السبت، 16 فبراير 2008

غزة، حصار فوق الحصار

كتب في يناير 22, 2008

في مثل هذه الأيام من كانون الثاني عام 2006 احتفل الفلسطينيون بعرسهم الديموقراطي الصغير في حجمه الكبير في دلالاته، كما تحدثنا عن ذلك في إدراج سابق.

لكن، يأبى الاحتلال الصهيوني الغادر إلا أن يعبث بجميع الأوراق الفلسطينية السياسية ليعيد الوضع الفلسطيني، في كل مرة، إلى نقطة العدم والصفر، وليمحو أثر كل خطوة إيجابية نحو بناء دولة فلسطينية مستقلة، رغم كل الأيادي الممتدة إلى الكيان المتصهين بالتفاهم والصلح والتعاون.

وقد بدأ مسلسل هذا العبث الذي شاركت فيه أطراف متعددة وفي أدوار مقنعة أو مكشوفة، كما هو معروف، بحرمانها من جني ثمار النجاح السياسي المستحق السابق، ثم بعزلها ومحاصرتها في قطاع غزة، لتصبح هدفا قريبا مقصودا فيما يشبه اللعبة السادية المفضوحة لتفجير كل ما لدى الصهاينة من عقد الحقد والعنصرية.

وقد اجتمع على غزة في أيام الذكرى هذه، وقبل أن ينفض موسم الاستقبالات العربية الحارة لبوش، من كل أشكال التضييق والحصار لون وصنف؛ من حصار الداخل والخارج إلى حصار الجار والغريب، فضلا عن حصار العدو المباشر وتجاهل الصديق.

أولم يكف حكامنا إغراق غزة عدة أيام في ظلام الليل البارد الدامس بلا خبز ولا دفء ولا ماء ولا كهرباء، و حرمان المرضى طريحي الفراش في المستشفيات من بعض الشفاء المتوقف على نبض أجهزة الكهرباء !، فمتى يخرجوا من قمقمهم الذي اختبأوا فيه..!!

ثم متى تتحرك الشعوب العربية والإسلامية في خطوة عملية بدل الركون إلى الصمت والراحة؟؛ أإلى حين تشل الحياة في غزة تماما وتغرق في مجاري أوحالها ليهلك من بقي ومن نجا من نيران الاقتحام والمداهمة والقصف؟ وإلى متى يبقى العالم منخدعا بلعبة السلام وذريعة ( أمن إسرائيل) التي باتت بمثابة القطة المدللة لمعظم بلدان العالم….

فقد علمنا التاريخ أنه عندما أخذ الفرنج (الصليبيون) القدس واستولوا على جزء كبير من الشام سنة اثنتين وتسعين وأربع مائة للهجرة 492 احتاج المسلمون إلى نصر حقيقي يعيد الاعتبار لأنفسهم ولفلسطين والشام والعرب والمسلمين كافة. وهذا ما تحقق لهم بعد زهاء قرن من التهيؤ النفسي والاستعداد الحربي الذي توج بالفتح المبين والنصر المكين سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة للهجرة 583 بعد أن استفادوا من درس التعاون والوحدة.
ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى مثل هذا النصر لتصحيح المعادلة الفلسطينية، وقد كان هذا النصرمنا قاب قوسين أو أدنى في حرب تموز اللبنانية الماضية. وفي الصيف ضيعنا اللبن والغاز والبترول… !!

وقد كان وضع العرب والمسلمين قـُبيل أخذ القدس بيد الصليبين أفدح مما هو عليه حالنا اليوم أو أكثر، كما كان وقع الصدمة على النفوس اليائسة من كل إصلاح في ذلك الوقت كوقع غزة في نفوسنا اليوم لما نراه من حولنا من ترد ومن خور وضعف، رغم كل هذا الكم الهائل من الثروات والطاقات المهدورة عبثا.

وهذا الوضع العربي الجديد القديم هو ما عبر عنها واختزله الشاعر العربي أبو المظفر الإبيوردي في حينه (توفي سنة 507 هج) .

وقد عبر عن ذلك بصدق من خلال قصيدة حماسية قوية تعتبر من أهم القدسيات الشعرية القديمة قبل ظهور الشعر الفلسطيني الحديث يزمان طويل.

ونحن ندرج هنا هذه القصيدة وفي هذه الظروف العصيبة على أهل غزة، فيما يشبه الرسالة إلى كل من يعنيه الأمر، وفيما يشبه الحجة التي ستظل قائمة على جميع حكامنا المتهاونين المتخاذلين إلى أن يستفيقوا من غفلتهم وتصحح الرؤية لديهم، قال:

مزجنا دماء بالدموع السواجــم

فلم يبق منا عَرْصَة ٌ للمراجِــــــــــم

وشر سلاح المرء دمع يُفيضــه

إذا الحرب شُبت نارها بالصــــوارم

فإيهاً بني الإسلام إن وراءكــــم

وقائعَ يلحقن الذُّرا بالمَناسِــــــــــم

أتهويمةً في ظل أمن وغبطـــــة

وعيش كنُوَّار الخميلة ناعـــــــــم

وكيف تنام العين ملء جفونهـــا

على هفوات أيقظت كل نائــــــــــم

وإخوانكم بالشام يُضحِي مَقبلـُهم

ظهورَ المَذاكي أو بطونَ القَشاعم

تسومهم الروم الهوانَ وأنتــــــمُ

تجرون ذيل الخَفْض فعل المُسالــم

وكم من دماءِ قد أبيحت ومن دُمـــى

تـُواري حياءً حُسنَها بالمعاصــــم

بحيث السيوفُ البيضُ مُحمرَّة الظُّبـا

وسُمرُ العوالي دامياتُ اللَّهـــــاذم

وبين اختلاس الطعنِ والضربِ وقفة

تظل لها الولدان شِيبَ القـــــــوادم

وتلك حروبُ من يغِبْ عن غِمارهـا

لِيسلمَ يَقرعْ بعدها سِنَّ نـــــــــــادم

سللن بأيدي المُشركين قواضِبـــــــا

ستُغمد منهم في الطُّلى والجماجـم

يكاد لهن المُستَجِن بطيبــــــــــــــة

ينادي بأعلى الصوت: يا أهل هاشم

أرى أُمتي لا يُشرعون إلى العـــدا

رماحهم، والدينُ واهي الدعائــــــم

ويجتنبون النار خوفا من الـــردى

ولا يَحسبون العارَ ضَرْبــــــــة لازم

أترضى صناديدُ الأعاريب بالأذى

ويُغضي عن ذُلٍّ كماةُ الأعاجـــــــــم

فليتهم إذ لم يَذوذوا حَميَّـــــــــــــة

عن الدين ضنُّوا غيرة بالمَحــــــارم

وإن زهدوا في الأجر إذ حَمِس الوغى

فهلا أتوه رغبة في الغنائــــــــــــــم

لئن أذعنت تلك الخياشيم للبُرى

فلا عَطـَسوا إلا بأجْــدَعَ راغِــــــم

دعوناكم والحرب ترْنو مُلِــحة

إلينا بألحاظ النسور القـَشاعـِـــــم

تراقب فينا غارة عربيــــــــــة

تـُطيل عليها الروم عَض الأباهـم

فإن أنتم لم تغصبوا بعد هــــذه

رمينا إلى أعدائنا بالجرائـِـــــــــم

—–
هامش:
توجد هذه القصيدة في كثير من المصادر التاريخية التي أرخت لحدث احتلال بيت المقدس في العهد الصليبي لقوة هذه القصيدة في التعبير عن هذا الحدث المشؤوم مع بعض الاختلافات اليسيرة في ترتيب الأبيات وفي ضبط الكلمات، كما توجد في ديوان الإبيوردي نفسه، وعنه نقلنا، بتحقيق الدكتور عمر الأسعد، الجزء الثاني الخاص ببقية العراقيات والنجديات، مطبعة زيد بن ثابت 1975م.

واسم الشاعر كاملا: أبو المظفر محمد بن أحمد بن إسحاق المشهور بالإبيوردي، والملقب عند البعض بالمتنبي الصغير. توفي سنة 507هج.

ليست هناك تعليقات: