الجمعة، 15 فبراير 2008

عزلة الكاتب الافتراضي

كتب يوم الجمعة,تشرين الثاني 30, 2007

منذ اللحظات الأولى للإبداع العربي في مجال الشعر والكتابة والفن اعتمدت طرق ملتوية لتحفيز القرائح والخواطر، واستدرار الأفكار من سماوات الإبداع والخيال القصية البعيدة.

وكان من أبرز تلك الطرق الملتوية التوحد بالذات وإرخاء العنان للتأمل والخيال في أحضان الطبيعة اليانعة الغضة أو حتى في غمار الفيافي المقفرة اليابسة، بعيدا عن ضجيج الخلق.
وكأن الإنسان لا يهرب من أخيه الإنسان إلا ليعانق ذاته التي يفتقد ها في معظم الوقت، في زحمة النهار وفي ضجيج الحركة والسير.

ففي لحظة الصمت المطبق قد تتفتق الخواطر عن أكمامها وتنسج الأفكار خيوطها حبرا بمختلف الألوان، أو رسما بشتى الأطياف والظلال، أو غناء بأعذب وأشجى الألحان.

فخروج الأفكار من قمقمها، كخروج قرون الاستشعار من قمقم الحلزون الصخري بعد أن يطمئن إلى صمت المكان. ولا شك أن لأكثرنا ذكريات طفولية خصبة مع الحلزون ومع قوقعته ومع قرون استشعاره العجيبة تلك …

ويحتاج الكاتب، بين الفينة والأخرى، إلى أن يسكت وعيه بالعالم الخارجي لينصت إلى وعيه بذاته وبعالمه الداخلي هو حتى يتمكن من التقاط ترددات الفكر المنبعثة من داخل جمجمته متلونة بهمومه وانفعالاته وانشغالاته التي تتجدد وتتلون بمرور الأيام وبتقلبات العالم من حوله.

وأظن أن بعض الجماجم البشرية ما صغرت إلا لتسع الأرض والعالم والكون كله. وأن بعضها الآخر يبقى في حجم البطيخ العادي، وربما دون قيمته عندما يرتضي لنفسه أن يُسام خسفا في سوق النخاسة، أو يداس تحت الأقدام …

أما اليوم، وبعد أن اكتسحنا الإسمنت والإسفلت، وتوارى عنا شعاع الشمس خلف البنيان الشاهق، فلم يعد ذلك التوحد ممكنا إلا أمام شاشات الحاسوب التي تنعكس عليها أفكارنا وأخيلتنا وأمزجتنا تارة، وينعكس فيها العالم الفسيح أمامنا تارة أخرى.

أن تصبح كاتبا افتراضيا معناه أن تتحمل طقوس التوحد والعزلة الانفرادية الصامتة أمام شاشة الحاسوب المتوهجة التي تنسدل عليها حروف تفكيرك وتخييلك وتعبيرك فيما يشبه غزل الصوف الذي يشع بالدفء والحرارة.

وحده أزيز محرك الحاسوب الذي يعمل على تبريد أجهزته الحساسة يقطع لحظات الصمت تلك، كما هبة الريح في الطبيعة عندما تتجاوب مع الأغصان ومع أوراق الشجر…

والكاتب الافتراضي هو أول من يستشعر متعة الفرح والسعادة بالكتابة في مرحلة البدء، وعند الختام، رغم المخاض العسير، وقبل أن يستقر المقال أو الإدراج على هيأته المخصوصةعندما توضع له نقطة النهاية.

فإذا شاء هذا الكاتب الافتراضي أن يرسل ذلك الإدراج في تلك الصورة الغضة الطرية على الشبكة العنكبوتية ليتلقفه من شاء تضاعفت سعادته أكثر بما يمكن أن يحدثه في نفوس المتلقين من أثر.

الكتابة الافتراضية اليوم، بالنسبة لمن يقدر ها حق قدرها، هي العطاء الصادق الذي لا يرجى من ورائه نفع أو أجر. إنها الكرم المعنوي الأصيل المتبقي في زمن الابتذال الجسدي للرجال قبل النساء، وفي زمن الشح والغلاء.

ليست هناك تعليقات: