السبت، 2 يناير 2010

اقتفاء الأثر الافتراضي

اكتشف الإنسان عبر التاريخ الطويل الحافل بالتجارب والحروب والابتكارات عدة طرق لاقتفاء أثر الهاربين والمختبئين. ودرَب حاسة الشم لدى بعض الحيوانات الأليفة لهذا الغرض كبعض أنواع الكلاب مثلا.

أما اليوم، ومع تقدم التكنولوجيا فقد حلت أجهزة الاستشعار الكهربائي والحراري والمغناطيسي محل تلك الكلاب المسكينة التي أتعبها الجري وراء المجرمين والتنقيب عن لفافات التهريب، وأصبحت الآلات الصغيرة الدقيقة التي لا تكاد ترى بالعين تقوم بهذه المهمة على أحسن ما يرام.
فالأبواب صارت تفتح وتغلق لذاتها كلما استشعرت حرارة الأجسام الآدمية في القرب والبعد، ومحركات السيارات صارت تشتغل عن بعد أيضا كلما استشعرت صفة مخصوصة لصاحبها في طريقة تنحنحه، أو في كيفية مشيته، أو بإشارة معينة من إشاراته باليد أو حتى بالحاجب.
وحتى قنينات العطر ما عادت تفوح إلا في حضور الناس وإذا ما غابوا أو غادروا البيت كتمت الأنفاس.
لقد صار بوسع إنسان هذا العصر الرقمي العجيب أن يبرمج كل حركة وكل همسة وكل نسمة।

كل هذا يحدث في عالمنا الحقيقي الأول كأنه لون من ألوان السحر، حيث كل شيء يتحرك أمام أبصارنا دون أن نرى المحرك، وكل شيء ينفعل دون أن نرى الفاعل، وإنما هي أمواج كهروميغناطيسية غير محسوسة تروح وتغدو وتحدث من حولنا هذا الأثر أو ذاك।

وإذا انتقلنا إلى عالمنا الافتراضي الثاني وجدنا الناس يجتمعون في مجالس غير المجالس، ويستريحون في مقاهي غير المقاهي، تقودهم إليها عناوين إلكترونية خاصة، لكن ليست كتلك العناوين المعلومة لدى أصحاب البريد العادي والمضمون।

وبوسع الناس في تلك العوالم الافتراضية الموجودة عند أطراف الحواسيب وليس أطراف الحواري والشوارع أن يتحركوا وينفعلوا ويؤثروا دون أن يعرف أحد منا من هم ومن أين جاؤوا كأنهم ضرب من طيف الخيال، فلا لون لهم ولا نكهة غير ما يمكن أن يستشف من دردشاتهم المرموزة على النت। كم واحد من هؤلاء تحسبه شابا وهو كهل، وآخر تظنه أنثى وهو ذكر. إنه حق عالم افتراضي بدون هوية أو خصوصية وكأن الناس فيه ظلال لا تحتمل التأنيث والتذكير ولا التصغير ولا التكبير، فهل هو محاولة للفرار من كل ما هو نسبي على أرضنا وغير مطلق.

وحدها محركات البحث باستطاعتها أن تقتفي أثر هؤلاء القوم الافتراضيين، ولكن فقط من خلال العناوين التي قادتهم إلى هذا الموقع أو ذاك، أو إلى هذه المدونة أو تلك।

وأنا أكتب هذا الإدراج على هذا الموقع الافتراضي كم أتمنى أن أصافح قراءه وأستشعر حرارة أيديهم الآدمية من غير حاجة إلى أداة استشعار الكترونية.

ليست هناك تعليقات: