الجمعة، 19 مارس 2010

الحائط الإلكتروني؛ طريقة جديدة للتواصل المُختصر (الورقة الأولى).

الورقة الأولى: في المفهوم اللغوي للحائط وما جاوره.

إذا رجعنا إلى قواميس اللغة العربية نجد أن كلمة الحائط وردت بمعان ودلالات تقترب مما تفيده كلمات الجدار والسور والسياج، لأنها جميعها لا يمكن أن تسمى بهذه المسميات إلا إذا كانت محيطة بشيء ما أو مشتملة عليه. وإنما تختلف كل واحدة منها عن الأخرى فيما يمكن أن تحتمله من درجات القوة والعلو والمنع والامتداد والعمق أو التجدر في الأرض.

وإذا كان السياج هو الأضعف والأوهى في سلسلة هذه المسميات فإن السور هو الأعظم والأفخم؛ فهناك فرق شاسع بين سور المدينة العالي السميك المتماسك بالحجارة والطوب والجير وسياج الحظيرة الذي يتخذ في العادة من الشوك أو الهشيم.

ولا تسمى الحديقة حديقة إلا إذا أحدق بها أو أحاط بها حائط يمنع الآخرين من تسلقه أو تََسَوٍُره لنهب ما فيها من خضر أو فواكه। ولذلك قد تسمى الحديقة أو البستان مجازا بالحائط من باب التوسع في اللغة العربية، فيقال مثلا: حائط فلان يقصدون بستانه، أما إذا كان البستان من غير سور فهو ضاحية، ومنه ضاحية المدينة، أي: ناحيتها مما يكون خارج السور.

قال عز وجل:( فضُرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب) سورة الحديد، آية 13، إذ شبه الله عز وجل الحاجز بين أهل الجنة وأهل النار بأعظم وأفخم حائط يمكن أن نراه في الدنيا.

ولكل سور أو حائط أو جدار ظاهر وباطن، أو وجه وظهر مثل أي مسطح ورقي صالح للكتابة। أما السور والحائط فظاهرهما هو ما يراه الناس بأعينهم من الخارج فيكون ما بدا منهما شأنا عاما، أما الداخل والباطن منهما مما توارى عن العيون فهو شأن خاص ولا يمكن معرفته إلا بالاقتحام والاختراق، ومن ذلك جدران الغرف داخل البيت الواحد مثلا. ولولا وجود الحيطان لما طمح أهل الفضول والمتطفلون إلى التجسس…

وقد تستخدم هذه الكلمات بصيغ اشتقاقية مختلفة وفي سياقات مجازية। وقد ورد كثير منها في القرآن الكريم؛ كقوله تعالى (والله محيط بالكافرين) البقرة أية 19؛ أي جامعهم يوم القيامة. وقوله تعالى: (أحطت بما لم تحط به) سورة النمل آية 23: أي علِمته من جميع جهاته، (وأحاطت به خطيئته) البقرة 81 : أي مات على شركه…

أو كقول بعضهم في لغة التحليل الاقتصادي مثلا: (الضرائب الحائط القصير لدى الحكومات الفاشلة)، وفلان حائط قصير: أي سهل التجاوز، ومنه قولنا في التعبير عن الخوف من الرقباء: (للحيطان آذان).

ويمكن في نفس السياق أن نورد أمثلة مرتبطة بدلالات الجدار المجازية كالجدار الرابع في لغة أهل المسرح. وهو الحاجز الوهمي الذي يكون بين الممثلين على الخشبة وجمهور الممثلين في الصالة। وقد قاد المسرحي الألماني الشهير برتولت بريشت ثورة عنيفة ضد المسرح الكلاسيكي لتحطيم هذا الجدار، عندما وجه كامل عنايته إلى الجمهور وأشركه في التمثيل والحوار فأصبح منفعلا وفاعلا في الحدث المسرحي بدل أن يكتفي بالتفرج من بعيد. ويقوم مسرح بريشت، كما هو معروف لدى المهتمين بالمسرح الطلائعي في النصف الأول من القرن الماضي على فكرة التغريب؛ أي تغريب الأحداث اليومية العادية وذلك بجعلها غريبة ومثيرة للدهشة ومحفزة على التأمل والتفكير.

كما يمكن أن نتحدث في نفس السياق عن جدار العار أو جدار الفصل العنصري بين بني البشر: كما كان الحال في جنوب إفريقيا، وكما هو الحال اليوم في فلسطين المحتلة وفي كل أرض عندما يكون النزاع قائما على التفرقة بين اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو أية ذريعة أخرى لطمس هوية الآخر.

كما أننا لا يمكن أن نغفل الحديث هنا عن الجدران والحيطان التي صنعتها الطبيعة بفعل عوامل التعرية من مطر ورياح وسيول وترسبات وانجرافات وزلازل وبراكين।وقد جرى الحديث في معاجم اللغة العربية عن الصوح، (بفتح الصاد وضمها): ويقصدون بهذه الكلمة وجه الجبل القائم أمامنا كأَنه حائط، وصُوحا الوادي: حائطاه المنتصبان كذلك.

ومن المسميات الجديدة المستحدثة في عصرنا مما يرتبط بالتحولات السياسية والاستراتيجية الجدار الفولاذي الذي أقامته الحكومة المصرية الحالية بينها وبين قطاع غزة، والجدار الإلكتروني الذي تعمل إسرائيل على إنشائه الآن بعد أن خاب مسعاها في الجدار الكهربائي الصاعق والجدار الإسمنتي العازل.

غير أن الحيطان لم ترفع قواعدها من الأرض ومنذ فجر التاريخ لتأمين السلامة والحماية فقط لأصحابها، بل لقد تحولت مع مرور الوقت إلى معارض وتحف فنية لما تراكم على واجهتها من حفر ونقش وكتابة وتشكيل.

ومجموع ما يعرض ويكتب على الحيطان من نقوش وكلمات وشعارات يمثل اليوم علما قائما بذاته، وهو علم أوفن الكاليغرافي (Calligraphy)، وهو علم تخصصي له علماؤه وأساتذته.

ولقد كانت الكتابة على الحيطان و على شواهد القبور وعلى الحجارة المنتصبة في طريق المسافرين وحتى على جذوع الأشجار شكلا من أشكال التواصل المكاني، لأنه مرتبط ومحصور في حيز جغرافي ضيق لا يمكن نقله أو تحويله.


وتحتاج المصالح البلدية في كل مدينة من مدن المغرب إلى ميزانية سنوية خاصة لتجديد طلاء الأسوار المحيطة بالمدن والأسواق والمؤسسات العمومية، ومحو ما تراكم عليها من كتابات ومنمنمات ورسوم، وخاصة عند حلول المواعيد الانتخابية.

أما الكلام عن فحوى ومغزى ما يكتب على أسوار المدارس وداخل حجراتها وحيطانها وكراسيها وطاولاتها ومراحيضها فتلك قصة أخرى لن تكتمل في تفاصيلها وأبعادها إلا بدراسة نفسية وسلوكية متخصصة। فكثير من التلاميذ يرون في كل ما يحيط بهم من مسطحات امتدادا لسبورة القسم. لكن ليس لاستظهار بيت من الشعر أو حل معادلة رياضية، وإنما لنشر بعض الشائعات حول أصدقائهم ومدرسيهم، وكتابة أسماء النجوم التي يتعلقون بها وخاصة نجوم كرة القدم وأنديتها المشهورة، وربما حتى كتابة بعض البذاءات اللفظية وبعض السخافات والشتائم والسباب، وكثير من الرسوم المخلة بالحياء العام.


ولو كان ما يكتب أو يرسم على هذا الحائط أو ذاك بالطباشير لهان الأمر، ولكن استعمال علب الصباغة البخاخة يجعل هذا المكتوب أوضح للنظر وأبقى في وجه تقلبات المناخ والدهر.
أما ما يكتب على الحيطان الإلكترونية عبر مواقع التدوين والتعارف الاجتماعي فسيكون موضوع الورقة الثانية.

ليست هناك تعليقات: