السبت، 12 مايو 2012

أنماط وظواهر من “الفيسبوك” و”التويتر” (2)

المقالة الثانية: الطيور على أشكالها تقع.

إذا كان فضاءا "الفيسبوك" و"التويتر" قد عرفا تلك الهجرة الهائلة التي تحدثنا عنها في الإدراج السابق فلقدرتهما العجيبة على الجمع والتأليف، وحيث يمكن للناس أن يتداعوا ويتنادوا من كل حدب وصوب في مشهد يشبه حركة أسراب الطيور المحلقة في السماء عندما يقع بعضها على بعض أرضا، وعندما تنضاف إليها عناصر أخرى جديدة في كل نوبة تحليق … ولذلك يتحدث الناس اليوم عن لقاءات وتجمعات افتراضية مليونية لا عهد للبشرية بها ولا تستطيع كبريات الساحات العمومية العالمية الحقيقية أن تطيقها أو تستوعبها.

وفي الوقت الذي تسعى فيه بعض الحكومات إلى تقليص حجم الساحات العمومية عمدا بوسائل النسف والتدمير والتغيير الممنهج لملامح تلك الساحات التاريخية الشاهدة على مختلف أشكال النضال والثورة المضادة، يزداد فرار الناس إلى المواقع والساحات الافتراضية التي تزداد اتساعا كلما امتلأت، ولا تضيق أبدا بما رحبت…

ومن الظواهر السلوكية الجديدة التي ترافق هذا المشهد الرقمي التواصلي الجماعي الجديد أن الناس ما عادوا يصحبون إلى المقاهي العمومية أصدقاءهم الحقيقيين فقط، ولا يتأبطون وهم في طريقهم إليها جريدة يومية أو صحيفة، كما كان العهد بالأمس القريب، وإنما يسيرون فرادى أو جماعات صحبة أجهزتهم الإلكترونية التي يحملونها في جيوبهم أو في محافظهم اليدوية، ومنهم من يتأبط تلك الأجهزة النحيفة مثل أي كتاب أو صحيفة مطوية.

وهذه العادة في ازدياد ملحوظ، وخاصة بعد أن اضطرت المقاهي إلى تقديم خدمة جديدة مسايرة لهذا التطور، وهي خدمة "الأنترنت" اللاسلكي (wi-fi) المجاني لاستقطاب هذه الشريحة الجديدة من الزبائن التي لا تستمرئ شرب قهوة صباحية أو مسائية إلا على إيقاع الدردشة والتحليق الافتراضيين صحبة أشخاص يوجدون في أماكن قصية عند أطراف حواسيبهم أو أجهزتهم الإلكترونية المحمولة أيضا…

ويتحدث الناس اليوم بحنين غامر عن صداقات قديمة أحييت، وعن علاقات منقطعة تجددت واتصلت، وعن أشياء وأسرار ما كان لها أن تعرف أو تكشف، في يوم من الأيام، حتى جاءت رياح "الفيسبوك" و"التويتر" فأماطت عنها غبار الإهمال والنسيان، وأخرجتها من دائرة الجهل إلى العلم، ومن الشك إلى اليقين…

وكما قد يسعد كثير من الناس بتلك العلاقات وبتلك الصداقات المتجددة عبر صفحات "الفيسبوك" و"التويتر"، فقد يسوء ذالك أطرافا أخرى ذات صلة ما أو منفعة فتصبح عرضة لموجات صاعقة من الشكوك أو الغيرة أو الحسد أو القلق الوجداني، وغير ذلك من العواطف والتيارات التي تجرف أصحابها في متاهات ما كانت في الحسبان، أو حتى لتخطر على البال.

ولذلك، فكما قد ينظر بعضنا إلى هذين الموقعين بعين الرضا لما قد يجلبانه من مرح وابتهاج، فقد تنظر إليه أطراف أخرى بعين السخط والاشمئزاز أيضا، وخاصة عندما يصبح هذان الموقعان طرفا حاسما في معادلة لا يمكن أن تقبل القسمة إلا على اثنين؛ كما هو حال الحبيبين أو الزوجين أو الإخوة أو ذوي القربى وكل صديق أو أليف قريب إلى العقل والقلب والروح…

وحينما يصبح مآل العلاقات بين الناس معلقا على العواطف التي تتلاعب بها التيارت والرياح، ولو كانت افتراضية هذه المرة، فلك أن تتخيل الأضرار والنتائج؛

فقد تتوجس الزوجة شرا عندما يفتح زوجها صفحته الخاصة على "الفيسبوك" أو"التويتر" مخافة أن تُنكأ جراح قديمة أو تنبعث من رفاتها أحلام كانت موءودة زمنا في قلب زوجها، وهذا وضع واحد يمكن تعميمه على كل الأطراف عندما يصطدم حاضرها بماضيها، أو عندما يواجه المخبوء لديها بالمكشوف عنها…

لاشك أن القصص والروايات الافتراضية الخاصة ب"الفيسبوك" و"التويتر" التي نتابعها اليوم في قصاصات الأخبار اليومية قد صارت حقيقة بل مأساة إنسانية عندما يصل ضررها وخرابها إلى العقول والقلوب والوجدان، وعندما يدخل الإنسان في دوامة مجهولة لم يكن ليدخلها من باب آخر غير باب بيت العنكبوت الرقمي الذي صار يحمل في جوفه نعمة ونقمة…

الاثنين، 7 مايو 2012

أنماط وظواهر من “الفيسبوك” و”التويتر” (1)

المقالة الأولى: موسم الهجرة إلى "الفيسبوك " و"التويتر".

من أكثر المواقع الاجتماعية التواصلية شهرة في هذه الأيام موقعا "الفيسبوك" و"التويتر". والذي جعلنا نقرن هذين الموقعين بهذا الترتيب هو واقع التداول اللغوي اليومي الخاص بهما، إذ في الغالب ما يرد موقع" الفيسبوك" أولا ويليه موقع "التويتر" ثانيا.

ولا أعتقد أن في تقديم الأول على الثاني، في العنوان أعلاه، وكذا في سياق الحديث اليومي المتداول عن هذين الموقعين الكبيرين زيادة فضل أو مزية. فهما سيان في القيمة والأهمية، ويتكاملان فيما يقدمانه من خدمات تواصلية متنوعة ومتجددة في كل يوم…

والموقعان معا لهما طريقة جديدة مميزة وخاصة في التصميم وفي اختيار اللون والشعار، ولكن هدفهما واحد يؤدي في النهاية إلى تواصل اجتماعي حيوي خصب متمدد ومتجدد على مدار الساعة، مثل النهر الذي ينطلق من المنبع ضئيلا صغيرا ليصير عند المصب ضخما كبيرا. وبذلك فهما معا يتجاوزان طرق التواصل التقليدية السابقة بمسافات بعيدة؛ كالبريد العادي أحادي الاتجاه والمجموعات البريدية متعددة الاتجاه ومواقع الدردشة الثنائية والجماعية بالإضافة إلى المواقع الإلكترونية التقليدية والمدونات والمنتديات وغير ذلك مما أكل عليه الزمن الرقمي وشرب….

والذي يميزهما أنهما يتحركان أكثر نحو الخارج، وكأن المنتسبين إليهما يقيمون في بيوت من زجاج، فالكل مكشوف ومعروف. فكلما تعرفت على شخص إلا وتعرفت في نفس الوقت على من يكون عن يميه أو يساره، وعلى من يكون أمامه أو خلفه، بخلاف أشكال التواصل التقليدية التي تتحرك أكثر نحو الداخل، وفي دوائر مغلقة وخلف حيطان سميكة لا مجال فيها للتعرف أو لاستراق السمع والبصر أو اختراق الحدود إلا قهرا وغلبة وبسابق إصرار وترصد…

ولهذين الموقعين مركز جذب قوي وهائل قادر على الامتصاص والاستيعاب الهائل، بحيث لا يعد المنتسبون إليهما بالآلاف، كما هو حال المواقع العادية، وإنما بالملايين؛ فهما فعلا يشبهان حقا بيت العنكبوت الرقمي: فكلما حركت خيطا واحدا منه إلا وارتعش البيت كله، وكلما فتحت دائرة واحدة من دوائره أو نافذة واحدة من نوافذه إلا وانفتحت أمامك دوائر ونوافذ لانهائية تربكك وتحيرك، أي منها تأخذ الآن وأي منها تؤجل أو تترك…

ولما كان هذان الموقعان بهذه الأهمية في نظر العالم كله فإن كثافة المتابعة فيهما تعد اليوم أهم مؤشر لقياس شهرة أحد الأشخاص العاديين أو النجوم المرموقين أو الهيئات أو الأحزاب وغير ذلك؛ وذلك بالنظر إلى عدد المعجبين أو المتابعين أو المعلقين الذي يعلقون أو يكتبون على حيطانهما الممتدة كصور الصين العظيم أو أكثر، أو يتركون أي أثر أو توقيع أو "خربشة" أو أية بصمة رقمية تدل على مرور أحدهم أو ملامسته لصفحة أحد هذين الموقعين أو لخيط رفيع من خيوطهما المتشابكة والملتفة بإحكام حول عالمنا كله.

ولأن الشهرة مطلب عزيز، فقد عرف هذان الموقعان حركة هجرة فردية وجماعية لا نظير لها في التاريخ الرقمي الحديث. وهو تاريخ قصير نسبيا: إذ لا يتجاوز مدى عمره حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا الإدراج مسافة ربع قرن على أكثر تقدير؛ فقل أن تجد شخصا أو مؤسسة أو هيئة أو محطة إذاعة أو تلفزيون أو مصنعا أو متجرا راقيا أو حتى حانوت عطار مركون في زاوية لا يملك حسابا على أحد هذين الموقعين أو كليهما. فقد صار هذان الموقعان مطمح وغاية كل مشهور أو مغمور، ثري أو فقير وحتى ظالم أو مقهور…

والذي يدل أكثر على نجاح هذين الموقعين حجم الأرباح والاستثمارات المرصودة لهما من جهة، وعدد التطبيقات والبرامج الخاصة بهما. وهي برامج متاحة بالمجان ويسهل تنصيبها وتشغيلها على كافة الأجهزة الرقمية البسيطة والمعقدة، بل إن معظم الهواتف والأجهزة اللوحية المحمولة وكذا الحواسيب الثابتة تأتينا اليوم من المصانع وقد زودت بآخر البرامج والتطبيقات التي تخص هذين الموقعين ليبقى الناس على تواصل دائم ومستمر في فضاء هذين الموقعين الهائلين.

وفي هذا قيمة مضافة ودليل واضح لا يحتاج إلى تأكيد أو برهان، فخير دليل على شهرة المواقع الرقمية ما شهدت به المصانع وطبعت برامجها ومختصراتها على ذاكرة الأجهزة الرقمية لحظة ولادتها الأولى من أمهات شركات التقنية العالمية المشهورة في صناعة أجهزة الاتصال الجماهيري.

ولما كان هذان الموقعان بهذا الحجم الهائل وبهذه الأهمية في نظر كل منتسب إليهما فإنهما يعتبران مدخلا عظيما لدراسة كثير من الظواهر والأنماط السلوكية والثقافية الجديدة التي سنعمل على تحليلها تباعا في الإدراجات الموالية…

الخميس، 26 أبريل 2012

الإعلام الرقمي وقضية اللغة العربية

لم يكن الخبر متاحا لسكان الأرض مثلما هو اليوم، فهناك عدد لا يحصى من المواقع الإخبارية الرقمية الدولية والوطنية والمحلية التي تتنافس في اقتناص الأخبار وتقديمها لعموم المتصفحين في ذات اللحظة وقبل أن يزول عنها بريق الطراوة…

يذكرني الوضع الإعلامي الرقمي في بلدنا المغرب وفي العالم كله بمشهد بائعي السمك عندما يتفننون في عرض ما جادت به قوارب الصيد أمام أنظار الزبناء كل حسب طريقته في ترتيب السمك وتصنيفه، وحتى عندما يتنافسون في الصياح والمناداة على الزبناء كل حسب أسلوبه ومبلغ علمه أو حيلته…

وكما تحيط ببائع السمك ضائقة الوقت، إذ عليه أن يسرع في بيع سلعته في الصباح الباكر وقبل أن تتوسط الشمس كبد السماء وإلا حلت به الخسارة الكبرى، فكذلك حال محرري الأخبار على المواقع الإلكترونية إذ عليهم أن يكونوا السباقين إلى اصطياد الأخبار الطازجة وتقديمها بسرعة إلى القراء الرقميين قبل أن يحل بها البوار أيضا.

وإذا كانت ضائقة الوقت مبررا معقولا بالنسبة لمحرري أخبارنا الوطنية والمحلية للاعتذار عما يقترفونه من أخطاء في حق لغتنا العربية، فإن هذا العذر لا يمكن أن يكون مقبولا بأي حال من الأحوال وإلا حلت بلغتنا الطامة الكبرى؛ لأن التساهل في الأمر القليل مطية إلى الفساد الأكبر. ولطالما سمعنا من أفواه آبائا المثل المغربي المعروف والذي مفاده أن سمكة واحدة فاسدة كفيلة بأن تفسد كل ما حولها.

لا شك أن مشهدنا الرقمي المكتوب بالعربية موبوء ومليء بالأخطاء والأمراض والعلل، وهو في حاجة ماسة إلى تشخيص عام، بغية وضع خطة عملية للعلاج والتقويم من لدن أهل العلم بقواعد اللغة العربية وأصحاب الاختصاص.

ولا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام فرض وصاية لغوية إجبارية على أصحاب المواقع الإخبارية، وإنما هذا الكلام مجرد همسة في الآذان لمن يملك في قلبه وحسه اللغوي غيرة على شأن لغتنا العربية التي لطالما نعتها رواد الصحافة الأوائل بأنها لغة جميلة.

وإننا هنا لا نطلب من محرري الأخبار الرقمية أن يجملوا لغتهم بسحر البيان العربي لأن هذا مطلب عزيز يحتاج إلى مراس طويل بأسرار اللغة العربية، وخاصة في أساليبها الرفيعة المختارة، وإنما فقط مراعاة الحد الأدنى من قواعد الضبط اللغوي؛ من قبيل قواعد الإملاء، وقواعد الإعراب والتقديم والتأخير، أو ما يعرف عند النحاة العرب بقانون الصدارة. هذا القانون الذي يجعل لغتنا العربية تختلف عن لغات جيراننا في أوروبا.

وسأضرب هنا مثالا واحدا فقط على سبيل التمثيل والتوضيح: فعبارة (ممنوع التدخين) الشائعة في تعبيرنا اللغوي العربي المعاصر هي ترجمة حرفية أو بالأحرى استنساخ للوضع اللغوي الفرنسي؛ وإذا كان قانون الصدارة في التعبير الفرنسي يجيز تقديم الخبر على المبتدأ، وإذا كان قانون الصدارة في التعبير الألماني يجيز تأخير الفعل عن الفاعل والمفعول به أيضا، فإن قانون الصدارة في التعبير اللغوي العربي لا يجيز مثل ذلك إلا عند الضرورة القصوى ولاعتبارات بلاغية خاصة يمكن الرجوع إليها في في كتب النحاة. وإذن فالصواب أن نقول: التدخين ممنوع.

وهذا فقط مثال واحد من بين آلاف الأمثلة التي تحتاج إلى إعادة تصحيح وترتيب… ولو عممنا أسلوب الاستنساخ هذا لم يعد للغتنا العربية أصل يعتد به البتة.

وليت هذا الاستنساخ اللغوي الغريب بقي محصورا في الإعلام الرقمي فقط بل أصبح ظاهرة عامة نجدها في الإعلام العربي المسموع والمرئي؛ مثل نشرات الأخبار المعدة سلفا من قبل محررين رسميين موظفين لهذا الغرض، فضلا عن بقية البرامج الحوارية المباشرة والبرامج الترفيهية الحرة، والطامة الكبرى في وصلات الإشهار التي يختلط فيها الحابل بالنابل وحيث يتمثل بصورة صارخة الجهل التام بأبسط قواعد الصحة اللغوية لدى القائمين عليها، والأدهى من ذلك كله أن ينتقل هذا الداء العضال إلى أوساط التلاميذ في المدارس والطلبة في الجامعات.

ولو بذل الإعلام الرقمي والإعلام المسموع والمرئي والمكتوب قليلا من الجهد في الضبط والتصويب اللغويين حتى يصير لديها عادة طبيعة مثل بقية شعوب العالم التي تحترم شعورها اللغوي القومي لكان حال لغتنا اليوم كحال لغتنا عند أول عهدنا بالإعلام والصحافة في نهاية القرن التاسع عشر وفي القرن الماضي عندما كان كبار الصحافيين والإعلاميين هم كبار الكتاب والشعراء أيضا.

وكان الواحد من إعلامييي وصحافيي ذاك الزمن المنقضي يعرف أكثر من لغة أوربية ويتقنها إتقان الأكاديمي المتخصص؛ بحيث يترجم عنها وإليها دون أن يحدث لديه تداخل بين لغة الانطلاق ولغة الوصول، على خلاف ما هوعليه الحال اليوم لدى كثير من المواقع والقنوات والصحف التي تنتسب في الظاهر الى اللغة الأم العربية، وفي الباطن، عند التأمل والتحليل، إلى الفرنسية أو الإنجليزية وغيرهما من اللغات الأمهات في الرضاعة…

الجمعة، 6 أبريل 2012

ملهاة ورواسب افتراضية.


ما يُرى على سطح بحر الإنترت العظيم هو ما تحركه مجاذيف المبحرين القاصدين للهدف والتائهين. الكل يبحث الكل يجري ويلهث.
قلة قليلة تتزود في رحلتها الافتراضية الطويلة وتختار وتحتاط، وأكثرية هائلة تتقاذفها الأمواج من غير تحكم أو سيطرة وتقتات على الفتات.

إنها تراجيديا أو بالأحرى ملهاة افتراضية عجيبة نعيشها اليوم؛ وكل واحد منا له نصيب من مشهدها العام مما يقذفه غيرنا في بحارها ونصطاده نحن بعيون شباكنا الرقمية على الدوام.

ويلتقي أكثر الناس اليوم عند المواقع الاجتماعية الافتراضية الكبيرة في حركة جماعية تشبه حركة سمك السردين في أعالي البحار؛ لا يعنيهم أمر التزود من قوت البحر وكنوزه الثمينة المترسبة التي تحتاج إلى مراس وخبرة طويلة بفنون الغوص في الأعماق، بقدر ما يعنيهم الخوض في الزحام، والتدافع بالأكتاف لتلقي نصيبهم من الغثاء والهلام والزبد الذي يركب بعضه بعضا في السطح المكشوف والمفضوح بعد أن تتقاذفه أيادي المبحرين في كل اتجاه وناحية وتمزقه إربا إربا كما تمزق وتنهش لحوم الأضاحي…

ويكون أكثر هذا الغثاء أوالهلام أو الزبد الطافي إما في شكل نكتة، أو نميمة، أو فضيحة أو مقلب، أو صورة غريبة، أو رسم أو كاريكاتور، أو مونولوج أو دردشة فجة.. وغير ذلك من الفقاقيع الافتراضية التي قد تبهرنا بطراوتها الناعمة ولكنها سرعان ما تخبو ولا يبقى لها أثر يذكر في العقل أو الذاكرة أو الوجدان. وإذا كانت الطراوة هي مبدأ الحياة الجماعية الافتراضية وخاصة عند مواقع التعارف الاجتماعي الكبيرة المعروفة، كما أوضحنا في إدراجات سابقة، فلأن جديدها هو ما يظهر لنا على السطح دوما بالتزامن مع حركة عقارب الساعة بالدقيقة والثانية, أما القديم منها بعض الشيء فسرعان ما يترسب ويرسو في قعر المحيط الرقمي ليتراكم على القديم والقديم جدا، في حركة دائمة تكون كثبانا ورواسب من (الأزبال)، أو بعبارة ألطف وأصح من المتلاشيات الافتراضية التي يكون أصلها إما حرفا مرقونا أو صورا وأصواتا ملتقطة.

وتلك المتلاشيات الافتراضية إذا اجتمعت في حيز واحد ربما تكون بحجم جبال أرضنا وهضابها الحقيقية… ولو حولنا موقع "اليوتوب" لوحده على سبيل المثال إلى أقراص مدمجة ووزعناها على كل بيت معمور لأمكننا أن نملأ كوكبنا الأرضي ضوء وصخبا وضجيجا. ولو ألقيت نظرة على الشارع العام بعد انتهاء ساعات الدرس والعمل لوجدته فارغا، إن وجدت الوقت لاختلاس نظرة خاطفة من نوافذ البيت الحقيقية، بعيدا عن نوافذ الحاسوب الافتراضية؛ فلا أعتقد أن أحدا منا تحدثه نفسه اليوم بالتطلع إلى وجه السماء ليلا ليتفقد حركة نجومها وكواكبها… إذ لا شيء يعلو على حركة الأضواء والحروف والنوافذ الرقمية المنبثقة من أجهزة العرض الرقمية لأنها أضحت، ولو بحجمها الصغير، سماوات تطاول السماء الحقيقية بأضوائها ونجومها وببهرجها وبسحرها أيضا…

الأب والأم والأطفال كل واحد في ناحية يتملى بطلعة سمائه الخاصة التي قد تكون حاسوبا أو لوحا رقميا أو هاتفا فائق الذكاء، والجدة المسكينة وحيدة بلا سماء بعد أن خف بريق عينيها تنادي بصوتها وتحث الجميع على النوم قبل أن يمضي أكثر الليل. وكأنها آخر أوصياء هذا الزمن على ما فاتها من زمن… لا شك أن مواعيد النوم قد تأخرت في أيامنا هذه، لأن عيون الأنترنت لا تنام، ولو أمكن للمبحرين الرقميين أن يبقوا أحياء بغير نوم لما ناموا ولما رف لهم جفن حتى تبقى مقلهم محدقة في تلك السماوات الافتراضية العجيبة على الدوام.

ولا شك أن عادات الغذاء الطبيعية قد تغيرت أيضا؛ فأكثر الناس اليوم ينفضون عن موائد الطعام بسرعة منصرفين إلى حواسيبهم التي تظل في وضعية السبات المؤقت ربحا للوقت، وخاصة في صفوف الأطفال والمراهقين الذين تستبد بهم الحاجة إلى متابعة برامج الألعاب والتسالي الافتراضية إلى درجة قد تذهلهم عن قضاء الحاجات الطبيعية الضرورية والوفاء بالمتطلبات المدرسية مما يتعلق بحفظ الدروس وإنجاز التمارين المدرسية في حينها، وقد يتناسوها ولا يعملون على إنجازها إلا في آخر لحظة أو بعد إلحاح شديد من الآباء أو الأوصياء. فعلا، لقد بدأت الإنترت تغير مجرى حياتنا العادية بدل أن نغيرها، وبدأنا نلائم ظروفنا الحياتية اليومية لظروفها هي مضطرين أو مختارين. وما أخشاه أن تصير الحياة الافتراضية في مستقبل الأيام في المحل الأول، وأن يصير واقع الناس اليومي الحقيقي في المحل الثاني، أو رهينة لزر من الأزرار…..

الأربعاء، 21 مارس 2012

التقنية الرقمية “اللوحية”.


لعل أول ما يلفت النظر في دنيا التواصل الرقمي هو تقلص حجم الأجهزة المعدة لهذا الغرض يوما بعد يوم، بحيث لم تعد تحتل إلا مساحة صغيرة من غرف الجلوس أو العمل أو النوم. وفضلا عن ذلك فهي تلتقط بأصابع اليد الواحدة وتنقل من كف إلى كف وتندس بين الأوراق داخل المحافظ اليدوية وحتى في الجيب، بكل سلاسة وانسيابية لترافق الناس في كل أوقاتهم وفي جميع أوضاعهم وأحوالهم.


وهذه الأجهزة الرقمية التواصلية، على صغرها، لم تعد أحادية المهام؛ بل أصبحت لها وظائف عدة متداخلة ومندمجة ومتفاعلة؛ فجهاز التلفاز، على سبيل المثال، الذي صار في شكله الجديد أشبه ما يكون ببرواز حائطي أنيق ونحيف، لم يعد مقتصرا على الاستقبال فقط، بل مشغلا لكثير من الوسائط السمعية والبصرية أيضا، ومرتبطا بخدمة الإنترنت، ومتفاعلا مع كثير من الأجهزة الأخرى الموجودة بالبيت أو بالفضاء الخارجي عبر أنظمة الاستشعار المختلفة.

أما الهواتف النقالة فصارت لها مهام أكثر تعقيدا وتداخلا واندماجا، لجمعها بين وظائف التلفاز من جهة ووظائف الحاسوب التقليدي المعروفة ووظائف الوسائط السمعية البصرية على اختلافها وتنوعها أيضا، مع قدرة متزايدة على الحفظ والتخزين…


وقد أوجدت البيئة الرقمية لنفسها مصطلحات جديدة لوصف كثير من أجهزة الاتصال التي غدت نحيفة أكثر من أي وقت مضى؛ ولعل أبرزها:


مصطلح: "الكفية" نسبة إلى الكف. وهو مصطلح قديم وقد أطلق على نوع خاص من الهواتف المتطورة أو "الذكية" التي زودت بكثير من خدمات وبرامج الحاسوب التقليدي المعدلة تعديلا خاصا يتلاءم مع طبيعة هذه الأجهزة وسرعتها في الإقلاع حتى غدت في نهاية المطاف تنافسها منافسة قوية، وخاصة فيما يخص برامج تحرير النصوص وعرضها وبرامج الإبحار في الشبكة وبرامج تحرير الصور وتشغيل الفيديو والألعاب، وغير ذلك من البرامج التي لا يمكن أن تعد أو تحصى…


أما مصطلح "اللوحية" فنسبة إلى مستطيل لوحي أملس. وربما سميت الأجهزة "اللوحية" كذلك لأنها الأنحف من حيث السمك، وإن كانت مستطيلاتها أعرض مقارنة بحجم الهواف النقالة العادية أو سمكها أيضا أو حتى وزنها، كما أنها لا تتوفر على أزرار ناتئة، باستثناء زر التشغيل الذي لا يكاد يرى من الوهلة الأولى.


إن طفرة الأجهزة الرقمية اللوحية التي تذهلنا اليوم بأناقتها ونحافتها مثل طفرة الهواتف النقالة التي أذهلتنا في وقت سابق قد ناهز العقدين، مع قياس الفارق طبعا…


وإن الانتقال إلى تقنية العرض اللوحي النحيف الرشيق من حيث الشكل قد رافقه في نفس الوقت تطوير مذهل على مستوى مضمون هذه الأجهزة وتطبيقاتها المتنوعة التي تغطي كثيرا من جوانب حياتنا العلمية والثقافية والاجتماعية والرياضية والترفيهية وحتى الطبية والنفسية وغير ذلك. هذا فضلا عن أدائها العالي مما يجعلها فعلا أكثر اقترابا من المسطح الورقي الذي سجل عليه أجدادنا آمالهم وآلامهم ونقوشهم ومنمنماتهم التي خلدت نظرتهم إلى الكون من حولهم.

وربما لن يكون، في مستقبل الأيام، فرق كبير فرق بين هذه الأجهزة اللوحية وبين أية قطعة ورقية عادية عندما ستصبح قابلة للطي أيضا مثنى وثلاث ورباع لتندس هي الأخرى كما تندس الأوراق والهواتف العادية في الجيب….


وفي نهاية المطاف، ليست كل هذه الأجهزة الرقمية القديمة منها والجديدة إلا امتدادا لرأس الإنسان الصغير بما يشتمل عليه من مخ وسمع وبصر، ولوعيه بذاته وبالعالم من حوله، عاقلا أو مجنونا، مذهولا أو مفتونا..

الأربعاء، 18 يناير 2012

خيار العودة إلى الوضع الأول

"دوام الحال من المحال". هذا ما تعارف عليه الناس ودلت عليه التجارب منذ أن وعت البشرية حقيقة وجودها على هذا الكوكب العجيب.

ومع ذلك يبقى هناك، في نفس كل إنسان، حنين دائم إلى استعادة وضع ما أو مجموعة أوضاع سابقة مريحة ومحببة كان فيها هذا الإنسان منسجما مع ذاته ومع نفسه ومع محيطه قبل كل تغير طارئ، ولو تم ذلك الاسترجاع من طريق الحلم والخيال أو الفن أو الكتابة والتدوين…

ونستطيع هنا أن نضرب أمثلة عديدة من الحالات والأوضاع الفردية والجماعية قبل أن تدور عليها دوائر الأيام وتتعرض إلى الاختلال أو الفساد؛ من قبيل المرض بعد الصحة، والعجز بعد القدرة، والشدة بعد الرخاء والفشل بعد النجاح، والاختلاف بعد الاتفاق، والحرب بعد السلام وهلم جرا وعدا.

وحتى الطبيعة من حولنا وما عليها من مخلوقات وكائنات وجمادات لا تسلم من دواعي الدهر، بفعل اختلال بسيط في الهواء أو التربة أو الضغط أو الحرارة أو الرطوبة…

وإذا ما انتقلنا إلى عوالمنا الافتراضية بكل ما تعج به من أجهزة وبرامج وتطبيقات ووسائط وأدوات تحكم واستشعار…، فإنها لا تكاد تستثنى من هذه القاعدة أيضا، لكونها من صنع إنسان خلق أصلا من ضعف. ولذلك فهو محكوم على الدوام بضرورة مواصلة التعلم والتدريب وتكرار التجارب لعله يتغلب على ضعفه وعلى جهله وعلى نقصه وحتى على موجة الغباء التي قد تعتريه في بعض الأحيان.

فأي فرق إذن بيننا نحن ـ معشر الآدميين ـ وبين هذا الكم الهائل من المنتجات الافتراضية الآلية التي تشبهنا كثيرا في ملامحنا وفي تصرفاتنا وفي صفاتنا، والتي تقوم فيها الأسلاك والدوائر الكهرومغناطيسية الموصلة وشبه الموصلة مقام شبكة الشرايين الدموية الحيوية التي تتخلل أجسامنا ؟.

وفي الوقت الذي يحتاج فيه الآدميون إلى عمليات جراحية بالغة الكلفة بالاستئصال أو الزرع أو التعويض أو بالعقاقير لاستعادة جزء يسير من أوضاع صحية طبيعية زودهم بها الخالق لحظة خروجهم من الأرحام، لا تحتاج كثير من الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها في حياتنا اليومية إلا إلى ضغطة زر واحدة لاستعادة وضعها الافتراضي العادي عند خروجها الأول من أرحام المصانع أيضا.

وخيار العودة إلى الوضع الافتراضي الأول التي تزود به كثير من الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها في حياتنا اليومية، وأبسطها الهاتف النقال على سبيل المثال، حل سحري عجيب للتغلب على كثير من المشكلات التقنية والوظيفية لتلك الأجهزة، عند سوء الاستعمال من لدن المستخدم الذي ليست له خبرة أو معرفة كافية بأمور التشغيل والبرمجة والعرض والتحكم، وهي كذلك أيضا حتى بالنسبة لخبراء التقنية عند وقوع خطأ تقني عارض، أو عند تداخل البرامج والتطبيقات أو عدم تلاؤمها مع نوعية الأجهزة أو السلسلة أو الإصدار.

هذا موضوع شائك يختلط فيه ما هو إنساني بما هو آلي، وما هو نفسي حار بما هو آلي بارد، وتمتزج فيه المنافع والمضار دفعة واحدة.

ترى، هل يأتي على الإنسان حين من الدهر يصبح فيه جسم الإنسان وعقله مزودين بخيار العودة إلى أي وضع مثالي يختاره عن قصد وترصد من تجارب ذاتية سابقة أو آنية أو متوقعة؟

لنا عودة مفصلة إلى هذا الموضوع في تشعباته المختلفة، ولو بعد ابتعاد طويل غير مقصود عن هذه المدونة، فمعذرة إلى جميغ قراء وزوار (كلمات عابرة).