الخميس، 14 فبراير 2008

التدوين العربي وهاجس التنظير واإبداع

كتب يوم الخميس,كانون الثاني 25, 2007

كثر الحديث عن التدوين والمدونات في هذه الأيام، وصار بعض من التحق بعالم التدوين بالأمس القريب يحاول أن يجعل من نفسه المرشد الأعلى لهيئة التدوين العربي؛ فتراه يشرع ويقنن ويفصل ويخيط حسب مقاس ثوبه هو، مهما كان حاسرا أو فضفاضا.

لست ضد الخوض في موضوع التدوين العربي إذا كان نابعا من تجربة تقنية طويلة وذخيرة معرفية أصيلة، أو إذا كان الأمر يتعلق بوضع مبادئ تنظيمية شاملة تحفز وترغب بلطف وموضوعية، وتعم منفعتها الجميع دون مصادرة أو استعلاء أو إقصاء أو غوغائية.

وقد سبق لي في إدراجات كثيرة أن خصصت مساحة كبيرة من مدونتي للحديث عن التدوين والمدونات على مدار السنة الماضية، عندما كان الحديث عن التدوين لا زال في بدايته خجولا ومحدودا. وقد بلغ عددها حتى الآن خمسة وعشرين إدراجا. وكنت كتبتها انطلاقا من تجربتي المتواضعة، ولأجل المصلحة العامة، وقد ألزمت بها نفسي، وعملت بمقتضاها في مجمل ما كتبت، ولم ألزم بها أحدا.

وقد جئت إلى التدوين من عوالم الأدب، بعد أن أمضيت شطرا من حياتي في مدارسته وتدريسه لطلاب الجامعة، وبعد أن اكتسبت خبرة معرفية وتعبيرية وحياتية.

وإن الحديث عن عوالم الكتابة الأدبية كالحديث عن عوالم المدونات والكتابة الافتراضية إذا ما استبعدنا جوانبها التقنية الرقمية، وبعض الخصوصيات التفاعلية، كما أوضحت سابقا في ورقتين: أولى وثانية.

ومن عيوب مناهج التدريس الجامعي التي تغيظني أن موادها تدور في مجملها حول الأدب وقضاياه السطحية ولا تنفذ بشكل مباشر إلى لبه فضلا عن نواته. والأمر نفسه يكاد ينطبق على واقع المدونات. فماذا يجدي التنظير إذا جثم بثقله ومحاذيره على صدور وعقول المبدعين في حقل الأدب أو التدوين، واكتفى بالقشور ولم ينفذ إلى جوهر الأمور..؟؟!!

فطالب الأدب مثلا، خلال تكوينه الجامعي، يجول جولة نظرية عامة حول الأدب العربي من العصر الجاهلي إلى آخر صيحات الحداثة الأدبية المعاصرة. ولكنه، في واقع الأمر، لا يدرس أدبا. لأنه لا يكاد يلامس النصوص والمتون الإبداعية إلا ملامسة خفيفة سطحية، تكاد تخلو من شروط الترغيب والتحفيز على المبادرة الشخصية والمغامرة الحرة والإبداع. فيكون حاله كحال من يسافر في القطار السريع؛ فهو يرى أشياء كثيرة تمر أمام عينيه بسرعة، ولكنه في الحقيقة لا يرى شيئا، وخاصة مع واقع الإصلاح الجامعي الجديد المبني على السرعة والاختزال وعلى نظام الفصول والوحدات والمجزوءات. فقد أصبح نظام الحصص الجديد المطبق حاليا في جامعاتنا كوجبات (السندوتش)الخفيفة جدا التي لاتسمن ولا تغني من جوع.

بل إن معظم الطلبة لا يدرسون هذا الأدب، على علاته الكثيرة، لذاته وإنما من أجل أخذ النقطة في الامتحان، ولذلك تراهم يغشون وينافقون ويداهنون ويتملقون لأجل سواد عيون بعض أساتذتهم المبجلين المشرفين على عروضهم وبحوثهم الأكاديمية من بروجهم وحصونهم التنظيرية المنيعة. أما الطلبة القلة المميزون الذين خلقوا للأدب حقيقة فإنهم بنظراتهم العميقة المشعة ألقا وبسمتهم الخاص في التعبير يعرفون.

لكي تخلق طالبا أديبا مبدعا عليك أن تدفعه إلى مضايق الأدب الحقيقية، وتواجهه دائما بحقيقته التعليمية التي اختار أن ينتمي إليها في الجامعة عند انتسابه إلى هذه الشعبة أو تلك أو إلى هذا التخصص أو ذاك، و تزرع فيه نهما معرفيا وتشبعه بما يناسب ذلك من الوجبات العقلية والنفسية والوجدانية بوعي وتفان وبحرص ومسؤولية. وكل هذا لا يتأتى إلا بتغليب أصول القراءة الإبداعية والتطبيقية في الشعب العلمية أو الأدبية على فروع القراءة التنظيرية والأحكام الوصفية الجاهزة.

وليس الأستاذ مجر ملقن لمواد تعليمية، بل هو مجموعة خبرات ذهنية وشعورية، تتنقل إلى الطالب فيما يشبه العدوى الإيجابية.

فلا يمكن أن نخلق مبدعين من وهم أو من فراغ، أو نترك أجيال الشباب الصاعد وحيدا يصارع أهواء نفسه، وتعبث به رياح الاستئصال والتعرية القادمة من كل اتجاه، ويهيم حائرا في أودية البطالة والضياع.

وَأَنْ تُعلم الطالبَ فن الإبحار والغوص في محيط الإبداع الواسع بكل مده وجزره أفضل له من أن تبقيه واقفا متفرجا متهيبا عند سواحله، مفضلا أسلوب التكرار والاستظهار على المجازفة والابتكار. على غرار قول الصاحب بن عباد: (بضاعتنا ردت إلينا)، وعلى غرار قول القائل: (انقل من هنا وهنا وقل هذا كتابنا)، أو فلنقل الآن ما يشبه نفس الكلام: (الصق من هنا وهنا وقل: هذه مدونتنا).

ولو حُشيت، مثلا، قواعدُ الأدب العربي التنظيرية كلُّها في ذهن الطالب دفعة واحدة فلا يمكن أن تصنع منه شاعرا أو كاتبا أو قصاصا. ولكن، يمكن لقصيدة أو مسرحية أو رواية أن تقدح لمعة أدبية كامنة فيه، إذا تعلم فقط أصول القراءة الموجهة الصحيحة من أديب مبدع أو مدرس متمرس متشبع ومدمن على قراءة النصوص الإبداعية، لا على قراءة النظريات المتعاكسة والمتصارعة التي تضرب في اتجاهات كثيرا ما تبعد بالإنسان عن جوهر الأدب وحقيقته، وتصرفه عن خصائصه ووظائفه.

وكذلك الأمر بالنسبة لتعليم أي علم أو فن أو حرفة فلا بد من الممارسة العملية بالأعضاء والجوارح حتى تتقن اليد فن صناعة الأشياء بدقة وإحكام، وكذلك اللسان عندما يتدرب بشكل جيد على نسج خيوط الكلام.

ومع الأسف الشديد، فقد أصبحت سلطة النقد والتنظير في وقتنا هذا أكبر من سلطة الأدب والإبداع في كل علم أو فن. وهاهي قد بدأت تلحق حتى عوالم التدوين الافتراضية البعيدة.

وقد بدأ كثير من الناس ينحازون لجوانب الوجاهة المالية والسياسية والدينية والإجتماعية والطائفية والمذهبية أكثر من انحيازهم لجوانب الإبداع الخلاق. بل إن المنتفعين والمتنفذين داخل بلداننا العربية يراودون هذا المبدع العربي المسكين المغلوب على أمره عن نفسه بكل وسائل الإغراء ليعرضوه في سوق النخاسة البشرية، وليمتصوا رحيق زهوره قبل أن تذبلها الأيادي القذرة.
ولكن الإبداع الخالص جوهر أصيل نفيس ممتد عبر الزمن لا يمكنه أن يخدش ولا يمكن أن يعلوه صدأ، ولا أن تعلق به لوثة الحياة الدنئية مهما لحق صاحبه من أذى وضرر في حياته الفانية.

إن الأعمال الأصيلة في بابها، بغض النظر عن أصحابها، هي التي تُستعار ولا تـَسْتـَعير، أي: إنها لا تحتاج إلى غيرها، ولكن الناس يستشعرون الحاجة إلى الاقتباس والاهتداء بها لأن نورها يتجاوز ذاتها ويغمر ما حولها، فتكون دائمة ملهمة ورائدة.

وإذن، فلنجعل من مدوناتنا مصابيح وقناديل تنير عتمة عوالمنا العربية الثقافية المظلمة الموبوءة بأمراض الجهل المركب والجدل السفسطائي المقيت والتنظير العقيم.

لو انعتقت حياتنا الثقافية العربية من الأهواء والنظرات الضيقة المحدودة الاتكالية، ومن التنميق الخطابي والتنظير الفج لكان حالنا غير الحال.

فما أكثر القوالين في عالمنا العربي، وما أقل الفاعلين، كما رددت وأعدت مرارا وتكرارا..!!

أيها المدونون والمدونات الشباب القادمون توا إلى عوالم التدوين، ابحثوا عن ذواتكم المبدعة الفاعلة فستكتشفونها قريبة منكم لأنها بين جوانحكم وأضلعكم، فأنتم بحقيقة أنفسكم أولى من أن تستعيروها من أحد غيركم.

فلا تكرروا أخطاء من سبقوكم !!.

يا أيها المدونون والمدونات شمروا على سواعد الإبداع والإتقان، وأطلقوا لأنفسكم عنان الخيالات الجامحة. فكل مدون جدير به أن يكون مبدعا حرا، لأنه اختار الانتساب إلى عوالم افتراضية حرة، فلا تحجزوا أماكنها للأحزاب والتنظيمات، وتضيقوها بالشعارات وتملأوها بالتوافه والخزعبلات!!.

واستغلوا مساحة التدوين الحرة التي انطلقتم إليها من أبواب السماوات الافتراضية المفتوحة، فلا تضيعوا هذه الفرصة في الجدال المذهبي والتنظير العقيم.

وستبقى سفينة التدوين العربي دائما محتاجة إلى المبدعين وأصحاب الخبرة الروحية والمعرفية والتقنية واللغوية والجمالية الفنية العالية. فهم بمثابة الفنار والبوصلة، وهم أيضا المعادل الموضوعي لما يشوب عوالم التدوين من بذاءة وضحالة وركاكة وسخف لكي يعتدل مزاج التدوين العربي العام، وتتوازن سفينته في سيرها الحثيث، فلا تميل بها رياح التنظير ذات الشمال وذات اليسار، ولا ترتد بها إلى الخلف..!!
أم هل أنا إلا ناعق كالعادة بكلمات عابرة…!!

ليست هناك تعليقات: