الجمعة، 6 أبريل 2012

ملهاة ورواسب افتراضية.


ما يُرى على سطح بحر الإنترت العظيم هو ما تحركه مجاذيف المبحرين القاصدين للهدف والتائهين. الكل يبحث الكل يجري ويلهث.
قلة قليلة تتزود في رحلتها الافتراضية الطويلة وتختار وتحتاط، وأكثرية هائلة تتقاذفها الأمواج من غير تحكم أو سيطرة وتقتات على الفتات.

إنها تراجيديا أو بالأحرى ملهاة افتراضية عجيبة نعيشها اليوم؛ وكل واحد منا له نصيب من مشهدها العام مما يقذفه غيرنا في بحارها ونصطاده نحن بعيون شباكنا الرقمية على الدوام.

ويلتقي أكثر الناس اليوم عند المواقع الاجتماعية الافتراضية الكبيرة في حركة جماعية تشبه حركة سمك السردين في أعالي البحار؛ لا يعنيهم أمر التزود من قوت البحر وكنوزه الثمينة المترسبة التي تحتاج إلى مراس وخبرة طويلة بفنون الغوص في الأعماق، بقدر ما يعنيهم الخوض في الزحام، والتدافع بالأكتاف لتلقي نصيبهم من الغثاء والهلام والزبد الذي يركب بعضه بعضا في السطح المكشوف والمفضوح بعد أن تتقاذفه أيادي المبحرين في كل اتجاه وناحية وتمزقه إربا إربا كما تمزق وتنهش لحوم الأضاحي…

ويكون أكثر هذا الغثاء أوالهلام أو الزبد الطافي إما في شكل نكتة، أو نميمة، أو فضيحة أو مقلب، أو صورة غريبة، أو رسم أو كاريكاتور، أو مونولوج أو دردشة فجة.. وغير ذلك من الفقاقيع الافتراضية التي قد تبهرنا بطراوتها الناعمة ولكنها سرعان ما تخبو ولا يبقى لها أثر يذكر في العقل أو الذاكرة أو الوجدان. وإذا كانت الطراوة هي مبدأ الحياة الجماعية الافتراضية وخاصة عند مواقع التعارف الاجتماعي الكبيرة المعروفة، كما أوضحنا في إدراجات سابقة، فلأن جديدها هو ما يظهر لنا على السطح دوما بالتزامن مع حركة عقارب الساعة بالدقيقة والثانية, أما القديم منها بعض الشيء فسرعان ما يترسب ويرسو في قعر المحيط الرقمي ليتراكم على القديم والقديم جدا، في حركة دائمة تكون كثبانا ورواسب من (الأزبال)، أو بعبارة ألطف وأصح من المتلاشيات الافتراضية التي يكون أصلها إما حرفا مرقونا أو صورا وأصواتا ملتقطة.

وتلك المتلاشيات الافتراضية إذا اجتمعت في حيز واحد ربما تكون بحجم جبال أرضنا وهضابها الحقيقية… ولو حولنا موقع "اليوتوب" لوحده على سبيل المثال إلى أقراص مدمجة ووزعناها على كل بيت معمور لأمكننا أن نملأ كوكبنا الأرضي ضوء وصخبا وضجيجا. ولو ألقيت نظرة على الشارع العام بعد انتهاء ساعات الدرس والعمل لوجدته فارغا، إن وجدت الوقت لاختلاس نظرة خاطفة من نوافذ البيت الحقيقية، بعيدا عن نوافذ الحاسوب الافتراضية؛ فلا أعتقد أن أحدا منا تحدثه نفسه اليوم بالتطلع إلى وجه السماء ليلا ليتفقد حركة نجومها وكواكبها… إذ لا شيء يعلو على حركة الأضواء والحروف والنوافذ الرقمية المنبثقة من أجهزة العرض الرقمية لأنها أضحت، ولو بحجمها الصغير، سماوات تطاول السماء الحقيقية بأضوائها ونجومها وببهرجها وبسحرها أيضا…

الأب والأم والأطفال كل واحد في ناحية يتملى بطلعة سمائه الخاصة التي قد تكون حاسوبا أو لوحا رقميا أو هاتفا فائق الذكاء، والجدة المسكينة وحيدة بلا سماء بعد أن خف بريق عينيها تنادي بصوتها وتحث الجميع على النوم قبل أن يمضي أكثر الليل. وكأنها آخر أوصياء هذا الزمن على ما فاتها من زمن… لا شك أن مواعيد النوم قد تأخرت في أيامنا هذه، لأن عيون الأنترنت لا تنام، ولو أمكن للمبحرين الرقميين أن يبقوا أحياء بغير نوم لما ناموا ولما رف لهم جفن حتى تبقى مقلهم محدقة في تلك السماوات الافتراضية العجيبة على الدوام.

ولا شك أن عادات الغذاء الطبيعية قد تغيرت أيضا؛ فأكثر الناس اليوم ينفضون عن موائد الطعام بسرعة منصرفين إلى حواسيبهم التي تظل في وضعية السبات المؤقت ربحا للوقت، وخاصة في صفوف الأطفال والمراهقين الذين تستبد بهم الحاجة إلى متابعة برامج الألعاب والتسالي الافتراضية إلى درجة قد تذهلهم عن قضاء الحاجات الطبيعية الضرورية والوفاء بالمتطلبات المدرسية مما يتعلق بحفظ الدروس وإنجاز التمارين المدرسية في حينها، وقد يتناسوها ولا يعملون على إنجازها إلا في آخر لحظة أو بعد إلحاح شديد من الآباء أو الأوصياء. فعلا، لقد بدأت الإنترت تغير مجرى حياتنا العادية بدل أن نغيرها، وبدأنا نلائم ظروفنا الحياتية اليومية لظروفها هي مضطرين أو مختارين. وما أخشاه أن تصير الحياة الافتراضية في مستقبل الأيام في المحل الأول، وأن يصير واقع الناس اليومي الحقيقي في المحل الثاني، أو رهينة لزر من الأزرار…..

ليست هناك تعليقات: