الأربعاء، 3 مارس 2010

استراتيجيات الكتابة؛ الورقة الأولى.

الورقة الأولى: اختيار الموضوع، (خواطر بين يدي الموضوع)

سبق لنا أن قدمنا مفهوما عاما للكتابة في إدراج سابق.

أما اليوم فنريد أن نعرض لقضية اختيار موضوع الكتابة، من لحظة كونه جنينا في رحم الفكر أو الخيال إلى لحظة بلوغه الدرجة المقبولة من النضج والاكتمال، ولا نقول الكمال؛ لأن كل شيء مرتبط بعلم الإنسان وإدراكه وخياله فإنما هو نسبي، أي بالنسبة إلى شيء آخر قد ينقص عنه أو يزيد عليه قليلا أو كثيرا.

وفي البداية، لا بد أن نُسلم بأن كل ما يدرك بالحس أو العقل أو التجربة صالح لأن يكون موضوعا للكتابة، بغض النظر عن المحاذير والأسلاك الشائكة المحيطة بنا والخطوط الحمراء الموضوعة أمامنا والسقوف المتينة المرفوعة فوق رؤوسنا، لأن كل شيء موجود فإنما هو يوجد أصلا فينا أو حولنا أو يمر فينا عبر مجساتنا ووسائل إدراكنا المركبة فينا خلقة وجبلة، بغض النظر عن طبيعة الموجودات من حيث كونها حسية أو معنوية، حقيقية أو افتراضية، ومن حيث كونها صغيرة أو كبيرة جليلة أو حقيرة نافعة أو ضارة.

فكيف السبيل إلى التجاهل أو الإنكار أو المجادلة والاستكبار، وكل ما أدركناه بالحس أو الفكر أو الممارسة أو الخيال فقد حزناه وامتلكناه، ولكن بمقدار درجة وعينا الشخصي به، وفي حدود طاقة لغتنا التي ستبقى أداتنا الأولى في التفكير والتعبير رغم طوفان الصور الذي يغمرنا من كل جانب، ورغم سحر تقنيات الصورة وخدع الإخراج التي تجعلها أحيانا أجمل وأبدع من واقع الحياة ومن بيان اللغة؟.

ولو كانت قيمة موضوعات الكتابة تقاس بالحجم أو القوة أو الجدوى أو السرعة لكانت الكتابة عن الفيل مثلا أهم من الكتابة عن النملة، ولكانت الكتابة عن الخبز أجدى، ولكانت الكتابة عن العسل أحلى وأشفى، ولكانت الكتابة عن الحرية أوسع وعن السجن أضيق، ولكانت الكتابة عن الصاروخ أسرع وعن السلحفاة أبطأ، ولكانت الكتابة عن الشجاعة قوة وعن الجبن ضعفا، ولكانت الكتابة عن الوضوء طهارة وعن مبطلاته نجاسة…

إن مشكلة الكتابة حول موضوع ما لا تكمن في الموضوع نفسه كيفما كان أصله أو فصله، وإنما في اختيار الموضوع وفي الملابسات المحيطة به। وتلك الملابسات قد تكون خاصة بالكاتب وحده، وقد تكون عامة يشترك فيها مع كل الناس كما يشترك معهم في الحقوق والواجبات وفي أمهات المصالح والمشكلات، وفي الهواء الذي يتنفسونه وفي الماء الذي يشربونه.

ولو كان الكاتب يكتب عن نفسه ويقرأ لنفسه فقط لهان الأمر، ولما رفعت في وجهه المحاذير وصكوك الاتهام والغفران في كل عصر وفي كل مصر.

إن ما نفكر فيه قبل ارتكاب فعل الكتابة أو جرمها أو إثمها يبقى شأنا خاصا لا يملك أحد الحق في الاقتراب منه أو القدرة على مصادرته، لأنه في حكم العدم أو لنقل في وضعية استعداد للتشغيل (standby) فهو موجود ولكنه غير معلن. إنه موجود بالقوة وليس بالفعل. وربما لهذا السبب فإن معظم ما يفكر فيه الناس باستمرار يضيع في خضم انشغالات الحياة العادية بين أكل وشرب وصحو ونوم وجد وهزل وفراغ وعمل حتى يأتي كاتب ما فيضغط زر التشغيل ذاك، ويحول ما يفكر فيه الناس بحكم العادة إلى موضوع قد يحسبه الناس والمنتقدون والمؤيدون والمعترضون أنه خارج عن المألوف والعادة.

ولكن، قد يحدث أن يتحول مجرد البدء في التفكير إلى تهمة أو مساءلة عندما يكون إلى جانبك شخص آخر يرمقك بنظراته ويقرأ على ظاهر وجهك ما يعتمل في دواخلك وأغوارك। ففي لحظة الشرود قد تفاجأ بهذا السؤال: في أي شيء تفكر، هيا أجب؟ لقد فضحك بريق عينيك وتغيُر لون وجهك , وها قد بدأت أخيرا أولى حروف البوح ترتسم على شفتيك…

غير أن ما تثبته خطوط الكتابة أخيرا وبعد طلق فكري مؤرق ومخاض تحريري موجع عندما تطول بك ساعات الجلوس على مقعد غير مريح، سرعان ما يصبح معروفا بالاسم والصفة لدى أبعد الناس فضلا عن أقربهم، كأي مولود جديد يستحق هوية واسما يكتب في الكنانيش العائلية وفي السجلات والمحاضر الحكومية। غير أن هذا المولود قد يفرحك تارة وقد يغضبك تارة أخرى، وقد يكون سبب نعمة فتنتفع به أو نقمة فتشقى به، وقد يريحك طورا ويتعبك أطوارا॥إنه تعب الكتابة وسهدها لمن يقدرها حق قدرها، ويستقطر رحيق الروح من كلمات ليست كالكلمات…

وهناك فرق كبير بين أن تعيش لوحدك وبين أن تعيش مع الناس، وبين أن تأكل لوحدك وبين أن تأكل معهم من قدورهم وأطباقهم، فأنت في الوضع الأول مختار بينما أنت في الوضع الثاني مساير أو مجامل أو مجبر أو محتار…

فالأعراف والتقاليد والقوانين والأحكام الجاهزة سلفا هي التي تفرض علينا دوما أن نقول في موضوع ولا نقول في موضوع آخر، وأن نتكلم في وضع ونصمت في وضع آخر، وأن نعتبر بما يُعتبر عند الناس، وأن نقتنع بما يُقنعهم بحكم العرف والدين والقانون والعادة.

ولذلك من الطبيعي جدا أن يمر الكاتب قبل اختياره لموضوع ما باختبارات نفسية عسيرة وترشيحات وترجيحات، وقد يتقمص أدوار قراء مختلفين، وحتى دور الرقيب والجلاد، ويطرح أسئلة ويقترح أجوبة حول كل موضوع قيد الاختبار قبل الاختيار..

وربما تطلب الأمر تبييت الموضوع الواحد أو مجموعة مواضيع أياما عديدة حتى ينضج الواحد منها وتفوح روائحه، مما يدفعه إلى التخلص منه سريعا عبر فعل الكتابة، كما يتخلص الجسم من السوائل الزائدة وبقايا الطعام.

والكتابة أخيرا خلاصة كل الخلاصات وعصارة كل العصارات، فمن يقدر أن يقول عن العسل: إنه بُراز النحل أو قيئه॥!! ومن يقدر أن يقول عن الكتابة: إنها بُراز العقل أو قيئ المخ.. لاحظ معي كيف قادتني غواية الكتابة إلى هذه المقارنة الغريبة، وإلى هذا الأسلوب السخيف..!!

ويحس الكاتب بنشوة العائد من سفر طويل، وبراحة من تخلص من نفايات جسمه بعد طول انحباس، عندما يضع نقطة النهاية لموضوع اختاره أو جرب الكتابة فيه، فيخرج من عزلة الكتابة إلى مصافحة وجه الشمس ولقاء الناس.

والكاتب أول من يسعد بكتابته قبل أن يسعد بها غيره لأنه بالضرورة أول قارئ لما كتبت يداه، وأول منتقد لما تتصفحه عيناه. وهذا ما قد ينساه أو يتناساه الناس في العادة.
ولكنه لا يكتفي حتى يكرر فعل الكتابة أو جرمها أو إثمها مرات ومرات كمن تمكنت منه عادة الإدمان…

وحتى إذا ما قرر يوما أن يكتم صوته ويحبس مداد قلمه لحيرة أو نكد أو مرض أو وهن، فإن هاجس البوح يلح عليه في كل مرة، وتصبح الكتابة مع مرور الوقت أشبه ما تكون برياضة الصيد ولعبة المطاردة। فعليك في كل مرة أن ترمي شباك حروفك لتقتنص جديد الأفكار، وطريف الموضوعات…

وهناك ثلاثة أزمنة محيطة بكل موضوع :
زمن أول لاختيار العنوان المناسب؛ فالوقوع على العنوان هو العملة الصعبة لكل كتابة جيدة أو مثيرة، ويمكن صرفها حسب الحاجة وعلى فترات। وقد يتم العثور على العنوان بالصدفة الخارجية من خلال ملاحظة سلوك الناس وتتبع مجريات الأحداث القريبة أو البعيدة، أو بالإلهام الداخلي الذي يشحذ مع مرور الوقت بالخبرة والقراءة المستنيرة والتدريب على تمثل الرؤى والمواقف والحالات.

وتمكن العناوين الكاتب من الهجوم على موضوعاته بسرعة إذا كانت أدوات الكتابة لديه، فالعنوان هو البوصلة التي ترسم معالم الطريق أمام الكاتب وتجنبه التيه والضلال. وربما تطلب الأمر تعديل العنوان جزئيا أو كليا بعد الفراغ من كتابة موضوع ما حتى يكون أكثر دلالة وأكثر إثارة.

وزمن ثان للبسط والعرض، وحيث يمكن للكاتب أن يصول ويجول في مضمار الورق أو على شاشة الحاسوب حتى يستوفي عناصر موضوعه فقرة فقرة، وجزء جزء.

وزمن ثالث غير ثابت للمراجعة، فالعرض أو ل الأمر يكون غير مرتب وغير تام، ولكن المراجعة هي التي تصلح ما اعوج منه بوضع كل فقرة وكل جملة وكل كلمة في مكانها المناسب الذي يتطلبه السياق.

والكتابة مثل البناء لا بد لها من هياكل لغوية قوية تدعمها وتصمد بها في وجه المتغيرات، ولا بد لها من بعض الجماليات الفنية التي تجعلها ذات مزية تتجدد كلما أجلنا فيها الفكر أو جددنا فيها النظر. وللكتابة عن هذا الموضوع بقية.

ليست هناك تعليقات: