الجمعة، 15 فبراير 2008

أثر الشعر العربي الفصيح بين الأمس واليوم

كتب يوم الخميس,تشرين الثاني 22, 2007

كان أثر الشعر في زمن القريظ العربي الأول كبيرا لا تحده حدود. والأمثلة على ذلك كثيرة وممتدة في تاريخ الشعر العربي منذ بداياته الأولى. ومن ذلك هذه الحكاية المؤثرة التي رويت عن العباس بن الأحنف؛

والعباس بن الأحنف من فحول الشعر العربي القديم، وله سهم كبير في باب الغزل والنسيب. ومع أنه شاعر مؤثر في الناس بشعره الرقيق فقد كان شديد التأثر بما يسمعه من شعر غيره أيضا، فكان إذا سمع الجيد منه ترنح بجسمه واستخفه الطرب.
وفي رواية عن أبي إسحق بن إبراهيم الموصلي قال: (جاءني يوماً فأنشدته لابن الدُّمَيْـنَة شعراً: ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد… فتمايل وترنح وطـَِرب وتقدم إلى عمود وقال: أنطح هذا العمود برأسي من حسن هذا الشعر، فقلنا له: ألا ارفق بنفسك..!!).

وأنا، في هذا الإدراج القصير، لست بصدد المقايسة بين حال الشعر والشعراء في زماننا هذا، وبين حال ابن الدمينة أو العباس بن الأحنف، على مستوى ما ينبغي أن يكون للشعر من أثر في حياتنا الخاصة والعامة أيضا، كما كان واقع الحال سابقا.

صحيح، كما يقال: إن لكل عصر صوت غير الصوت، وآذان غير الآذان، وأحوال غير الأحوال. ومع ذلك فإن المقصود الأسمى من الشعر، كما كل منتج بشري فني إبداعي، أن يكون له امتداد طبيعي في كل زمان ومكان. لأنه بكل بساطة نتاج كائن مفرد هو الوحيد من بين جميع المخلوقات الذي يقبل الوحدة والتعدد والتمدد في الزمان والمكان. وهذا الكائن هو المدعو في لغتنا العربية باسم: الإنسان.

وأنا أريد في هذه اللحظة فقط، أن أنبه إلى حالة الفتور الشعري التي تسود عالمنا الثقافي العربي اليوم، وإلى واقع الجفاء الذي يطبع علاقة الشعراء مع عموم القراء والمتأدبين والمثقفين والمتلقين بشكل عام …

ترى، كم بقي للشعر من نصيب داخل دوائر اهتمامات جماهير العرب في عصرنا هذا من المحيط إلى الخليج، خاصة بعد أن تفرقت بنا السبل، واخـُترقت طبقة الأوزون الثقافية العربية، إن صح لنا هذا التعبير، فكان من أمر ذلك كله ضياع صوت الشعر في خضم طوفان الصور والمعلومات الرقمية التي تغمرنا من كل حدب وصوب.

وأنا هنا، أكاد أجزم بأن الناس في عصرنا ما عادوا يقرأون غير الصور.
وحتى نجدد العهد ببعض أصداء الشعر العربي المترددة بين الحنايا والضلوع التي تشبه قيثارة العود المرتعشة، يسرني أن أقدم لكم أبيات ابن الدمينة التي أثرت في شاعرنا الكبير العباس بن الأحنف:
ألا ياصبا نجدٍ متى هِجت من نجد
فقد زادني مَسراك وجْدا على وجدي
أإن هتفت ورقاءُ في رونق الضحى
على فنَنٍ غض النبات من الرَّنـــــــد
بكيت كما يبكي الحزين صبابـــــة
وذبت من الشوق المبرِّح والصـــــد
بكيت كما يبكي الوليد، ولم تــــكن
جَزوعا وأبديتَ الذي لم تكن تبـدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنــــــا
يمَلُّ وأن النأي يُشفي من الوجْــــد
بكلٍّ تداوينا فلم يشف ما بنـــــــا
على أن قرب الدار خير من البعـــد
ولكن قرب الدار ليس بنافـــــع
إذا كان من تهواه ليس بـــــــذي وُد

فهل حق للعباس بن الأحنف، في زمنه الشعري ذاك، أن ينطح العمود بسبب شاعرية ابن الدمينة… !!

ليست هناك تعليقات: