الثلاثاء، 23 مارس 2010

الحائط الإلكتروني؛ طريقة جديدة للتواصل المختصر (الورقة الثانية).

الورقة الثانية: في المفهوم التواصلي

لتقنيات التواصل الحديثة قدرة سحرية عجيبة على إلغاء مفهوم المكان من الأذهان؛ فلا الشرق عندها شرق ولا الغرب غرب، وكل خطوط الطول والعرض صارت مجتمعة لديها في حيز واحد، هو حيز شبكات وخيوط وحبال الاتصال العالمي البرية والبحرية ودوائر السليكون وترددات الأمواج الكهرومغناطيسية التي يزدحم بها أثير السماء.

يبدو لي أحيانا كأن زماننا هذا قد ضاق برفيق دربه المكان، فلم يعودا قادرين على تحمل بعضهما البعض، وكل واحد منهما يرجو الفكاك والافتراق ليمضي في حال سبيله متحررا من وطأة صاحبه.
ومن هنا فإن أزمة التواصل الحديثة لا تكمن فقط في عباءتي الزمن والمكان التي تضيق بنا أو نضيق بها حينما نلبسها أو تلبسنا، وإنما أيضا في الدور المزدوج للعملية التواصلية الحديثة التي تتطلب منا أن نكون مرسلين ومستقبلين في نفس الوقت، فلا معنى ولا قيمة لهاتف ثابت أو نقال، أرضي أو فضائي، إذا لم يوجد في الطرف الآخر من خط هاتفنا من يقوم بنفس دورنا، وإلا فإنه يتحول إلى مجرد تحفة تقنية مكملة لديكور البيت، ولك أن تقيس هذا المثال على سائر الوسائط التقنية الأخرى…

وحتى أنظمة التواصل الكلاسيكية الحكومية الممعنة في البرتوكول والرسميات كالراديو والتلفزيون، بدأت تغير جلدها تدريجيا لأنها وجدت نفسها مضطرة إلى التخلي عن دورها القديم أحادي الاتجاه الذي كان يقتصر على البث فقط। وأصبحت لأول مرة تنزل هي الأخرى بمبعوثيها وبالكاميرا والميكروفون إلى الشارع لتستقبل رأي الشارع وصورة الناس البسطاء ومتجددات الحياة العادية والاستثنائية والطارئة.

إن ازدحام شبكة الاتصال العالمي بالمرسلات السمعية والبصرية، يحتم على مستعمليها استحداث طرق وأنظمة عديدة لاختصار تلك المرسلات وطيها مثنى وثلاث ورباع كما يطوى ويثنى الورق على بعضه البعض حتى يصير متناهيا في الصغر..
وقد يطول بنا الحديث إذا وسعنا دائرة البحث في أنظمة التواصل المختصر من قبيل الرسائل النصية الهاتفية القصيرة (SMS)، وأنظمة الدردشة الفورية عبر المواقع الإلكترونية بأبجديتها المعقدة وأيقوناتها المختزلة للمشاعر والأفكار والمواقف، دون أن نغفل أيضا الأشرطة المنسدلة بالطول والعرض وفي كل الاتجاهات على شاشات البث التلفزيوني الأرضي والفضائي، المركزية والجهوية، الحكومية والخاصة… وكل نظام من هذه الأنظمة يتطلب دراسة خاصة.

غير أننا خصصنا هذا الإدراج للحديث عن الحائط الإلكتروني باعتباره طريقة جديدة للتواصل الافتراضي المختصر:
فإذا افترضنا أن المواقع الإلكترونية بيوت خاصة، وأن مفاتيح الولوج إليها تكون بأيدي أصحابها كما أوضحنا ذلك في إدراج سابق، فإن الحائط الإلكتروني لكل موقع أو مدونة أو منتدى هو الجزء الهامشي الخارجي المتاح للزوار حيث يمكنهم أن يسجلوا مرورهم بإضافة تعليق أو تنبيه أو إشارة أو أي حشو بلا معنى أو أي أثر آخر مفاده: (لقد مررت من هنا)، ولو تم ذلك في أحيان كثيرة ببعض الكلمات والعبارات الممتزجة بالسخرية والتحرش والبذاءة، والمغلفة بكثير من الأحقاد الدفينة والأمراض الاجتماعية المتمكنة والعلل النفسية المزمنة، كما هو الحال بالنسبة للكتابة الحائطية الواقعية التي نراها في الخارج عندما نعبر الشارع العام.

فلا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن عوالمنا الافتراضية مليئة بالمرضى والسكارى والمعربدين واللصوص والمطاريد والمتسكعين والمتطرفين والمدمنين والمنبوذين والحمقى والأغبياء بنفس الدرجة التي يكون عليها الأصحاء والمعتدلون والعقلاء والنبهاء والأتقياء والشرفاء إن لم تكن أكثر…

ولو خصصنا يوما واحدا من أيامنا العادية لقراءة تعاليق الزوار العابرين على الجدران والحيطان الإلكترونية لتعرفنا على كثير من الأسرار والنماذج البشرية المختلفة في سلوكها وتصرفاتها وأفعالها وانفعالاتها، وربما عدنا إلى تحليل ودراسة بعض نماذج الكتابات الحائطية الإلكترونية في إدراجات لاحقة.

لكن، هناك جانب آخر إيجابي في هذه الكتابات الإلكترونية الحائطية، فضلا عن أسلوبها المختصر، عند الإشارة إلى خبر أو إدراج عنوان مقال أو رابط، أو التنبيه إلى موعد أو لقاء أو ندوة أو مظاهرة أو استطلاع رأي وغير ذلك من الرسائل القصيرة والإخباريات التي تشبه إلى حد كبير البرقيات في النظام البريدي القديم.

وقد بدأت كثير من المواقع الإخبارية والفنية والثقافية ومن المجلات والصحف الإلكترونية ومواقع التعارف الاجتماعي الكبيرة تفرد مساحة كبيرة للزوار كي يكتبوا ويتعارفوا ويتواصلوا على حيطانها الإلكترونية الخارجية المكشوفة للعموم بالحرف والصوت والصورة.
والحيطان الإلكترونية نوعان: النوع الأول حيطان جماعية حيث يمكن أن يكتب كل زائر أو عابر ما شاء. وميزتها أنك تستطيع أن تتعرف على أساليب الناس في التفكير وفي فهم الأشياء دفعة واحدة، بحيث تستطيع أن تكون من هذه المختصرات صورة متكاملة عن النوايا والدوافع الكامنة وراء كل كلمة أو جملة أو شعار أو حزمة صور أو رسوم …

النوع الثاني حيطان فردية خاصة بأصحابها فقط، كأن يعمد أحد المدونين مثلا إلى حائط خارجي بعيد عن مدونته ليسجل عليه عناوين ومقترحات وروابط ومختصرات لأنشطته الخاصة في الحياة وفي العمل وفي الكتابة والتدوين। وهذا الحائط الإلكتروني الخاص أشبه ما يكون بدفتر يومي لكنه مفتوح أمام أصدقائه وزواره على مدار الساعة ليتابعوا مختلف أنشطته التواصلية مهما كانت بسيطة وعادية؛ كأن يخبر مثلا عن موعد سفر شخصي أو يذكر اسم كتاب فرغ من قراءته أو يقدم اعتذارا أو يستدعي مجموعة من الأصدقاء…وغير ذلك من متجددات الحياة اليومية.
وأكثر المدونين العرب إنما انتسبوا إلى موقع (تويتر) و(فيس بوك) وغيرها من مواقع التدوين المختصر المتخصص ليُعرفوا أكثر في محيطهم الافتراضي.

ومن هنا تأخذ الحيطان الإلكترونية هذا البعد الإشهاري الذي نجده أيضا على واجهات المحال التجارية الفخمة وفي كل ما يحيط بنا من جدران عندما تضيء بالليل لتشع بالحروف والصور والألوان في حركات ضوئية متناسقة، وحتى في سياج المستطيل الأخضر لملاعب كرة القدم عندما تقفز منه الصور والكلمات في حركات بهلوانية رشيقة بديعة قد تذهلك أحيانا عن حركة الكرة التي تتقاذفها وتتلاعب بها أقدام كبار اللاعبين المحترفين.

ليست هناك تعليقات: