الجمعة، 15 فبراير 2008

التفاوت اللغوي في التدوين العربي

كتب يوم الأحد,كانون الأول 02, 2007

كثرت المدونات العربية كثرة هائلة في هذه الأيام، ولم يعد الوقت يكفي إلا لتصفح القليل منها.
وإن كثرة المدونات لا تعني بالضرورة ارتفاع الوعي بجدوى التدوين وبفاعليته وبقيمته داخل المجتمع العربي، إلا في الحد القليل المفيد منها مما يمكن أن يبقى مع مرور الوقت، ويصمد في وجه عمليات الفرز والتخير والغربلة، إذ لا يصح في نهاية المطاف غير الصحيح؛ فالعبرة دائما تكون بخواتم الأمور لا ببداياتها رغم الصعوبة المقررة لكل بداية.

فكثير من المدونين تعثرت أقدامهم مع أول إدراج يتيم أرسلوه، ومنهم من نفدت مواد كلامهم وانقطع حسهم بسرعة بعد مضي شهر واحد أو شهرين…. وكأن أقصى ما يتمناه بعض من التحقوا بقطار التدوين تسجيل حضورهم العابر على الشبكة العنكبوتية، لا مواصلة رحلة التدوين حتى تنضج وتبلغ أقصى غاياتها الممكنة..

إن انتظام حضور المدون الراشد الواعي بذاته وبمحيطه، على الساحة العنكبوتية يشعره في كل يوم بمزيد من المسؤولية، ويحثه دوما على النقد الذاتي والمراجعة التصحيحية ليفيد ويستفيد…

كما أن التماسك اللغوي في الإدراجات أو في عموم المدونة يدل على التماسك الفكري والترابط المنطقي لنهج صاحب المدونة ذاته، وعلى وضوح الرؤية بين عينيه، وعلى عمق الخبرة لديه لأن صحة التفكير من صحة العبارة، كما أوضحنا سابقا في كثير من الإدراجات التي خصصناها لقضايا التدوين.

ومع الأسف الشديد فإن التفاوت اللغوي في عالم التدوين العربي يبقى الظاهرة البارزة التي تؤشر على خلل كبير نتساهل في شأنه ونتسامح في حقه في كل يوم، وقلما نبه أحدنا إليه.

ولقد قرأت كثيرا من مدونات الإخوة (المغاربيين) باللغة الفرنسية فوجدتها أكثر انتظاما في خطها اللغوي ونهجها الأسلوبي، وكأنها صادرة عن شخص واحد أجنبي يتقن أصول لغته…

وفي الوقت نفسه أقرأ كثيرا من المدونات العربية المشرقية والمغربية، فأجد التفاوت اللغوي فيها حاضرا بقوة يكاد يقطع أوصالها ويجعل منها جزرا مفككة معزولة، وكأنما كتبت بلغات عربية متعددة.

ولعل استشعار صعوبة التدوين باللغة العربية هو الذي يدفع بكثير من المدونين العرب إلى الكتابة بالإنكليزية أو الفرنسية أو بغيرهما من اللغات العالمية، رغم أن حظهم من تعلم العربية كحظهم من تعلم باقي اللغات، سواء بسواء، إن لم يكن أكثر…
وهذا مع استثناء تلك الفئات االعربية المتنفذة من حيث السياسة والوجاهة التي اختارت أن تـُمحى شخصيتها العربية وأن تذوب كليا في التغريب حتى ارتضته منهجا عاما في سلوكها الحياتي والفكري واللغوي…

وهناك طائفة أخرى وسطى من المدونين العرب تكتب في الظاهر باللغة العربية، غير أن تفكيرها في الباطن، يكون بلغة أجنبية. ومن هنا فإن كثيرا من المدونات العربية تكاد تكون نسخا لبعض المدونات الغربية النمطية، أو ترجمة حرفية ركيكة لكثير من الجمل الإنجليزية أو الفرنسية المتداولة، على غرار كثير من القنوات الفضائية العربية وبرامج تلفزيون الواقع التفاعلية التي غزت البيت العربي، وبدأت تعمل على خلخلة ثوابته وتفكيكه، هو الآخر، من الداخل والخارج….
فالتفكير بلغة غير الكتابة عن ذلك الفكر نفسه بلغة أخرى، وحتى في مجال فن الترجمة الخالص فإن الأمر يقتضي أن تكون معرفة المترجم بلغة الانطلاق كمعرفته بلغة الوصول سواء بسواء.

فالمعروف، ولتوضيح هذه الفكرة أكثرحول هذه المفارقة اللغوية في التدوين العربي، أن للجمل الإسمية والجمل الفعلية العربية قوانين خاصة تضبطها. ويأتي على رأسها القانون الذي أطلق عليه النحاة اسم “الصدارة”؛ ومعناه: أن الفعل في الجملة الفعلية سابق دوما على الفاعل وأن المفعول به متأخر دوما عنهما، وكذلك الأمر في الجملة الإسمية حيث يتأخر الخبر عن المبتدأ، ولا يجوز تأخير ما حقُّه أن يقدم إلا لأمر بلاغي خاص.

ومع الأسف، ومع أن أكثرنا يحفظ كثيرا من قواعد الجمل العربية الفعلية والإسمية، فإن قانون الصدارة هذا مخترق إلى أبعد الحدود في كثير من المدونات العربية، بل قد لا يـُعتد به نهائيا. مما يجعل منها امتدادا للمدونات الأجنبية ومفتقدة للخصوصية العربية الأصيلة، ومن هنا منشأ هذا الاختلاف والتفاوت اللغوي بينها.

وأما إذا تحدثنا عن قانون الوصل والفصل الذي يحكم نظام الجمل والفقرات العربية فحدث ولا حرج، بحيث تبدو بعض الإدراجات ككتلة عشوائية من الخيوط الكلامية المتشابكة التي لا يعرف طرفها الأول من الثاني. وكأن صاحبها يكتب في الأصل جملة واحدة أفقية من أول السطر إلى نهايته، أو من بداية الصفحة إلى نهايتها، بحيث يستحيل مع هذا الوضع اللغوي المتراكم تبين الحدود بين جملة وجملة، أو بين فقرة وأخرى.

فالأصل في الكتابة العربية، أن تكون الجمل فيها قصيرة ومفيدة بذاتها و بغيرها بحكم السياق العام، مع تجنب الجمل الاعتراضية والحشو اللفظي قدر الإمكان.

ومما زاد من استفحال أمر التفاوت، هذا، التأثير المتزايد للهجات المحلية في التدوين العربي، بحيث يعمل كل مدون على تغليب لهجته بوعي أو يدون وعي. ومن أبرز مظاهر ذلك خلو عبارات كثير من المدونين من إعراب أواخر الكلمات بشكل كلي أو جزئي، وفي بعض الأحيان كتابتهم لبعض الكلمات كما تنطقها العامة في البيت أو الشارع. ومن هنا أيضا، تتولد المفارقة الكبرى بين المخطوط والملفوظ في التدوين العربي. فكثير من المدونين يكتبون الكلمات كما تـُسمع لا كما ينبغي لها أن تكتب استنادا إلى القواعد العربية المضبوطة.

أما عن قواعد الإملاء والصرف فحدث ولا حرج، إلا عند من استقام لسانه بكثرة القراءة وممارسة أسلوب التصحيح الصارم أثناء الكتابة وبعدها حتى يخلصها على الوجه المطلوب.. .

ومما لا شك فيه أن امتلاك ناصية التعبير اللغوي العربي الفصيح السليم أمر شاق. وقد يحتاج إلى تمرس طويل بقراءة النصوص والمتون العربية السليمة الصحيحة قبل حفظ القواعد والنظريات.

ومع الأسف الشديد فإن تعليم اللغة العربية في المؤسسات العربية العمومية يبقى عاجزا عن إنتاج النمط اللغوي التعبيري الفعال، بسبب غلبة جوانب التنظير العقيم والبيداغوجيا الجوفاء على جوانب التطبيق والإنتاج الخلاق. وكأن كل عملية تعليمية عندنا تهدف فقط إلى جلب النجاح في حدوده الدنيا المرتكزة فقط على الحفظ والاستظهار:( بضاعتنا ردت إلينا)، فأنى لها إذن أن تبث في المتعلم روح الفاعلية والانتاج …؟؟

ولو عرضنا على هذا المتعلم نصوصا منوعة بقدرما نعرض عليه من القواعد والنظريات لكان حال اللغة العربية على ألسنة الشباب من المدونين غير الحال.

وأنا هنا لا أقلل من قيمة أي مدونة كيفما كانت، لأن كل مدونة تحمل بين طياتها إشارة ما تتطلب نوعا خاصا من الدراسة والانتباه.

وإنما نطمح فقط إلى تحقيق نوع من الانتظام والوحدة والتكامل داخل لغة التدوين العربي، كما كان الحال في كل الكتابات العربية القديمة. وذلك حال يصعب معه تمييز مجموعة من الكتاب في المشرق أو المغرب عن مجموعة أخرى إلا على مستوى ما يمكن أن يقع بين تلك المجموعات من تفاوت في ارتفاع مستوى جودة التعبير وجماله، لا في تواضعه واختلاله …

ليست هناك تعليقات: