا علينا، كما في الدعاء المأثور عند هطول المطر الغزير:( اللهم حوالَينا ولا علينا ) وذلك في حديث أخرجه البخاري في باب الاستسقاء.

لقد تعودنا أن نقف في طابور الحياة ونأخذ ما نحتاجه من شُبًَاكها أو نقتات بما تساقط من عيون شِباكها ثم نمضي في حال سبيلنا لنعيش بسلام ولننام وننام حتى نموت وينقطع حِسنا من غير أن نترك أثرا يترتب عليه ألم أو ندم…

لكي تنصت إلى صوتك عليك أن تسكت في داخلك صوت الناس وصوت نشرات الأخبار والطقس وثرثرة المسلسلات الطويلة والأشرطة الصاخبة وأزيز السيارات …। وحتى صوت ذبابة حمقاء تبحث عن حتفها عندما تخترق جدار سمعك الصوتي في حالة استرخاء أو صمت نادر، فتنهض لها بمبيد حشرات رشاش نهضة مفجوع أو موجوع، انتقاما وتعويضا عن الإزعاج الخاطف وبعض الراحة المفقودة…

وحين تنطفئ أضواء الناس في داخلك تلوح أضواؤك متسربلة بألوان قزح الصافية في سماء جمجمتك الصغيرة، حيث تتشابك موضوعاتك وموضوعات الناس والكون، وحيث يمكن إعادة ترتيب كل الأشياء كأنها لم تكن من قبل أو كأنها ولدت من جديد.

ليست هناك عدسة تصوير أدق من مخيلة، ولا آلة أبرع من يد، وكل حدود الكون الفسيح في القرب والبعد والطول والعرض تقع بين طرفيهما.

واللحظة الأولى عند الإمساك بالقلم لانتزاع الموضوعات وصناعة الأفكار هي الأصعب، والخطوة الأولى لاكتشاف العالم عند تعلم أبجديات الحبو والوقوف والمشي هي الأبطأ। ولا يخلو الأمر من رهبة وحيرة، ومن خطأ أو خطر سواء عند انفجار بركان من جوف الأرض أو انطلاق صاروخ منصوب على منصة أو انبعاث فكرة من جمجمة آدمية بحجم بطيخة، لكن لا قعر لها ولا قرار…

والكتابة عن موضوعاتنا أو موضوعات غيرنا أو موضوعات الكون من حولنا، شهادة إثبات على أنها كانت موجودة ومركونة في حيز أو زاوية، والعالم منذ أن كان هو هو وإنما أسماؤه ونعوته وصفاته هي التي تتغير وتتجدد بالنسبة إلى ما هو معلوم منها سابقا، وحتى أسماء الأشياء الجديدة سرعان ما تذبل أمام أنظارنا بسرعة عندما نمل أو نضجر.

وسيبقى حالنا على هذه الأرض كما هو، وحال الأشياء فيها سيبقى مترددا بين قديم وجديد، وقديم جديد، وجديد قديم، تماما كعروض الأزياء النسائية والرجالية، ومعارض السيارات وأجهزة الاتصال وأروقة الكتب الورقية والإلكترونية …।إلى أن يستقدم الآدميون من الكواكب البعيدة معادن أخرى غير المعادن، وماء غير الماء وهواء غير الهواء وترابا غير التراب ونساء غير النساء ورجالا غير الرجال وألوانا غير الألوان، وكلاما غير الكلام، وحروفا غير الحروف…

وفي هذا العقد الجديد من ألفيتنا الثالثة كم واحد منا غير هاتفه النقال وباقي الأجهزة الإلكترونية !. وحتى التلفزيون القديم الذي تربع على عرش غرف الجلوس والاستقبال ردحا من الزمن في بيوتنا قد استحال إلى برواز لوحة جدارية مشعة بالألوان النقية ثلاثية الأبعاد وبالأصوات المجسمة…। لكن فكرة التلفزيون كفكرة ووظيفة وطريقة للتواصل بقيت على حالها… إلى أن يخترع الأدميون عيونا غير العيون وآذانا غير الآذان وألسنة غير الألسنة। وإلى أن يحين ذلك الوقت سيبقى كل ما على أرضنا مما هو مصنوع أو مطبوع امتداد لذات الإنسان وكيانه المحدود بضائقة الزمان وذات اليد وبضيق المكان…

و من كان ينقش بالأمس البعيد حروفه بالإزميل على حجر، هو من كان ينقش حروفه بالأمس القريب على سجل أو دفتر، وهو من يرقن اليوم حروفه المنسدلة على مسطح زجاجي مشع لكن فقط بلمس مجسات إلكترونية استشعارية.

ومع أن الكتابة أثر باق وشهادة إثبات على كل الموضوعات التي ننتزعها من ذاتنا ومن غيرنا ومن عموم الحياة، فإن المحو فيها أكثر، وهذا ما يجعل الكتاب مختلفين عندما يطلب منهم أن يكتبوا في موضوع واحد؛ فالاختلاف يقع فقط في ما يثبته هذا ويمحوه الآخر، فيما يستحضره هذا ويغيب عن ذاك.

وفعل المحو والإثبات هو ديدن سائر الفنانين والمبدعين: فلوحة الرسام مثلا إنما هي بقية ألوان لم تستعمل، ومنحوتة النحات الحجرية هي بقية ما تساقط من قطعة الحجر بعمليات الحفر والنقر والصقل حتى تستوي على هيأة وجه أو شكل أو حركة.
ولذلك تجد الصائغ يفرش تحت مصوغاته عند القطع والخراطة والتلحيم منديلا أو لوحا زجاجيا نقيا حتى يجمع ما تساقط وما تناثر من جزيئات الذهب والفضة والماس ليعيدها إلى دورة إنتاج أخرى عندما تبرق أمامه فكرة جديدة، وفي هذه الأيام بدأت تعمل كثير من مصانع العالم وأوراشه على تدبير النفايات الطبيعية والصناعية…

ونحن أيضا عندما ندون أو نكتب قد يتساقط من حروفنا وكلماتنا قدر كبير لا يصل إلى القارئ بعمليات التنقيح والتحكيك والمراجعة। وأنا أجزم في نهاية هذا الإدراج بأن ما تساقط من حروفه أكثر مما بقي منها، حتى استوى على هذا النحو.

لا يهدأ بال الكاتب المفتون بسحر الكلام حتى يسكن كل حرف من حروفه إلى جاره، ويستقر في مكانه استقرار الجالس المستريح. وعندما ينهي موضوعاته ويرسلها على الشبكة أو ينشرها تصبح ورقة في شجرة المعرفة الإنسانية، فإما أن تثبت بقوة في أغصانها، وإما أن تسقطها الرياح.

الأربعاء، 3 مارس 2010

استراتيجيات الكتابة؛ الورقة الأولى.

الورقة الأولى: اختيار الموضوع، (خواطر بين يدي الموضوع)

سبق لنا أن قدمنا مفهوما عاما للكتابة في إدراج سابق.

أما اليوم فنريد أن نعرض لقضية اختيار موضوع الكتابة، من لحظة كونه جنينا في رحم الفكر أو الخيال إلى لحظة بلوغه الدرجة المقبولة من النضج والاكتمال، ولا نقول الكمال؛ لأن كل شيء مرتبط بعلم الإنسان وإدراكه وخياله فإنما هو نسبي، أي بالنسبة إلى شيء آخر قد ينقص عنه أو يزيد عليه قليلا أو كثيرا.

وفي البداية، لا بد أن نُسلم بأن كل ما يدرك بالحس أو العقل أو التجربة صالح لأن يكون موضوعا للكتابة، بغض النظر عن المحاذير والأسلاك الشائكة المحيطة بنا والخطوط الحمراء الموضوعة أمامنا والسقوف المتينة المرفوعة فوق رؤوسنا، لأن كل شيء موجود فإنما هو يوجد أصلا فينا أو حولنا أو يمر فينا عبر مجساتنا ووسائل إدراكنا المركبة فينا خلقة وجبلة، بغض النظر عن طبيعة الموجودات من حيث كونها حسية أو معنوية، حقيقية أو افتراضية، ومن حيث كونها صغيرة أو كبيرة جليلة أو حقيرة نافعة أو ضارة.

فكيف السبيل إلى التجاهل أو الإنكار أو المجادلة والاستكبار، وكل ما أدركناه بالحس أو الفكر أو الممارسة أو الخيال فقد حزناه وامتلكناه، ولكن بمقدار درجة وعينا الشخصي به، وفي حدود طاقة لغتنا التي ستبقى أداتنا الأولى في التفكير والتعبير رغم طوفان الصور الذي يغمرنا من كل جانب، ورغم سحر تقنيات الصورة وخدع الإخراج التي تجعلها أحيانا أجمل وأبدع من واقع الحياة ومن بيان اللغة؟.

ولو كانت قيمة موضوعات الكتابة تقاس بالحجم أو القوة أو الجدوى أو السرعة لكانت الكتابة عن الفيل مثلا أهم من الكتابة عن النملة، ولكانت الكتابة عن الخبز أجدى، ولكانت الكتابة عن العسل أحلى وأشفى، ولكانت الكتابة عن الحرية أوسع وعن السجن أضيق، ولكانت الكتابة عن الصاروخ أسرع وعن السلحفاة أبطأ، ولكانت الكتابة عن الشجاعة قوة وعن الجبن ضعفا، ولكانت الكتابة عن الوضوء طهارة وعن مبطلاته نجاسة…

إن مشكلة الكتابة حول موضوع ما لا تكمن في الموضوع نفسه كيفما كان أصله أو فصله، وإنما في اختيار الموضوع وفي الملابسات المحيطة به। وتلك الملابسات قد تكون خاصة بالكاتب وحده، وقد تكون عامة يشترك فيها مع كل الناس كما يشترك معهم في الحقوق والواجبات وفي أمهات المصالح والمشكلات، وفي الهواء الذي يتنفسونه وفي الماء الذي يشربونه.

ولو كان الكاتب يكتب عن نفسه ويقرأ لنفسه فقط لهان الأمر، ولما رفعت في وجهه المحاذير وصكوك الاتهام والغفران في كل عصر وفي كل مصر.

إن ما نفكر فيه قبل ارتكاب فعل الكتابة أو جرمها أو إثمها يبقى شأنا خاصا لا يملك أحد الحق في الاقتراب منه أو القدرة على مصادرته، لأنه في حكم العدم أو لنقل في وضعية استعداد للتشغيل (standby) فهو موجود ولكنه غير معلن. إنه موجود بالقوة وليس بالفعل. وربما لهذا السبب فإن معظم ما يفكر فيه الناس باستمرار يضيع في خضم انشغالات الحياة العادية بين أكل وشرب وصحو ونوم وجد وهزل وفراغ وعمل حتى يأتي كاتب ما فيضغط زر التشغيل ذاك، ويحول ما يفكر فيه الناس بحكم العادة إلى موضوع قد يحسبه الناس والمنتقدون والمؤيدون والمعترضون أنه خارج عن المألوف والعادة.

ولكن، قد يحدث أن يتحول مجرد البدء في التفكير إلى تهمة أو مساءلة عندما يكون إلى جانبك شخص آخر يرمقك بنظراته ويقرأ على ظاهر وجهك ما يعتمل في دواخلك وأغوارك। ففي لحظة الشرود قد تفاجأ بهذا السؤال: في أي شيء تفكر، هيا أجب؟ لقد فضحك بريق عينيك وتغيُر لون وجهك , وها قد بدأت أخيرا أولى حروف البوح ترتسم على شفتيك…

غير أن ما تثبته خطوط الكتابة أخيرا وبعد طلق فكري مؤرق ومخاض تحريري موجع عندما تطول بك ساعات الجلوس على مقعد غير مريح، سرعان ما يصبح معروفا بالاسم والصفة لدى أبعد الناس فضلا عن أقربهم، كأي مولود جديد يستحق هوية واسما يكتب في الكنانيش العائلية وفي السجلات والمحاضر الحكومية। غير أن هذا المولود قد يفرحك تارة وقد يغضبك تارة أخرى، وقد يكون سبب نعمة فتنتفع به أو نقمة فتشقى به، وقد يريحك طورا ويتعبك أطوارا॥إنه تعب الكتابة وسهدها لمن يقدرها حق قدرها، ويستقطر رحيق الروح من كلمات ليست كالكلمات…

وهناك فرق كبير بين أن تعيش لوحدك وبين أن تعيش مع الناس، وبين أن تأكل لوحدك وبين أن تأكل معهم من قدورهم وأطباقهم، فأنت في الوضع الأول مختار بينما أنت في الوضع الثاني مساير أو مجامل أو مجبر أو محتار…

فالأعراف والتقاليد والقوانين والأحكام الجاهزة سلفا هي التي تفرض علينا دوما أن نقول في موضوع ولا نقول في موضوع آخر، وأن نتكلم في وضع ونصمت في وضع آخر، وأن نعتبر بما يُعتبر عند الناس، وأن نقتنع بما يُقنعهم بحكم العرف والدين والقانون والعادة.

ولذلك من الطبيعي جدا أن يمر الكاتب قبل اختياره لموضوع ما باختبارات نفسية عسيرة وترشيحات وترجيحات، وقد يتقمص أدوار قراء مختلفين، وحتى دور الرقيب والجلاد، ويطرح أسئلة ويقترح أجوبة حول كل موضوع قيد الاختبار قبل الاختيار..

وربما تطلب الأمر تبييت الموضوع الواحد أو مجموعة مواضيع أياما عديدة حتى ينضج الواحد منها وتفوح روائحه، مما يدفعه إلى التخلص منه سريعا عبر فعل الكتابة، كما يتخلص الجسم من السوائل الزائدة وبقايا الطعام.

والكتابة أخيرا خلاصة كل الخلاصات وعصارة كل العصارات، فمن يقدر أن يقول عن العسل: إنه بُراز النحل أو قيئه॥!! ومن يقدر أن يقول عن الكتابة: إنها بُراز العقل أو قيئ المخ.. لاحظ معي كيف قادتني غواية الكتابة إلى هذه المقارنة الغريبة، وإلى هذا الأسلوب السخيف..!!

ويحس الكاتب بنشوة العائد من سفر طويل، وبراحة من تخلص من نفايات جسمه بعد طول انحباس، عندما يضع نقطة النهاية لموضوع اختاره أو جرب الكتابة فيه، فيخرج من عزلة الكتابة إلى مصافحة وجه الشمس ولقاء الناس.

والكاتب أول من يسعد بكتابته قبل أن يسعد بها غيره لأنه بالضرورة أول قارئ لما كتبت يداه، وأول منتقد لما تتصفحه عيناه. وهذا ما قد ينساه أو يتناساه الناس في العادة.
ولكنه لا يكتفي حتى يكرر فعل الكتابة أو جرمها أو إثمها مرات ومرات كمن تمكنت منه عادة الإدمان…

وحتى إذا ما قرر يوما أن يكتم صوته ويحبس مداد قلمه لحيرة أو نكد أو مرض أو وهن، فإن هاجس البوح يلح عليه في كل مرة، وتصبح الكتابة مع مرور الوقت أشبه ما تكون برياضة الصيد ولعبة المطاردة। فعليك في كل مرة أن ترمي شباك حروفك لتقتنص جديد الأفكار، وطريف الموضوعات…

وهناك ثلاثة أزمنة محيطة بكل موضوع :
زمن أول لاختيار العنوان المناسب؛ فالوقوع على العنوان هو العملة الصعبة لكل كتابة جيدة أو مثيرة، ويمكن صرفها حسب الحاجة وعلى فترات। وقد يتم العثور على العنوان بالصدفة الخارجية من خلال ملاحظة سلوك الناس وتتبع مجريات الأحداث القريبة أو البعيدة، أو بالإلهام الداخلي الذي يشحذ مع مرور الوقت بالخبرة والقراءة المستنيرة والتدريب على تمثل الرؤى والمواقف والحالات.

وتمكن العناوين الكاتب من الهجوم على موضوعاته بسرعة إذا كانت أدوات الكتابة لديه، فالعنوان هو البوصلة التي ترسم معالم الطريق أمام الكاتب وتجنبه التيه والضلال. وربما تطلب الأمر تعديل العنوان جزئيا أو كليا بعد الفراغ من كتابة موضوع ما حتى يكون أكثر دلالة وأكثر إثارة.

وزمن ثان للبسط والعرض، وحيث يمكن للكاتب أن يصول ويجول في مضمار الورق أو على شاشة الحاسوب حتى يستوفي عناصر موضوعه فقرة فقرة، وجزء جزء.

وزمن ثالث غير ثابت للمراجعة، فالعرض أو ل الأمر يكون غير مرتب وغير تام، ولكن المراجعة هي التي تصلح ما اعوج منه بوضع كل فقرة وكل جملة وكل كلمة في مكانها المناسب الذي يتطلبه السياق.

والكتابة مثل البناء لا بد لها من هياكل لغوية قوية تدعمها وتصمد بها في وجه المتغيرات، ولا بد لها من بعض الجماليات الفنية التي تجعلها ذات مزية تتجدد كلما أجلنا فيها الفكر أو جددنا فيها النظر. وللكتابة عن هذا الموضوع بقية.

الاثنين، 15 فبراير 2010

خلاصة تجربتي في الكتابة عن التدوين

بدأت الكتابة عن التدوين العربي منذ ما يزيد عن أربع سنوات، في وقت كانت لازالت مساحة التدوين العربي شبه خالية؛ إذ كان أكثر المدونين بالعربية حينها معدودين معروفين بأسمائهم أو بعناوين مدوناتهم التي تدل على أشخاصهم. وكانت معظم المواقع العربية التي تقدم خدمة الاستضافة المجانية في طور التجريب أو عند إصداراتها الأولى.

أما المواقع الغربية فلم تكن تدعم اللغة العربية إلا بشكل جزئي بسيط لا يكاد يُعتد به. وحتى موقع كوكل الغني عن كل تعريف لم يبدأ في دعم التدوين بالعربية إلا مؤخرا، كما أو ضحت ذلك في إدراج سابق.

ونظرا لتطاول العهد بيننا وبين اللحظات الأولى لظهور التدوين العربي، ربما غابت عن بعض المدونين الجدد الصورة البدائية الأولى التي كان عليها واقع التصفح الإلكتروني منذ عقد واحد أو أكثر من ذلك بقليل، بخلاف ما هو عليه الحال الآن من حيث جودة التقنية ومن حيث السرعة ومن حيث جمالية التنسيق وجاذبية العرض، ومن حيث غنى المحتوى الافتراضي وتنوعه.

وكنت قد كتبت أول إدراج عن التدوين العربي يوم سادس عشر فبراير شباط سنة 2006. أي منذ أربع سنوات كاملة. وهذه المدة وإن عدت، في حساب الزمن الطبيعي، قصيرة فهي في عمر الزمن الافتراضي أطول مما قد يُظن للوهلة الأولى. فأنا شخصيا أعد كل سنة افتراضية بعشر سنوات عادية. نظرا لسرعة التطور التقني التي تشهدها عوالم الاتصال المرتبط من جهة، ونظرا لحجم الامتلاء الهائل الذي يشهده جوف الإنترنت في كل يوم جديد من جهة ثانية. فأي واحد منا اليوم يستطيع أن يحصي عدد من انضم إليه في الفترة الأخيرة من المدونين بالعربية، من كل قطر ومن كل ناحية ؟.

وكان أول موضوع كتبته عن التدوين العربي تحت عنوان:( حديث المدونات العربية.. قراءة أولية في مشهد التدوين العربي. )، بتاريخ 16 فبراير عام 2006. ومنذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا كتبت ما يزيد عن مائة إدراج. وكل إدراج بعنوان مختلف.

ويستطيع القارئ الكريم أن يستعرض تلك الإدراجات بعناوينها المختلفة عن طريق رابطيها المباشرين على العمود الجانبي لهذه المدونة تحت فئة (تصنيف)؛ والأول منهما تحت عنوان:(عن التدوين والمدونات)، أما الثاني المتمم للأول فتحت عنوان: (من وحي الإنترنت).
ولا شك أن الارتباط بين الحديث عن التدوين وبين الحديث عن الإنترنت قوي ومتين، ولايمكن أن تفك أواصره؛ فهو ارتباط الخاص بالعام وارتباط الجزء بالكل؛ فالتدوين جزء صغير معلق في سماء العوالم الافتراضية، وهو نتاجها وابن جلدتها إن صح لنا هذا التعبير.

ولما كانت موضوعات التدوين مختلطة بغيرها من الموضوعات العامة التي شغلتني طوال هذه المدة من عمر هذه المدونة (كلمات عابرة) فقد أفردت لقضايا التدوين مدونة خالصة تحت عنوان: (تدوين التدوين). ويمكن استعراضها أيضا من خلال الرابط التالي.

وقد كانت خطتي في التدوين، باختصار شديد، تقوم على خمسة أهداف أساسية:

الهدف الأول: اختيار العناوين الدالة القادرة على اختزال التفاصيل الكبرى لواقع التدوين العربي ولتجاذباته المختلفة التي تبتدئ من المدون نفسه ومن انفعالاته الذاتية وتنتهي عند تفاعلات الآخرين والمجتمع. وعسى أن تتوضح الرؤى أكثر حول هذه العناوين والمضامين من خلال جهود زملائي في التدوين، خاصة بعد ظهور مواقع ومدونات ومنتديات عربية خاصة بقضايا التدوين العربي في الآونة الأخيرة.

الهدف الثاني: تبسيط المفاهيم عند تحليل الظواهر وعرض المشكلات بهدوء ورزانة بعيدا عن التطاحنات والحسابات ومن غير صخب أو جلبة.

الهدف الثالث: تقريب المسافة بين المدون والقارئ وحثهما على التفاعل الإيجابي بحيث يمكن لهما أن يتبادلا الأدوار ويؤثر أحدهما في الآخر، وبحيث تكون علاقتهما منتجة ومجدية وغير عقيمة أو غوغائية.

الهدف الرابع: الرفع من مستوى التدوين العربي شكلا ومضمونا، حتى لا نفسح المجال أكثر للعابثين والمجانين والمستهترين الذي يعيثون في الفضاء الافتراضي العربي فسادا وانحلالا وانحطاطا.

الهدف الخامس: تيسير العربية بجعلها أداة حية طيعة سلسلة وأنيقة في يد المدون، كما كانت سابقا لدى فطاحل الكتاب والمؤلفين العرب.
أوليس التدوين اليوم، إحدى طرق التأليف والكتابة ولكن بصيغة جديدة استطاعت أن تفرض نفسها وتشق طريقها نحو عوالم النشر الورقي أيضا. فليس هناك كبير فرق بين ما حاوله أسفلافنا وبين ما نحاوله، وبين ما راودهم وبين ما يراودنا الآن من شؤون وشجون، وإنما العبرة في كل وقت، بالإنسان نفسه من حيث هو إنسان، وليست العبرة فقط بالمكان والزمان وبمن تقدم أو تأخر…

وأنا عندما جئت إلى عوالم التدوين كنت أحمل معي همومي وهموم غيري، وفي جعبتي منتهى أملي وما وصل إليه علمي وفهمي وخيالي…
وعسى أن أكون بهذه المدونة المتواضعة قد أفدت، وإلى واقع التدوين العربي قد أضفت. وأن يكون ما أدرجناه فيها مما يحسب لنا لا علينا.
وشكري سيظل موصولا أبد الدهر، كما أسلفت في المقدمات إلى كل من زار أو علق أو تواصل وراسل.

الخميس، 4 فبراير 2010

التكوين المعرفي في خضم التصفح الإلكتروني السريع

التكوين المعرفي في كل زمان ومكان مطلب روحي لرفع بعض حالات الغموض عن العوالم الخفية للذات الإنسانية الفردية ولمحيطها الجمعي العام.

ومنذ القدم شُدت الرحال نحو الآفاق البعيدة للتزود بالمعارف الإنسانية وقطف ثمار العقول البشرية حيثما وجدت.وقد استرخص المرتحلون والمغامرون الأولون في سبيلها أرواحهم وأموالهم، لتبقى خطوط الاتصال المعرفي الإنساني متصلة في الزمان والمكان عبر رسائلهم ومذكراتهم ومصنفاتهم. وإن بقي تداولها في الزمن الأول البعيد عنا محصورا في فئة عالمة مخصوصة قليلة.

أما اليوم، ومع وصول خطوط الاتصال المعرفي إلى كل بيت عبر صبيب الإنترنت المتدفق طول الوقت، فقد أصبح بإمكان كل واحد منا أن يؤسس مملكته المعرفية الذاتية وينشئ مكتبته الافتراضية الخاصة، على حاسوب متصل أو مجرد ذاكرة فلاشية تندس في الجيب مع قطع النقود وسلسلة المفاتيح.

ولم تعد المشكلة اليوم في تحصيل الموارد المعرفية كما كان الأمر مع أسلافنا، لأنها أصبحت متاحة على الشبكة العنكبوتية بكميات هائلة يفنى العمر بأكمله في تحصيلها والسعي وراءها قبل أن ينفد أو ينقطع القليل منها، وإنما المشكلة الكبرى في تدبير تلك المعارف وجعلها ملائمة لمتطلبات الوقت ولحاجات النفس الضرورية قبل الكمالية.

وهكذا، قد يمضي الواحد منا شطرا كبيرا من حياته اليومية في ملاحقة جديد الكتب والصور والتسجيلات الصوتية والحوادث والمفارقات العصرية وحتى النكت اليومية الطرية، عبر المواقع وعبر محركات البحث الإلكترونية، ولكنه لا يمضي إلا وقتا قليلا في القراءة أو في المشاهدة أو في الاستماع، فيضيع على نفسه فرصة التغذية الروحية المفيدة أو الممتعة، وذلك بتثبيتها حيث يمكن أن تتنزل في العقل أو الوجدان…

وفي العوالم الافتراضية، ورغم تجددها المستمر عبر التحديث اليدوي أو الآلي للمواقع والصفحات الإلكترونية، يبدو كأن المعارف المودعة فيها تذبل أمام أعيننا بسرعة، كما منتجات الحليب ومشتقاته المحفوظة بتقنية عالية في رفوف الأسواق التجارية الممتازة، ربما لأن كل شيء فيها محكوم بالسرعة المتزايدة في كل يوم؛ سرعة الاستهلاك قبل بوار منتوج الحليب الطري، إن فات أجله الموعود ولم يعد طريا، وسرعة الصبيب وسرعة استجابة الحواسيب عند فتح النوافذ أو إغلاقها وسرعة اليد التي تتحكم في الفأرة أو في المجسات الإلكترونية على شاشات العرض الزجاجية الملساء من غير أزرار أو نتوءات، وسرعة حدقة العين لدى التصفح والتقليب، وسرعة القفز المستمر عبر المواقع والصفحات الإلكترونية كما يفعل النسناس في الغابة عندما يتنقل بين أغصان الأشجار بحركاته البهلوانية العشوائية…

وربما لهذه الأسباب ولغيرها من العوامل الأخرى الخاصة بكل متصفح على حدة، قد يصعب علينا اكتساب أو فرض عادة مضبوطة مدروسة سلفا لتصفح عقلاني منظم مثمر، لأن العوالم الافتراضية هي في حد ذاتها عوالم غير منطقية، وهي مبنية في جزء كبير منها على العشوائية، عشوائية ترتيب المواقع وعشوائية البحث الإلكتروني الآلي الذي ما زال يعتبر أبناء عبد الواحد، عند البحث عنهم على الشبكة العنكبوتية، كأنهم شخص واحد.

وأخطر ما في الأمر أن الجزء الأكبر من وقتنا يضيع في التصفح والتحليق الافتراضي الذي قد يستمر بنا لساعات طويلة دون أن ننتبه حتى يأخذ منا التعب مأخذه الشديد، فنغادر منصة حاسوبنا المتصل، دون أن نجني فائدة كبرى باستثناء متعة التحليق الهوائي التي تبهرنا وترينا كل شيء من فوق وكأنه قريب منا فإذا هو بعيد، وحتى إذا ما حاولنا استرجاع ما اطلعنا عليه سابقا لم نظفر إلا ببقايا صور مجتزأة وكلمات مقطعة لا يستقيم معها سياق جملة واحدة مفيدة.

وربما هذا حال ناشئتنا اليوم إذا لم نبالغ في التشاؤم؛ فهم يدعون المعرفة بكل شئ يخص تقنية الأزرار ومناورات ألعاب الفيديو، ولكنهم قد لا يعرفون شيئا كبيرا وراء ذلك كله فيما يخص تجارب الحياة اليومية وحقائق؛ وقد يكفي أن تمتحنهم بقطعة إنشاء أو شكل نص أو إعراب جملة عربية بسيطة أو تسألهم أسئلة تاريخية أو جغرافية أو دينية…

وقد بدأت كثير من سلبيات التصفح الإلكتروني السريع تنتقل إلى مجال التصفح الورقي لتعدي حتى المدمنين سلفا على قراءة الكتب الرصينة والمجلات المحكمة ؛ فأصبح أكثرنا ـ نحن المخضرمين ـ لا يطيق قراءة المقالات الصحفية الطويلة وإنما يكتفي بعناوينها ورؤوس أقلامها.

وإذا كنا نحن اليوم لا نصبر الصبر القليل على قراءة عمود واحد مع أننا حديثو العهد بالتكنلوجيا، فمن أين سنأتي بالصبر الجميل حتى نتحمل عبء قراءة كتاب أو باب كامل دفعة واحدة فيما سيستقبل من الأيام عندما ستعم التكنلوجيا وتتحكم في كل حركاتنا وسكناتنا؟.

أظن أن ظاهرة التصفح السريع تنذر بظهور نوع جديد من الأمية الخفية؛ فالمعارف الجديدة لخفتها وسرعة ذوبانها واختفائها قبل الانتفاع بها تنجذب نحو السطح دون أن تتشربها الأرواح والعقول والقلوب، وحيث يمكن أن تتنزل وتحدث الأثر الباقي الساري المفعول.

كنت ولا زلت أومن بأن التصفح الإلكتروني السريع كالرؤية من نافذة القطار الضيقة، تريك أشياء كثيرة ولكنها في الحقيقة لا تريك شيئا، إلا من أحب النزول والسعي بالأقدام والمكوث الطويل عند كل مشهد أو عند كل محطة.

الأربعاء، 27 يناير 2010

الإعلام العربي الجديد وأفق التغيير

لم يعد الإعلام العربي في صورته الجديدة حكرا على الأنظمة العربية الحاكمة وعلى الأحزاب السياسية المؤيدة لها أو المعارضة، وإنما أصبح، بفضل نعم التكنولوجيا ومنجزاتها الهائلة في عالم التواصل، متاحا للجميع مثل الماء والهواء.

لقد سقطت القدسية عن الخبر العربي، وتبخرت كل شعاراته الزائفة في أجواء التحرر الإعلامي الجديد، ونزل الخبر المعظم أخيرا عن عرشه من علياء مؤسسات التحرير الرسمية متخففا من قيود الآداب السلطانية وحرج تقبيل أعتاب وأقدام السادة المبجلين، مترجلا يمشي حافيا عاريا في الشوارع ويتوغل في الحارات حتى اعتاده جميع الناس وصار عندهم في حكم المتاع المشاع مثل الخبز اليومي لكل واحد منا نصيبه المنقوص أو الكامل.

وهاهو الخبر العربي اليوم قد صار مطروحا في الطرقات العنكبوتية العامة مكشوفا مفضوحا، يبثه ويلتقطه من شاء بالصوت والصورة والعبارة.
وقلم المداد المنمق الفاخر الذي كتب به مشاهير الصحفيين الألمعيين أعمدتهم الثابتة في الجرائد الوطنية العربية والحزبية، على مدى نصف قرن أو يزيد ما عاد له نفس الأجر ونفس البريق والجاه.

ويبدو أن بعض الحكومات القائمة على شأن الإعلام في وطننا العربي قد استوعبت دروس التحولات الإعلامية الجديدة، فما عادت على الأقل تطيل نشراتها الإخبارية الرسمية كما كان الأمر في السابق، ربما إشفاقا على معدة المواطن العربي المهترئة أصلا من القرحة الموجعة ومن الذبحة القاتلة بسبب الأحماض والتوابل الزائدة عند إعداد الوجبات الإخبارية العربية الرسمية الحافلة بالتدشينات وبالاستقبالات والتوديعات …

ما أسهل اليوم أن تصبح كاتبا في إحدى الجرائد الإلكترونية أو مقدم برامج في إحدى القنوات الفضائية أو مذيعا في إحدى محطات الإذاعات ... فما عاد الأمر يحتاج إلى تكوين خاص أو ثقافة عالية، وربما كان للصدفة العابرة وللعلاقات الشخصية وللتوافق المزاجي بين هذا الطرف أو ذاك أكبر الأثر في إنشاء جريدة إلكترونية، أو قناة فضائية أو محطة إذاعية جهوية أو غير ذلك من الوسائط الإعلامية التي لا يمكن أن تنتعش اليوم إلا بالوصلات الإشهارية المدفوعة الأجر أو تقتات على مكالمات المستمعين أو المشاهدين الفائضة من رصيدهم لدى شركات الاتصال.

وكثير من المحسوبين على الإعلام العربي المرئي أو المكتوب أو المسموع هم اليوم من أشباه المثقفين وقد لا يتميزون كثيرا عن طبقة العوام الأميين…وقد يكفي أن تتابع برامج المنوعات العربية المبثوتة على التلفاز في بيتك أو على المذياع وأنت تقود سيارتك…

وأخطر ما في الإعلام الجديد هو هذه السلطة الخفية التي صار يمتلكها في قلوب الناشئة الجديدة، سلطة تذعن لها النفوس قبل العقول، وتسخر لها كل معطيات التكنولوجيا والبرمجة الرقمية الحديثة التي كثيرا ما تسحرنا وتبهرنا، فتجعلنا من خلال تقنية الفوتوشوب مثلا نرى صورا غير الصور وحقائق غير الحقائق وعالما فسيحا يمتزج فيه الواقع بالخيال، والصدق بالكذب فنذعن ونتغير من غير شعور من داخلنا قبل خارجنا، وفي سلوكنا وحتى في طريقة كلامنا.

لا شك أن دور الإعلام الجديد في تشكيل الوعي لدى عموم الناس يفوق دور كل مؤسسة تربوية عمومية أو خصوصية ويتجاوز بكثير دور الآباء والمربين والدعاة والحكام وكل الوزارات وكل هيئات المجتمع التقدمية أو الأصولية…

قد ينتابك حرج وأنت تتابع بعض برامج التلفزيون مع أبنائك، وقد يفرون من مكانهم حيث يجلسون أمام التلفزيون حرجا في المرة الأولى، وقد تفر أنت أو تضطر إلى تغيير المحطة، لكن من يضمن لك أن لا تنفض أو لا ينفض أبناؤك من حولك في المرة الثانية، إن لم تجد البديل المناسب عند تغيير المحطة أصلا أو أصروا واستكبروا استكبارا…

قد يغير الإعلام الجديد فينا بعض الشيء حبا في مجاراة الركب، ولكن الإعلام الجديد سيغير في أبنائنا كل شيء لأنهم بحكم الزمن سيكونون في مقدمة الركب.

الثلاثاء، 26 يناير 2010

مزاج طبيعي جدا

كثر الحديث في هذه الأيام عن التقلبات المناخية التي تشهدها معظم المناطق العالمية. ولا يتعلق الأمر هنا بمجرد تقلبات عادية في درجات الحرارة والرطوبة أو في كمية التساقطات المطرية والثلجية، وإنما بتقلبات استثنائية ونوعية في المزاج الطبيعي كله.
وكأن هذه المزاج الطبيعي المتغير فجأة رسائل إنذار مبكرة للناس كي يحزموا حقائبهم لسفر كوكبي مرتقب بعيد عن واقع هذه الأرض إذا ما ضاقت بهم، أو اختلت موازينها، أو صار كل شيء فيها بالمقلوب….

وقد كان زلزال هايتي الأخير بمثابة يوم قيامة مُصغر؛ قضم ربع سكانها دفعة واحدة في أقل من طرفة عين.
لقد أربك زلزال هايتي الذي ضرب هذه المرة في الصميم موازين المختصين بعلم الزلازل، وجعلهم يقيسون ويتوقعون مدى حجم الدمار الذي ينتظر البشرية إذا ما قرر مزاج الطبيعة الزلزالي أن يضرب في كل مرة ضربته في الصميم، حيث كبريات المدن و حيث المنشآت الصناعية وحيث السدود العالية والجسور المعلقة ومحطات الطاقة النووية، ومراكز تخزين السلاح وغير ذلك من المنشآت المدنية والعسكرية والإستراتيجية والحيوية…

يُخيل إلي أحيانا أن مزاج أمنا الأرض كمزاجنا، وربما كان ذلك المزاج لديها، حين تكفهر أو تكشر أو ترتعش، نوعا من ردة الفعل على إزعاجنا لها وتحدينا لها بالحفر من هنا وبالردم من هناك وبالوصل من هنا وبالقطع من هناك…

فعلى كوكبنا الأرضي حرب غير معلنه بين كل ما هو طبيعي وبين كل ما هو صناعي، بين ما ينتجه تراب الأرض من زرع وضرع وبين ما تصنعه يد الإنسان من ضر ونفع.
وتسعى الطبيعة مع ذلك جاهدة لاحتواء أوضار البشر في بحرها وبرها وجوها للإبقاء على الحد الأدنى من التوازن فعل كل أم رؤوم تجاه سلوك أبنائها عندما تضم صالحهم وطالحهم وتحتويهم جميعا تحت جناحها ...

ولو جعل كل واحد منا نفسه مكان الأرض لما تحمل ذرة واحدة مما تحملته هذه الأرض العجوز الشمطاء منذ ملايين السنين من وزرنا..
وأحمد الله أن ترابها ما زال يطرح الثمار والغلال، وأن ماءها لازال في مذاقنا هو نفسه الموصوف بالزلال، وأن مرعاها لا تعافه إلى يوما هذا الحمير والبغال.

وما أثار انتباهي في موضوع مزاج طبيعتنا المتغير هذا هو نزعة التشاؤم والخوف من المجهول التي بدأت تسيطر على عقول الناس كلما تحدثوا عن هذا الموضوع، واحتماؤهم بالأوهام الميتافيزيقية السطحية التي يستغلها البعض عبر كثير من القنوات الفضائية لإثارة الفتن الدنيوية والدينية، مع أننا نعيش آخر صيحات التكنولوجية.

أطن أن السماء حينما تمطر ببلادنا بغزارة فإنما تمطر بالغيث الذي يحيي الأرض، وليس بالحفر التي تعرقل حركة السير على الطرقات المغشوشة أو تغرق الدور والمزارع عند الأراضي الواطئة…

وفي سلوك الطبيعة ومزاجها المتغير ما يكفينا ويكفي كل الوزارات القائمة على أمرنا من دروس لنعتبر لا لنعتذر عند الإهمال أو التفريط كلما أمطرت السماء أو شحت وكلما اهتزت الأرض أو استقرت…
ــــــــــــــــــــــــــ
إدراجات ذات صلة:
نخيل المغرب يزهر في موسم الشتاء
خيال مجنح

الجمعة، 22 يناير 2010

مفاتيح الولوج الرقمية؛ سِر أم خصوصية…؟!!

هناك في حياة الإنسان الواقعية ما يستدعي التكتم، حفاظا على نوع معين من إيقاع الحياة، وصونا للبيت الأسروي الصغير ولأركان المجتمع الكبير من الهدم في بعض الأحيان، وعونا على قضاء مآرب الدنيا الشخصية بالنسبة للأفراد، في أكثر الأحيان.

ولا حاجة بنا هنا إلى ذكر الحكم وسرد القصص المرتبطة بهذا الموضوع الخطير لأنه إذا ما اشترك في السر الواحد شخص ثان، ولو كان شقيق الروح وتوأم النفس لم يعد بالإمكان أن يقال عنه سرا.

وهناك حدود كبيرة فاصلة بين درجات تملك الأسرار وصونها وبين طرق اكتشافها بالصدفة أو الحيلة، وبين انتزاعها بالغصب والقهر। ويمكن أن نضرب المثال على ذلك بمحاكم التفتيش، وبأجهزة المخابرات في كل دول العالم.

ولك أن نتخيل مؤسسات بهذا الحجم، ترصد لها أضخم الأموال ويعين فيها أعتى وأمكر الرجال مهمتها الأساسية الحفاظ على أكبر أسرار الدولة وانتزاع أخطر الأسرار من الدول الأخرى المتربصة القريبة أو المعادية، ومن الانقلابيين والمناوئين في الداخل والخارج، ومن كل المتهمين والمشبوهين، وحتى من الأبرياء، عندما تختلط الأوراق ويقع الناس جميعهم تحت طائلة س وج …

ولنا في قصة احتلال العراق الشقيق الذي احترق أخضره بيابسه خير دليل على ما نقوله من غير حاجة إلى ذكر التفاصيل المودعة الآن بأمان واحتراز شديدين في البيت الأبيض الأمريكي مستودع كل الأسرار الكبيرة والخطيرة في بلاد العم سام…।

وكما أن لكل فرد أسراره فكذلك لكل جماعة ولكل مؤسسة ولكل دولة ولكل مهنة ولكل ما هو موجود في هذا الكون الفسيح। لأن مجرد وجود شيء ما هو في حد ذاته سر من الأسرار….

ومع أن معظم ما في حياتنا الافتراضية مكشوف مفضوح على ملأ الدنيا كلها إلى درجة العهر والعري المبتذلين، فإن وراء كل موقع أو مدونة أو منتدى أو صفحة إلكترونية سر خطير لا يمكن البوح به أو الإعلان عنه أو التلميح إليه، لأنه بمثابة المفتاح والقفل الافتراضيين بالنسبة لكل بواباتها الصغيرة والكبيرة، عند كل فتح أوإغلاق، وعند كل طي أو نشر…
ونعني هنا بالمفتاح الافتراضي طريقة الولوج لإدراج شيء ما على الشبكة العنكبوتية أو حذفه أو تعديله.
ونعني بالقفل تأمين الخروج النهائي من أي صفحة إلكترونية شخصية، بعد إطفاء الحاسوب ومغاردة مكان الجلوس، دون أن نترك الباب أمام الآخرين مواربا أو مفتوحا على مصراعيه ليدخلوا بعدنا ويحتلوا المنصة والمكان…

وليست المفاتيح والأقفال الإلكترونية مواد صلبة من حديد أو فولاذ، وإنما هي حزمة أرقام وحروف تنطبع على نفس واحدة هي نفس صاحبها، وعلى ذاكرة واحدة هي ذاكرة صاحبها دون غيره من الناس، كما ينطبع (كانون) القفل الوحيد حالة كونه مواد معدنية منصهرة على مفاتيحه الأصلية الأولى التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة عند الصنع…

ولولا وجود منصة الولوج الافتراضية المحمية بالأرقام والحروف السرية السحرية بالنسبة لصاحب لكل مدونة أو منتدى أو موقع أو أي صفحة إلكترونية عادية لعم النهب والسلب بيئتنا الافتراضية، ولما صح لنا أن ننسب كل هذا الكم الهائل من المواقع الإلكترونية لأصحابها الذاتيين أو المعنويين.

ومنصة الدخول الافتراضي المحمية بمثابة الحصن المنيع والجدار المرتفع لتضمن استمرار الحياة الافتراضية بالنسبة لكل المواقع والصفحات الإلكترونية أكبر فترة ممكنة…

ومع الحرص الشديد من قبل المستخدمين للبوابات الإلكترونية عند الدخول إليها أو الخروج منها، فلا يخلو الأمر من المتلصصين والقراصنة والمتجسسين الذين يتتبعون خطوات كل ولوج أو خروج عبر برمجيات القرصنة (الهاكر) قبل كل هجوم أو اقتحام؛ إما لغرض التدمير، وإما لغرض العبث بمحتويات وممتلكات الغير، وأحيانا لمجرد إثبات الذات وتحدي برامج وجدران الحماية العالية التي يرفعها أصحاب المواقع المهمة في وجوه القراصنة وقطاع الطرق الإلكترونية.

ولكن، كثيرا ما تجد بالصدفة أن أحدهم قد ترك بوابة الولوج إلى صفحته الشخصية مفتوحة على المسنجر أو الفيس بوك أو غيرهما من البوابات؛ ويحدث هذا عادة في مقاهي الأنترنت عندما يترك أحدهم مقعده دون أن يحكم إغلاق الأبواب والنوافذ الافتراضية، وكذلك الأمر بالنسبة لأماكن العيش والعمل المشترك، كالإدارات والمصالح العامة والمؤسسات الخصوصية المكتظة بالناس، وحيث يمكن للمدير مثلا أن يترصد ويراقب كل الحركات والمناورات التي يقوم بها الموظفون والأعوان من خلال الحواسيب الموصولة …

وإذا كان من السهل على أي واحد منا أن يختار ما شاء من حروف وأرقام، بعد أن يرتبها بطريقته الخاصة في نفسه، لتكون حزمة مفاتيح ولوجه السرية لبواباته الإلكترونية المختلفة، فإن أصعب ما يلي هذه العملية هو استظهار تلك الحروف والأرقام واسترجاعها بالنسق الأول عند كل مرة.

وإن فقدان سر الولوج إلى المواقع والمدونات والمنتديات أمر وارد ولا يمكن استبعاده لعامل النسيان أو غيره। وربما كان ذلك أحد الأسباب الأساسية لتوقفها، وبقائها على حالة واحدة ثابتة من غير تجديد أو تحديث.

وحدهما النسيان والموت كفيلان بأن يغيرا معالم الحياة الافتراضية في مستقبل الأيام ليغدو جزء كبير منها في حالة توقف أو جمود، إن لم نسلم مقاليد مدوناتنا ومواقعنا وصفحاتنا الشخصية في حياتنا وقبل وفاتنا إلى غيرنا، وتلك قصة أخرى قد لا تكتمل تفاصيلها إلا بعد مرور جيل واحد على الأقل من الآن، ابتداء من هذه اللحظة التي أنهي فيها كتابة هذا الإدراج وأنا على قيد الحياة.

الثلاثاء، 19 يناير 2010

عندما تتحدث التكنولوجيا بالعربية….!!

مع أن منتجات التكنولوجيا خرساء عمياء في جِبِلتها الأولى، غير أنها تستطيع أن تحس وتبصر وتسمع، وتميز وتؤذي وتنفع. وفوق ذلك كله تستطيع أن تتكلم، كما هو صوت المجيب الآلي الأنثوي الناعم الذي ينبعث قادما إلينا من المجهول عبر الهاتف الثابت أو المحمول.

وقد صارت الآلات اليوم مثل الإنسان؛ فهي محكومة في نظامها بقواعد بيانات معدة سلفا للإيقاف والتشغيل والتهيئة، وهو محكوم بالقوانين والبنود الوضعية في كل أموره الدنيوية، عند اليقظة وحتى أثناء السبات والحلم.

وكثير من المنتجات الصناعية الإلكترونية التي نستوردها بإفراط من البلدان الأسيوية تدعم اللغة العربية، سواء تعلق الأمر ببرامج التشغيل المثبتة في دوائرها وذاكرتها الإلكترونية، أو تعلق الأمر بدلائل الاستخدام المرفقة.
ويمكن أن نضرب المثال بكثير من تلك الأجهزة التي نستعملها في حياتنا اليومية العادية بشكل مستمر؛ كالتلفاز والفيديو والهاتف المحمول والأرضي بالإضافة إلى أجهزة العرض والبث والاستقبال الرقمية الأخرى। هذا فضلا عن عدد هائل لا يحصى من الحواسيب الشخصية المرتبطة وغير المرتبطة بالشبكة العنكبوتية.

وما يثير انتباهي عادة في لغة دليل الاستخدام المكتوبة بالحروف العربية أو في واجهة التشغيل العربية لمعظم تلك الأجهزة المستوردة من البلدان الأسيوية على وجه الخصوص، هو الركاكة زالتشويه.

ولعل أخطر ما فيها من عيوب لغوية التصحيف: ونعني به طبع حروف غير مناسبة مكان الحروف المناسبة، فضلا عن إسقاط بعض الحروف أو تقديم بعضها على بعض وغير ذلك من العيوب المرتبطة بالشكل والمضمون، مما يثير ارتباكا كبيرا في الفهم لدى أي مستخدم عربي، ويولد لديه انطباعا سيئا عن لغته الأم ويضطره إلى اختيار واجهة لغوية أجنبية أخرى أوضح وأسلس كاللغة الفرنسية بالنسبة لدول المغرب العربي، أوالإنكليزية بالنسبة لدول المشرق العربي.
وربما كان عدم وجود مثل هذه الواجهات العربية المشوهة الممسوخة أهون وأسلم من وجودها أصلا.

وأقل ما يمكن أن أقوله عن مختلف الواجهات العربية الرقمية التي اطلعت عليها عبر بعض الأجهزة التي جربت استخدامها من خلال الدليل أو من خلال منصة التشغيل أنها لا تعدو أن تكون ترجمة حرفية ركيكة، مثلها مثل أي ترجمة آلية عشوائية للمواقع والصفحات الإلكترونية، فبعضها مُصيب وأكثرها مَعيب.

ولكن العيب ليس في مصانع آسيا إذا ما اختارت اللغة العربية كواجهة استخدام منقوصة لأجهزتها المختلفة التي تغرق بها أسواقنا، بل العيب فينا نحن لتكاسلنا وتقاعسنا.

ثم إن تلك المصانع ومؤسسات الإنتاج الأسيوية لاتدعم اللغة العربية حبا فينا أو في لغتنا مع جهل معظم الأسيويين باللغة العربية وبعدهم عنا، وإنما الغرض من هذا الدعم الدعاية والترويج والمنافسة الشرشة لغزو أسواقنا وإغراقها المستمر بمزيد من السلع، ما دامت أسواق العرب من أكبر مراكز الاستهلاك الباذخ في العالم.
وإذا، فما هي الشروط الصحية الضرورية لوضع أي برمجة لغوية عربية سليمة؟

هنا يتجلى الدور الكبير الذي يمكن أن ينهض به علماء اللغة العربية ولجان الترجمة والتعريب المختلفة ومعاهد البحث والبرمجة العربية المتخصصة لمد معامل الإنتاج الآلي بالمصطلح اللغوي العلمي المناسب وبالكلمات والعبارات الوصفية الملائمة والمطابقة لقواعد بيانات التشغيل والتحكم الآلي.

فيكفينا كلاما وتنظيرا ونحيبا على لغتنا العربية الجميلة، وقد حان الوقت لمكننتها في معاملنا، وفق ما نريد نحن بما يتلاءم مع شروطنا وأوضاعنا الثقافية والحضارية حتى نثبت وجودنا اللغوي وفاعليته وحيويته، وقدرته على مواكبة الركب الحضاري الجامح، وعلى الإبداع والاختراع.

السبت، 16 يناير 2010

صناعات التقليد؛ حاجة أم آفة؟.

أسهل ما في تقنيات هذا العصر المعولم على منتجيها إغراق السوق بسلعها، وأصعب ما فيها على مستهلكيها تمييز أصيلها من زائفها…

ولعل أول سؤال يطرحه المشتري العادي اليوم على البائع عندما يقدم على شراء جهاز ما من الأجهزة الصناعية؛ هل هذا المنتج حقيقي أم مقلد؟.
وبما أن البائع يعول في الغالب على غفلة ذلك المشتري وعلى جهله وعلى غبائه أكثر مما يعول على رأسماله، فلا يجد أي صعوبة في إقناع ضحيته بصدق ما يدعيه، إن لم يبعه الزائف بنفس ثمن الأصيل। فيكون الربح مضاعفا بالنسبة للبائع، وتكون الخسارة والخيبة مضاعفتين مثنى وثلاث ورباع بالنسبة للمشترى المغفل.

والغريب أن كل مشتري يقتنع في قرارة نفسه أن ذاك المنتج الصناعي الذي حازه أصيل ما دامت العيوب غير بادية له، وقد يباهي به غيره। ولذلك فهو لا يتراجع إلا إذا أقنعه طرف آخر بعكس ما يدعيه، بتقديم الدليل الدامغ والبرهان القاطع على فساد رأيه وفساد السلعة معا.

ولا تنطلي حيلة التقليد الصناعي على المشترين الجاهلين أو المغفلين فقط بل قد تنطلي حتى على العارفين المجربين، فالسلع المقلدة لم تعد اليوم بتلك الفجاجة التي كانت عليها، بل صارت مثل الأصلية تماما،إن لم تفقها نعومة وصقلا ولمعانا، مما يخطف الأبصار ويعمي البصيرة، ويفرغ الجيب।

فقد استطاعت صناعة التقليد، عن جدارة واستحقاق، وإن لم يعترف لها أحد بذلك، أن تثبت بحزم وقوة في وجه كل الصناعات الأصلية الآلية واليدوية؛ فهي لها بالمرصاد تتحداها وتستنسخ على غرار كل ما تبدعه هي من نماذج أصلية ليس بالعدد المحدود على قدر طلبات الزبناء المحترمين الذين يتعاملون رأسا مع أمهات الشركات العالمية، وإنما بعدد غير محدود يتجاوز الطلب حتى تغرق كل الأسواق الرسمية والعشوائية والشعبية في كل منطقة وفي كل ناحية، فيختلط الحابل بالنابل।

وكثير من الشركات الصناعية العتيدة ذات الماركات التجارية العالمية المسجلة والجودة العالية أصبحت اليوم على حافة الإفلاس بسبب منافسة أوراش صناعات التقليد المنتشرة في معظم الدول الأسيوية، وليس بسبب منافسة الصناعات التقليدية। فهناك فرق شاسع بينهما لأن الصناعة التقليدية مهارة وحذق وإبداع متجدد أما صناعة التقليد فهي نوع من السطو على جهود الآخرين والقرصنة ومحاكاة مطابقة للأصل تدور في فلكه ولا يمكن أن تتعداه.

وليت الأمر وقف عند حدود تقليد المنتجات الصناعية من أجهزة وملابس وإكسسوارات ولوحات وأشياء عديدة تراها مكدسة في كل المتاجر الصغيرة والكبيرة لا تعرف لها أصلا ولا فصلا ولا تحمل أية إشارة أو علامة تجارية॥بل لقد تجاوز الأمر حتى تقليد منتجات الدواء من عقاقير ومستحضرات ومستحلبات، وآلات التطبيب المختلفة، كأجهزة قياس الحرارة والضغط والسكري وغير ذلك مما قد يهدد صحة المرضى ، ويودي بحياتهم।

ترى أي دور للمستهلك البسيط في هذه الدوامة، وهو المغلوب على أمره، همه الوحيد أن يجد منتجا رخيصا للاستهلاك أو الركوب أو الزينة.
ولو توقف الأمر مثلا، على الشركات السويسرية المتخصصة في صناعات الساعات الرفيعة ذات الجودة العالية لبقي أكثر فقراء العالم من غير ساعة يدوية أو حائطية، ولفاتتهم مواعيدهم وفرصهم الموعودة والمنتظرة مع الناس أو مع الزمن।

وكثير من الأوراش الصناعية الأسيوية المختصة بتقليد الساعات السويسرية صارت تصدر منتجاتها الآن بالكيلو وليس بالوحدة، بل وبثمن البطاطا والخيار، إن لم يكن أقل من ذلك।

ولك أن تقيس هذا المثال على ما شئت من المنتجات الصناعية المقلدة الأخرى… فأي رخاء أكبر من هذا يعم مساكين هذا العالم ، ولكنهم يحلمون دوما بمداعبة السلع الحقيقية المخملية الموقعة التي يقتنيها أثرياء العالم، ولو مرة واحدة في حياتهم…!
ــــــــــــــــ
إدراجات ذات صلة

الخميس، 14 يناير 2010

دبلوماسية الإذلال..!!

ذكر عن أسباب الأزمة الدبلوماسية التركية الصهيونية الحالية قصاصات كثيرة تضاربت حولها الآراء والتحليلات السياسية. وكان أهم حدث بارز فيها تلك الطريقة المُهينة التي استـُقبل بها السفير التركي مؤخرا في تل أبيب؛

ومن مظاهر هذا الاستقبال الممعن في الإهانة والإذلال، على مرآى ومسمع العادي والبادي، أن نائب وزير الخارجية الصهيوني "داني أيالون" رفض مصافحة السفير التركي "أوغوز تشليك غول"، وأرغمه على الانتظار الطويل في الرواق حتى يتمكن أخيرا، وبعد طول توجس وشوق من النظر والتطلع إلى وجهه (العزيز)، وتعمد عدم وضع العلم التركي على طاولة الاستقبال، كما جرى عليه العرف في المراسيم الدبلوماسية مكتفيا بالعلم الصهيوني فقط، بل وأعطى تعليماته بعدم تقديم أي شراب للسفير المسكين، ولو بعد كل هذا الانتظار الطويل وهذه اللهفة…!!

ومما زاد الطين بلة أنه طلب من الصحفيين الذين نقلوا وقائع هذا الاستقبال النادر في تاريخ كل العلاقات الدبلوماسية السابقة، أن يذكروا في تقاريرهم الصحفية أن السفير التركي كان يجلس في وضع منخفض عن مستوى "داني أيالون" ومستوى زبانيته الصهيونية التي كانت تجلس معه في الطرف الأعلى المقابل.

وقد علق السفير التركي المسكين عقب هذا الاستقبال العجيب الغريب، أنه لم يتعرض طيلة حياته الدبلوماسية التي دامت خمس وثلاثين سنة لمثل هذا الموقف الحرج لشخصه ولشخص حكومته التي يمثلها.

وكان من الطبيعي أن يثير هذا الاستقبال الدبلوماسي الغريب حفيظة الحكومة التركية وكل حكومة ديموقراطية تحترم نفسها وكيانها وإرادة شعبها. وقد أرعدت الحومة التركية وأزبدت واهتزت مشاعرها وهددت، وطالبت باعتذار فوري مكتوب يعيد لها الاعتبار ويمحو بعض آثار هذه الزلة الدبلوماسية عن القلوب والنفوس. فاستدعى الرئيس الصهيوني "شمعون بيريز" على إثر هذا التصعيد من جهة تركيا "داني أيالون" وحثه على إرسال اعتذار خطي فوري لنزع فتيل الفتنة، وقطع دابر الخلاف قبل فوات الوقت.

وبوقاحة ونفاق معهودين في سلوك القادة الصهاينة نفى "أيالون" عن نفسه أية نية مُسبَقة لإذلال السفير التركي، وهو وإن كان لا يجد في سلوكه هذا ما يستدعي الاعتذار فهو يعتذر، ويعد فوق ذلك كله بحل كل الخلافات التركية الصهيونية بشكل مشرف.

حقا إنه منطق صهيوني غريب في الاعتذار. اعتذار أكبر من زلة، اعتذار مغشوش، بل اعتذار خبيث ينطوي على فساد نية الفكر الصهيوني العنصري الذي لا يرى لغير الصهاينة اعتبار أو تقديرا.

ولا زالت تداعيات هذه القصة بين شد وجذب بين الطرفين، ولا زال الهرج والمرج مستمرين حول هذه النازلة الدبلوماسية بين كل المراقبين والمحللين السياسيين على كل القنوات الفضائية الدولية.

وربما أرادت إسرائيل من وراء هذه الحادثة الدبلوماسية، أن تعطي المثال لتضرب عصفورين بحجر واحد؛ فالعصفور الأول القريب، هو معاقبة تركيا على كل مواقفها القديمة والجديدة المناهضة لسياسة إسرائيل، ولو تعلق الأمر بمجرد عمل تلفزيوني درامي تركي يتضمن الإشارة من قريب أو بعيد إلى سلوك الصهاينة المعهود في الغصب والاحتلال والاستيطان.

أما العصفور الثاني البعيد، فهو إيران وما تمثله من تهديد نووي، وقد أرادت بمناورتها العسكرية النووية والجرثومية الأخيرة أن توهم العالم بأنها الأدهى والأقوى. غير أن الخبث والمكر الصهيونيين هما في حقيقة أمرهما علامة جبن وخور وضعف، ولنا في درس الحرب اللبنانية الصيفية الماضية الخير اليقين. فلازالت تداعيات تلك الحرب تظهر على سلوك الصهاينة وردة فعلهم بين الفينة والآخرى. وقد تكون هذه الحادثة الدبلوماسية من بعض آثارها وجروحها.


ترى، أين مكان ساستنا العرب، من الإعراب، في هذه الحادثة الدبلوماسية حاليا ومستقبليا؟. لا جواب ولا حس ولا رد حتى الآن. غير أن مضمون هذه الحادثة المرمز والمشفر لا شك أنه قد وصل بوضوح إلى من يعنيه الأمر من حكامنا وقادتنا الأشاوس…. فإياك أعني واسمعي يا جارة.

الاثنين، 11 يناير 2010

روابط التدوين؛ من الاتصال إلى الانفصال.

تمثل الروابط والوصلات في عالم القراءة الافتراضية ما تمثله الإحالات المرجعية في الكتب والمنشورات الورقية.

والروابط تتوجه في المقام الأول إلى القارئ، حيث تتيح له إمكانيات بديلة للتعرف على الموضوع المُحال عليه من زوايا أخرى قد تكون مماثلة أو مختلفة أو مكملة، كما أنها تبرهن على سعة اطلاع الكاتب والمدون معا، وعلى جهودهما في التوفيق بين أفكارهما وأفكار غيرهما।

والروابط والإحالات تتعدى كونها مجرد إشارة مرجعية لتصبح شكلا من أشكال التواصل مع الآخرين، وحثا للقارئ على الانخراط الدائم في مشروع البحث والتنقيب عن أصول المعرفة أنى كانت مصادرها।

غير أن الروابط في عالم الإنترنت، وبغض النظر عن ما يمكن أن تجلبه للقارئ من فوائد معرفية، قد أصبحت مطلوبة في حد ذاتها لأنها تعد الآن من أهم المؤشرات على شهرة المواقع والمدونات والصفحات الإلكترونية…
ويكفي أن تجرب البحث في الشبكة عن أي كلمة أو صورة أو اسم موقع أو مدونة حتى يأتيك كوكل أو غيره من محركات البحث بكافة روابطها العشوائية المتصلة بها بسبب مباشر أو غير مباشر .
ولهذا السبب قد يعمد بعض أصحاب المواقع والمدونات المحترفين إلى استخدام بعض الحيل التشبيكية الخاصة حتى تصبح مواقعهم ومدوناتهم معروفة أكثر لدى الزوار ولدى محركات البحث।

ترى، كيف يتم التعامل مع تقنيات الربط والتشبيك في واقع التدوين العربي؟
في البداية ينبغي التمييز بين نوعين مختلفين من الروابط؛ فهناك روابط داخلية خاصة بكل مدونة على حدة، وهناك روابط خارجية تصل مدونة ما بغيرها من المواقع والصفحات الإلكترونية المنتشرة على الشبكة؛

ونقصد بالروابط الداخلية مجموع الوصلات التي تربط مضامين الإدراجات الجديدة بالقديمة। وهنا تتجلى عناية المدون بنسق مدونته الفكري المنتظم، مما يجنبه الوقوع في الحشو والتكرار.

أما الروابط الخارجية فنقصد بها كل خيوط التشبيك التي تصل مدونة ما بما يناسبها في الخارج مما هو مدرج على الشبكة.
والروابط الخارجية قد تكون من صنع المدون نفسه حينما يعمد عن قصد واختيار إلى نوع معين من التشبيك الخارجي الذي يناسب سلوكه ومنهجه في التدوين، وقد تكون من صنع غيره، ولا يكون له فيها يد। ربما لأن طبيعة موضوعاته تغري غيره بأن يضعوا لها رابطا واحدا أو أكثر على مدوناتهم ومواقعهم.

وإذا كانت الروابط والوصلات بهذه الأهمية، في خلق وشائج القربي بين المدونين، وفي إيجاد عناصر التقارب بين المواقع والمدونات، فينبغي أن تعطى لها الأهمية التي تستحقها بحيث تكون مميزة باللون أو الخاصية، ثم كيف يمكن للقارئ أن يميز بين كلمة مرتبطة وأخرى غير مرتبطة إذا كان بنط الخط واحدا؟!।

وفي العادة فإن اللون الأزرق الفاتح هو اللون الافتراضي المميز للكلمات والفقرات ذات الارتباط الداخلي أو الخارجي، الجزئي أو الكلي॥

وكما يمكن للمدون أن يفك الارتباط عن الكلمات والفقرات المرتبطة في أي وقت، يمكنه كذلك أن يغير لونها بما يتناسب مع شكل مدونته। من خلال محرر النصوص، أو من خلال لغة الهوتمييل، إن كانت له معرفة ببعض خصائص لغات البرمجة.

ومع أن الروابط مفيدة للقارئ، غير أن كثرتها في الصفحة الواحدة قد تشتت اهتمامه وتطوح به بعيدا عن السياق العام، وخاصة إذا كانت تلك الروابط عشوائية وليست لها صلة قوية بالموضوع الأساسي।

غير أن ما يحبط القارئ أكثر أن تكون تلك الروابط معطلة، بسبب خلل ذاتي فيها عند الوضع। ولذلك لا بأس إذا جرب المدون روابط مدونته أو موقعه، وتأكد من سلامتها من كل خلل قبل إصدارها. فالروابط مثل الأزرار والمفاتيح السحرية لأنها تنقلنا عند الضغط عليها بالمؤشر الرقمي من موضوع إلى موضوع، وترفعنا من مقام إلى مقام.

غير أن الروابط مثلها مثل أي جسر واصل بين ضفتين موجودتين على الأرض يمكن أن تتعرض في أي وقت للتلف والانهيار بسبب الرياح الهوجاء، وبسبب عوامل التعرية التي تتعرض لها حياتنا الافتراضية أيضا سواء بسواء।

وقد يكفي مثلا أن أحذف مدونتي هذه (كلمات عابرة) بضغطة زر واحدة بالعمد أو الخطأ لتتداعى كل روابطها على بعضها البعض كأحجار الدومينو، ولتتحول صفحاتها المربوطة إلى محركات البحث وإلى المواقع والمدونات الأخرى إلى بياض افتراضي.

وربما كانت أهم عيوب الروابط والإحالات الافتراضية أنها قد لا تصمد كثيرا مع مرور الوقت كما تصمد الروابط والإحالات الورقية المحفوظة بعناية في الصناديق أو في المكتبات، وذلك لكثرة العوارض والآفات التقنية في دنيا الإنترنت.

الجمعة، 8 يناير 2010

عندما ينجرف التدوين العربي نحو أساليب الدردشة والتسالي… !!

كانت بنية المدونات العربية، منذ اللحظات الأولى لظهورها، بنية نصية في المقام الأول. ولذلك فقد زودتها كافة المواقع التي تقدم خدمات التدوين بمحرر متطور للنصوص العربية. وبدون هذا المحرر لا يمكن للمدون أن يتحكم في مدونته؛ سواء من حيث شكل وحجم ولون الخطوط والفقرات، أومن حيث الصور واللوحات الخلفية، أو من حيث الروابط والوصلات، أومن حيث كافة الوثائق والملفات المرفقة.
فعمل التدوين، رغم بساطته في الظاهر، يقتضي اكتساب بعض المهارات الأولية في الإعداد والمراجعة। وربما اقتضى الحال معرفة بعض لغات البرمجة الأساسية في مستوياتها البسيطة والمعقدة، وذلك قبل الإخراج النهائي لكل صفحة من الصفحات أو إدراج من الإدراجات।

والمدون مهما بلغت درجته في المهارة والاطلاع والاحتراف فإنه سيبقى دائما أسيرا لكل ما يتجدد في عوالم التقنية على مدار الساعة. خاصة وأن أمر التطور التقني الرقمي لا يمكن أن يوقف له على حد. ولذلك لا يمكن لأي مدون أن يدعي في هذا المقام الكمال والتمام، وأنه قد بلغ الذروة التي ما بعدها ذروة.
كما أنه ليس بوسع أي أحد أن يجحد أهمية التدوين النصي أو ينكر أثره في المحيط العربي العام، سواء في مجال السياسة أوفي الأدب أوفي جوانب الثقافة العامة، وحتى في القضايا التقنية المستجدة।

وقد يكفي للتدليل على أهمية التدوين العربي، باعتباره متنفسا ومستراحا لفئة كبيرة مهمومة مطحونة من الشعب العربي، أنه استطاع في وقت قصير أن يلفت انتباه الرأي العام والخاص، ويثير حفيظة أصحاب القرار في وطننا العربي، حتى أصبحت المدونات مثلها مثل أي صحيفة ورقية معارضة أو منتقدة، عرضة للمصادرة والحجب، وصار المدونون موضع تهمة قد تستدعي سحبهم إلى أقفاص الاتهام، وتقتضي زجهم وراء القضبان، وربما في أحسن الأحوال أداء غرامة مالية قد ينوء بحملها شهورا وسنوات….
غير أن ما أثار انتباهي في هذه الأيام، وبغض النظر عن ما يمكن قوله حول أهمية التدوين النصي في واقع حياتنا الثقافية وعاداتنا العربية، هو زحف صناديق الدردشة والتسالي على مواقع التدوين العربي فيما يشبه العدوى।

فإذا حاولت الولوج إلى أشهر المدونات العربية على موقع (مكتوب) مثلا، فإن أول ما يطالعك ويجذب انتباهك هو صندوق الدردشة متصدرا أعلى الصفحة الأولى، ومتربعا على عرش المدونة كله. فهو تاجها وأساسها الذي قد يلهيك عن ما سواه مما هو محشور في بطن المدونة أو مشتت عند أطرافها.

ولم تعد فنون الدردشة الفورية مقتصرة على مواقعها المتخصصة المعروفة على الشبكة العنكبوتية، أو على الشريط المنسدل أسفل برامج تلفزيون الواقع العربي فقط، بل لقد دخلت المدونات على خطوط الدردشة الساخنة أيضا। وخاصة بعد أن طورت برمجيات كثيرة وبسيطة خاصة بهذا الغرض।
ويمكن الآن لأي مدون مبتدئ تثبيت صناديق الدردشة بسهولة في أي مكان من مدونته، والتحكم في جميع خصائصها ووظائفها وأشكالها وأحجامها وألوانها في أي وقت.

وتتيح صناديق الدردشة لزائر المدونة الفرصة للعثور على أصدقاء كثر موجودين مثله عند الطرف الآخر من نفس المدونة وفي اللحظة ذاتها، مما يشجع على التفاعل والمشاركة، وإن كانت أغلب الحوارات الفورية لا تتعدى عبارات التحية المنمقة، وأكثرها معاد ممجوج يدور في حلقة حلزونية مفرغة فيما يشبه الفراغ والهذيان والعبث।

فليس المهم في هذه الدردشة قيمة الحوارات المتبادلة فيها على سطحيتها وسخفها في أغلب الأحيان، ولكن الأهم هو الشعور الفوري المتبادل بوجود أشخاص كثر حولك أو بإزائك। وربما هذا الذي قد يفسر لنا سر ازدحام الكائنات الافتراضية على مواقع التعارف الاجتماعي الكبيرة ك( الفيس بوك ) مثلا।
والأمر نفسه قد ينطبق على المدونات التي تبيح لزوارها إمكانية التعرف الفوري على الآخرين عبر مربعات ومستطيلات ودوائر الدردشة المختلفة، وإن تم ذلك فيها بشكل مصغر.

ولاشك أن هناك فرقا كبيرا بين التعارف المتراخي على الآخرين عبر التعليق الرزين الذي تتيحه المدونات لزوارها أيضا وبين التعرف الفوري الآني عبر تقنية الدردشة। فالأول يبقى أثره مع مرور الوقت بل يكون محرضا للمدون على الإبداع والعطاء أكثر، كما أوضحنا في إدراج سابق، أما الثاني فيُمحى وجوده إلى الأبد بمجرد حركة شريط الدردشة التلقائي إلى الأمام أو الخلف।

ما أخشاه أن تكون إضافة خدمة الدردشة إلى المدونات حيلة مبيتة من قبل بعض المحسوبين على التدوين العربي لجلب أكبر عدد ممكن من الزوار، وفي ذلك إساءة كبرى إلى شرف التدوين النصي الذي يجتهد فيه أصحابه أيما اجتهاد، وتنقيص من قيمة التدوين الجاد، إن استفحلت هذه الظاهرة أكثر في بيئة التدوين العربي في مستقبل الأيام. خاصة وأن البيئة الافتراضية بيئة معدية، وأن أكثرها يقوم على القص واللصق والمحاكاة والتقليد، وعلى التسطيح والتمييع.

الخميس، 7 يناير 2010

برج الفيل

أُريد لافتتاح برج خليفة المبهر بأضوائه المتلألئة ومياهه المتراقصة في سماء دبي، أن يكون تأكيدا لعافية الإمارات من كل داء وبلاء.
ثم أليس هذا البرج الشامخ الفخم قلبا وقالبا دلالة كبرى على عافية اقتصاد الإمارات العربية المتحدة!. وكأن تاريخ تدشينه الذي وافق بداية عام جديد إنما جاء ليقطع الطريق على كل ناقم حاسد أو متشكك مرتاب.

وكما هي عادة أثرياء حكام العرب، في شغفهم الشديد بتحطيم الأرقام القياسية في البناء والعدل وتحقيق الرفاهية والديمقراطية لشعوبهم على الأرض وفي عنان السماء، فقد جاء هذا البرج ليكون الأعلى والأغلى في تاريخ كل البروج الإنسانية المشيدة من حجارة وطين، أو من فولاذ مضغوط وإسمنت مصبوب ।

ويتحدث كثير من المعجبين العرب عبر المواقع والمنتديات عن هذا الصرح بزهو وانتشاء عظيمين، وكأننا قد خرجنا للتو من نصر حاسم على العدو الصهيوني، مكن من فك الحصار عن إخواننا الفلسطينيين في غزة إلى الأبد …
والذي حملهم على هذا الزهو الطاووسي أن يكون هذا البرج قد حطم ببهائه الثقيل عشرات الأرقام القيساسية المثبتة بالدليل والبرهان في كتاب جينيس دفعة واحدة مع أنه جامد وثابت في مكانه؛ فيكفيه شرفا أنه ضم أعلى مسجد وأعلى مئذنة وأعلى مسبح وأعلى شرفة و أعلى رواق … وهلم علوا.
وهذا البرج لا يعدو في واقع التخطيط العمراني الحديث، أن يكون شبيها بمدينة عادية راقية، غير أنها تنتصب بالعرض وهو ينتصب بالطول…
ولقد تتبع الناس العاديون مثلي هذه الأعجوبة المعمارية، واجتهدوا في استكناه دلاتها الظاهرة والخفية، وذهب ظني وظنهم بعيدا يضرب أخماسا في أسداس، ويطرح آلاف الأسئلة المحيرة للجيوب قبل العقول؛ فيا ترى كم سيكون الولوج إليها لمجرد إشباع فضول الزيارة، قبل أن يسأل عن ثمن إشباع البطن في أحد مطاعمها الفخمة، وما هو ثمن التملك أو الإيجار، بل كيف هو حال فواتيرها الكهربائية والمائية، هل تحتسب بالشهرية أم باليومية، وكم ثمن احتساء كوب قهوة عادية يصعد بها النادل من تحت أو ينزل بها من فوق، وكم هو ثمن بقشيشه أو بقشيش المستخدم أو البواب…!!,

لقد قرأت كثيرا عن أعجوبة برج خليفة في دبي فتعجبت وتحيرت وتساءلت من غير حسد، من أين وكيف؟، ثم قرأت عن أعجوبة الجدار الفولاذي لمبارك في مصر فأشفقت على نفسي وعلى حالتنا العربية من ثقل الفرقة والفقر والعبث وتساءلت: لم وإلى متى…؟

ولعل أهم ما أثار انتباهي في كل ما قرأته عن برج خليفة أن بعض الدراسات المهتمة بالمقايسة والإحصاء استنتجت أن وزن هذا البرج المدني الترفيهي الاستهلاكي، وحبذا لوكان حصنا عسكريا، يساوي مائة ألف فيل । فيل على فيل على فيل …।
أما جدار الفصل الفولاذي الذي أقامه مبارك بين غزة ومصر فيمتد طوله على نفس مسافة مضيق جبل طارق। ولك أن تتخيل العدد الناتج والفارق॥ وتتخيل عدد الفيلة التي يمكن أن تسد مسد جدار العار هذا.

اللهم أجرنا من ثقل الفيل ومن عام الفيل، ومن كل ثقل إسمنتي أو فولاذي يطحننا أو يقهرنا. فنعيى نحن بإزالته ويشقى أولادنا وأحفادنا ببقائه.

الثلاثاء، 5 يناير 2010

محو الأثر الافتراضي.

ماذا لو قررت في يوم من الأيام هجر وتطليق العوالم الافتراضية من غير رجعة، وهذا بعد أن تغلق حاسوبك الشخصي إلى الأبد، أو تحطمه في ساعة كبرياء أو غضب، وتجمع كل أجزائه المتبعثرة وأسلاكه المتناثرة في كيس واحد، وتواريه بعيدا في كيس قمامة كجثة هامدة باردة؛ فلا حرارة ولا نبض، ولا وميض ولا صوت.

وهل يكفي لتفر بعيدا عن العوالم الافتراضية أن تشطب اسمك من القوائم البريدية، حتى لا يلاحقك أحد برسائله المؤنسة أو المزعجة أو المستجدية، وتحذف جميع مدوناتك وصفحاتك الرقمية التي ألقيت بعهدتها إلى محرك البحث العملاق كوكل وإلى كل من يدور في فلكه من أناس وأشباح وقراصنة وفيروسات…، حتى لا يعلق على كلامك وهذيانك قارئ مهتم أو متابع مستهزئ أو متطفل مستهتر।

وحتى إذا ما نجحت في هذه المحاولة لاسترجاع بعض ما لم يفتك، فإنك لن تستطيع استرجاع كل ما فاتك افتراضيا؛ أي: إن الذي لم ينقل عنك بعد فهو لازال في عهدتك ويمكنك استرجاعه والتصرف فيه مرة أخرى بالزيادة أو الحذف، أما الذي نقل عنك بعمليات القص واللصق والتشبيك الرقمي المتسلسل المتشعب فقد صار إلى غيرك ولا يمكنك استرجاعه البتة।

إن من يتورط في العوالم الافتراضية كل هذا التورط كاشفا عن وجهه معربا عن حقيقته العارية، ويتوغل فيها كل هذا التوغل بالتدوين الجاد قد يصعب عليه النكوص إلى الخلف والعودة إلى نقطة البداية حيث خط الرجعة، وحيث لا تابع ولا متبوع. فليس ولوج العوالم الافتراضية كالخروج منها إلا أن تكون لصا محترفا في فنون الاقتحام و فك الأصفاد والأقفال الرقمية، أوجاسوسا يتقن علم الفراسة الرقمية عند الرغبة في اقتفاء أي أثر افتراضي لمحقه ومحوه.
وعلى العموم، فليس دخول العوالم الافتراضية اختيارا كالانسحاب منها اضطرارا।

وربما اعتقد البعض منا عند بداية التحاقه بالعوالم الافتراضية أنه إنما أتى إلى هذا الموقع الافتراضي أو ذاك ليجرب إمكانياته التعبيرية والتخييلية في الكتابة لنفسه فقط। لكنه سرعان ما يكتشف أنه قد حلت به العدوى أو بالأحرى عادة الكتابة، وسكنه عفريت البوح والهذيان، وأنه صار يحرق جزء مهما من طاقاته الذهنية والعصبية والانفعالية ليتحف غيره بإدراج مسبوك على إيقاع الحياة اليومية المتجددة، كما هي عادة رشف فنجان شاي أو قهوة.

ولهذا السبب، ربما اعتبر البعض فكرة التدوين من أجل التدوين نوعا من المثالية في هذا الزمن المعولم الموبوء، وقد لا تستحق كل هذا البذل وكل هذا العناء، في وقت طغت فيه الماديات على المعنويات والكماليات على الضروريات وعلت فيه المصالح الفردية على القيم والمثل الجماعية.
ولكن لا بأس، ففي البدء كانت الكلمة، وإن كانت تنبجس من بين الشفاه، واليوم لازالت تلك الكلمة هي الكلمة، وإن صارت تتدفق عبر الأسلاك أو تأتي إلينا من فوق على أجنحة الأثير الافتراضي الشفاف كمطر السماء الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، أما في المستقبل البعيد فلست أدري على أي حال أو صفة سيكون إيقاع الكلام।

ونأمل في ختام هذا الإدراج أن يكون بعض ما يعلق بالشبكة الافتراضية عبر مدونتنا المتواضعة (كلمات عابرة) من بعض أنواع الكلام الذي نرجو أن يعم نفعه ويقل ضرره على الناس.

السبت، 2 يناير 2010

اقتفاء الأثر الافتراضي

اكتشف الإنسان عبر التاريخ الطويل الحافل بالتجارب والحروب والابتكارات عدة طرق لاقتفاء أثر الهاربين والمختبئين. ودرَب حاسة الشم لدى بعض الحيوانات الأليفة لهذا الغرض كبعض أنواع الكلاب مثلا.

أما اليوم، ومع تقدم التكنولوجيا فقد حلت أجهزة الاستشعار الكهربائي والحراري والمغناطيسي محل تلك الكلاب المسكينة التي أتعبها الجري وراء المجرمين والتنقيب عن لفافات التهريب، وأصبحت الآلات الصغيرة الدقيقة التي لا تكاد ترى بالعين تقوم بهذه المهمة على أحسن ما يرام.
فالأبواب صارت تفتح وتغلق لذاتها كلما استشعرت حرارة الأجسام الآدمية في القرب والبعد، ومحركات السيارات صارت تشتغل عن بعد أيضا كلما استشعرت صفة مخصوصة لصاحبها في طريقة تنحنحه، أو في كيفية مشيته، أو بإشارة معينة من إشاراته باليد أو حتى بالحاجب.
وحتى قنينات العطر ما عادت تفوح إلا في حضور الناس وإذا ما غابوا أو غادروا البيت كتمت الأنفاس.
لقد صار بوسع إنسان هذا العصر الرقمي العجيب أن يبرمج كل حركة وكل همسة وكل نسمة।

كل هذا يحدث في عالمنا الحقيقي الأول كأنه لون من ألوان السحر، حيث كل شيء يتحرك أمام أبصارنا دون أن نرى المحرك، وكل شيء ينفعل دون أن نرى الفاعل، وإنما هي أمواج كهروميغناطيسية غير محسوسة تروح وتغدو وتحدث من حولنا هذا الأثر أو ذاك।

وإذا انتقلنا إلى عالمنا الافتراضي الثاني وجدنا الناس يجتمعون في مجالس غير المجالس، ويستريحون في مقاهي غير المقاهي، تقودهم إليها عناوين إلكترونية خاصة، لكن ليست كتلك العناوين المعلومة لدى أصحاب البريد العادي والمضمون।

وبوسع الناس في تلك العوالم الافتراضية الموجودة عند أطراف الحواسيب وليس أطراف الحواري والشوارع أن يتحركوا وينفعلوا ويؤثروا دون أن يعرف أحد منا من هم ومن أين جاؤوا كأنهم ضرب من طيف الخيال، فلا لون لهم ولا نكهة غير ما يمكن أن يستشف من دردشاتهم المرموزة على النت। كم واحد من هؤلاء تحسبه شابا وهو كهل، وآخر تظنه أنثى وهو ذكر. إنه حق عالم افتراضي بدون هوية أو خصوصية وكأن الناس فيه ظلال لا تحتمل التأنيث والتذكير ولا التصغير ولا التكبير، فهل هو محاولة للفرار من كل ما هو نسبي على أرضنا وغير مطلق.

وحدها محركات البحث باستطاعتها أن تقتفي أثر هؤلاء القوم الافتراضيين، ولكن فقط من خلال العناوين التي قادتهم إلى هذا الموقع أو ذاك، أو إلى هذه المدونة أو تلك।

وأنا أكتب هذا الإدراج على هذا الموقع الافتراضي كم أتمنى أن أصافح قراءه وأستشعر حرارة أيديهم الآدمية من غير حاجة إلى أداة استشعار الكترونية.

الجمعة، 1 يناير 2010

جدار في القلب

تحفر الدول عميقا في أرضها، وعلى حدودها، لغرض البناء والتعمير لتوطين الناس في مناطق عيش جديدة، بكل مرافقها الحيوية التي تزود الناس بسبل العيش والتواصل..
أما أن تعمد الحكومة المصرية إلى الحفر لتدفن في الأرض حاجزا فولاذيا ضخما له كل هذا السمك وهذا الطول وهذا الارتفاع فهذا يثير في نفس وعقل المواطن العربي العادي أكثر من تساؤل.
إذ لم يعد الحفر في هذه الحالة المصرية هبة للحياة بل منعا وإعداما لها عندما جعلت من بين إخواننا الفلسطينيين في غزة ومن خلفهم سدا.
ومهما كان من أمر الحجج المنمقة التي قدمتها الحكومة المصرية لمواطنيها في مصر وللرأي العام، فإنها لن تصب في الأول والأخير إلا في مصلحة العدو.
وكأنه لم يكف الفلسطينيين ما عانوه خلال الأعوام الماضية من ظلم وحصار وقتل وتدمير حتى طلعت عليهم الحكومة المصرية بخطة الطريق الفولاذية هذه حين لم تنفع كل خطط التفتيش والتضييق الأخرى على الشعب الفلسطيني।

قد يكون جدار الفصل والعار هذا حاجزا لعبور السلاح إلى الضفة الأخرى لبعض الوقت، ولكنه لن يستطيع ردع الفلسطينيين عن الوقوف في وجه الصهيوني الغاصب طول الوقت، لأنه ليس بالسلاح وحده تضرب المقاومة وإنما برباطة الجأش وبالعزيمة التي تسكن بين جوانح وضلوع المقاومين الشرفاء بكل أرض.
وهذا الجدار الفولاذي وإن دفنته مصر في باطن أرضها ليكون سدا باطنيا يمنع تدفق الحياة إلى الجهة الأخرى فقد جثم بكل خزيه وعاره علينا فهو جدار في كل قلب واحد منا।

إنه هديتنا في هذه الأيام التي نودع فيها عاما آخر مضى على أزمة الحصار الفلسطيني في الداخل قبل الخارج، ومن القريب قبل البعيد…
كل عام والناس بكل أرض بألف خير ومحبة.