الجمعة، 12 مارس 2010

على هامش اليوم العالمي لحرية الإنترنت.

لعل أهم ما يميز محتوى الإنترنت أن الناس جميعا يوجدون منه على مسافة واحدة. وهي المسافة الفاصلة بين ضغط زر البحث وإظهار المتصفح الإلكتروني أو المحركات الرقمية للمعلومات أو المواضيع المبحوث عنها. وهذا رغم تباعد الناس في المكان حيث يكونون عند أطراف حواسيبهم المتصلة، ورغم تباين ألسنتهم وألوانهم وأعمارهم ومراتبهم، واختلاف أنماط عيشهم وتفكيرهم. وفي ذلك مظهر من مظاهر الكونية المعرفية والديمقراطية الثقافية التي لم تتح للبشرية جمعاء من قبل.

وقد أصبح اجتماع الناس اليوم عند المواقع والملتقيات الافتراضية في السر أو العلانية أسهل من اجتماعهم في الأماكن الحقيقية المعلومة لدى الدوائر الحكومية؛ إما للدردشة والتسلية أو للمحاورات والمناظرات العلمية والثقافية الجادة، وإما للتنديد والنضال ضد أشكال القمع والفساد والاضطهاد والطغيان والاحتلال، وإما لجمع التوقيعات والتبرعات والمؤازرة، وإما للإثارة والفتنة، وإما لحبك خيوط جرائم التجسس والسطو والمؤامرات والاغتيالات وحتى للعهر والفجور أو الزهد والعبادة. فلا معنى للحياة الافتراضية إلا بوجود الشيء ونقيضه في نفس الوقت، كما هو حال حقيقتنا على أرض الواقع بحلوها ومرها، وبخيرها وشرها، وبصلاحها وفسادها.

فكم عدد المواقع والمدونات والمنتديات التي تتناسل في كل يوم من غير حاجة إلى تصريح رسمي أو فرمان حكومي؟، وكيف يمكن للمتابع العادي وحتى للحكومات بأجهزة رصدها المختلفة أن تجد الوقت والجهد الكافيين لإحصاء كل ما تراكم في العقدين الأخيرين في جوف الانترنت من كل غث وسمين، وتتبع كل شاردة وواردة فيه من حرف أو رمز أو صورة، فضلا عن إمكانية تنظيف محتوى الإنترنت من الأوساخ والعوالق والطحالب قبل نشر كل هذا الغسيل الافتراضي المتبقي وتجفيفه وتقديمه إلى صفوة الصفوة ونخبة النخبة، كأنقى وأنظف وأسلم ما يكون، حسب مزاج الوصي أو الرقيب، وعبر عمليات الفرز الإلكترونية بالغربال والمصفاة…؟!!.

وتتحرك الكائنات الافتراضية في الغالب في شكل جماعي مثل الطيور التي تقع على أشكالها؛ فإذا قلت لهم: أيًَ المواقع تطرق أبوابها سيقولون لك: من تكون. صاروا يعرفونك من آثار أناملك وهي تدوس الأزرار بدل الأقدام، ومن عناوين الوضوعات التي تقرأ أو تـُقرأ لك، ومن الصور التي تًـراها أو تـُريها. ليس هناك شيء يمكن أن يخفى في بيئتنا الافتراضية، فمغناطيسها القوي يجذب حروف أبجديتها الصغيرة، ولو كانت محشورة داخل جبل عظيم من القش والغثاء.

غير أن المحتوى الافتراضي بكل ما فيه من مألوف وشاذ ومستأنس ومستوحش أشبه ما يكون بالمرعى المهمل وبالغابة الاستوائية المطيرة الكثيفة التي يستحيل معها تعيين ناطور عند كل شُجيرة أو أكمة، أو رقيب على رأس كل مدون أو صاحب موقع أو مقهى أنترنت…
وحتى المدونات التي تبدأ كحالات فردية سرعان ما تذوب في المجموع، عندما تتلقفها محاضن التدوين ومجمعاته ومراصيده، وتتصل مع غيرها من المواقع الصغيرة والكبيرة بعمليات التشبيك الإلكتروني، أوحينما ينخرط أصحابها في هيئات تحرير كبرى كالمجلات والجرائد والصحف والكتب الإلكترونية، أو ينضمون إلى أحزاب ونقابات، أو يلتحقون بصفوف الاحتجاجات والتظاهرات الافتراضية والحقيقية، النظرية والعملية…

وإذا كان بوسع الحكومات أن تضبط إيقاع الحياة في الشارع العام وفي كل بيت، وأن تحصي الرؤوس وما حوت والبطون وما هضمت والألسنة وما نطقت…، وأن تكون أجهزة الأمن لديها بمثابة صمام الأمان الذي يحول دون حدوث أي انقلاب أو أدنى تمرد أو انفلات، فإنها من المستحيل أن تضبط حركة الناس الافتراضيين الهلامية، عندما يجتمعون على هذه الصفحة الإلكترونية أو تلك، أو عندما يرسلون موضوعا أو يفشون معلومة أو يكشفون عن سر أو وثيقة أو يبثون تسجيلات بالصوت والصورة بواسطة هواتفهم النقالة على مدار الوقت والساعة، أو حتى عندما يتسللون لواذا عبر النوافذ والأبواب والشقوق الإلكترونية الضيقة ويفرون من حيز افتراضي إلى آخر متوهمين أنهم لم يتركوا أي بصمة أو أثر.

وحتى إذا ما استطاعت الحكومات أن تحجب موضوعات أو معلومات أو صورا في موقع ما داخل بلد ما فإنها ما تلبث أن تظهر في مواقع أخرى وفي بلدان أخرى بأعداد مضاعفة، فيما يشبه (الغـُميضة) أو لعبة المطاردة بين القط والفأر التي يتسلى بها الأطفال، وتلك اللعبة المشوقة المليئة بالغرائب والمفاجآت لا يمكن أن ينفد مخزونها। فكل ممنوع في دنيا الانترنت مطلوب مرغوب، وقد أصبحت المواقع والبرمجيات الخاصة بإظهار المواقع المحجوبة أكثر فعالية وأكثر انتشارا بين المتصفحين ذوي الفضول العالي والخبرة الكافية لفك عقد وطلاسم الحجب والتشفير، مما يستحيل معه محو أي أثر افتراضي نهائيا وعلى وجه التمام، إلا بإلغاء شبكة الإنترنت من الأصل، وتدمير كل الأجهزة الإلكترونية لدى الناس، ورميها في طواحين الرقابة أو في مزبلتها التاريخية إلى الأبد، وذلك من سابع المستحيلات…

وليس هناك ما يحرك البرك الراكدة في دنيا الإنترنت أكثر من حجب موقع أو مصادرة مدون، وليس هناك ما يبعث على السخرية أكثر من غباء بعض الساسة، وليس هناك ما يثير حب الاستطلاع والفضول أكثر من صور وفضائح المشاهير والنجوم في فن التمثيل والغناء والرياضة وحتى في المجون والخلاعة، وحيث يمكن بضربة حظ طائشة أن يصير المجهول معلوما، والمغمور مشهورا…

فأتفه الأمور وأسخفها وأبلدها يمكن أن تتحول بضغطة زر إلى نكتة إلكترونية وإلى صيد افتراضي ثمين يتهافت عليه البصاصون والفضوليون عبر كل الطرق الافتراضية السيارة وغير السيارة، وإلا كيف يمكن أن نفسر هذا التباين العجيب بين العدد الكثير الذي يتقاطر على المواقع السطحية التي تكشف الفضائح وتعرض الصور العارية وتخاطب الحس والغريزة البهيمية، وبين العدد القليل الذي يحج لماما إلى قلة قليلة من المواقع الجادة العاقلة العالمة..

لقد أعـُلن الثاني عشر من شهر مارس كيوم عالمي لحرية الإنترنت ومكافحة الرقابة الإلكترونية. وفي هذا اليوم بالذات، ولكي يكون لهذا الاحتفال معنى بدأت تتعالى أصوات كثير من المدونين الغيورين وأصحاب المواقع العربية الرصينة ليس فقط للمطالبة بهامش مريح من حرية التعبير الافتراضي، وإنما بدعوة جادة للمساهمة في إثراء المحتوى الافتراضي العربي، من باب المسؤولية الأخلاقية تجاه أنفسنا وضميرنا الغائب أو المغيب أولا وتجاه محيطنا المتقلب الذي نعيش فيه ثانيا، وتجاه الأجيال التي ستخلفنا ثالثا. إذ لا يعقل أن نخلف لأبنائنا وأحفادنا مجرد صور عابرة ملتقطة، ونكت فجة ومفارقات وتسالي في الإنترنت وتفاهات في برامج تلفزيون الواقع…

ليست هناك تعليقات: