السبت، 16 فبراير 2008

حكايات هامشية 2

كتب يوم يناير 29, 2008

الحلقة الثانية: مفاهيم أولية.

لو سألني أحدكم: ما هو أقصر تعريف لأطول حكاية من الحكايات الكلامية لأسرعت وأجبت: إنه بكل بساطة لعبة توليد الكلام من الكلام بالكلام.

ما أروع هذا الكلام البشري إذا، عندما يبدأ في التململ والتمدد من تحت اللسان ( المرء مخبوء تحت لسانه ) ليستوعب في عباءته الفضفاضة ما لا تستطيع أن تراه كثير من الأعين المجردة المبحلقة كالمشدوه المعتوه في البياض والفراغ، أو تدركه كثير من العقول الخاملة التي لا تستطيع أن تستيقظ من الغفلة والنوم والضياع رغم الوخز الشديد ورغم التكرارفي كل مرة بالتشديد والإلحاح.

وما أقدر سحر الحكاية وهي ابنة الكلام بالشرع أو التبني حين تستطيع أن تصنع من لاشيء أي شيئ، ومن شيئ شيئا يشبه الشيء أو اللاشيء ( أعتذر لكم عن لغة التشييء وما قد ينتج عنها من تشويش )، ومن الحبة قبة، ومن القبة حبة، ومن القملة بقرة ومن الفيل نملة، ومن حبة شعير نخلة مثمرة ومن زهرة الياسمين خشخاشا أو حنظلة…

ما أجمل سحر الكلام وما ألطفه وما أوسخه وما أقذره، وما أعظمه وما أتفهه… ، ومع كل هذا وذاك من نقائص الكلام فإن من أمر بيانه لسحرا…

والشيء العجيب والغريب في أمر الكلام عند العرب أن يشبهوه بالماء، ربما لأن لديه قابلية التحول إلى ما يشبه عنصر الماء عندما يكون في وضعه الطبيعي الخالص الصرف عاريا من صفات الألوان والأطعمة والأذواق والروائح المضافة إليه لاحقا.
ومع أن الماء بلا ملامح ولا صفات معلومة يمكن أن تعرف أو تذكر، فإنه يبقى الأصل الأول لكل لون حي أو جامد في الطبيعة كلها، ولكل مأكول أو مشروب أو مشموم مما لا يمكن أن يعد أو يحصى من الأشكال والأصناف والألوان لدى جميع الناس على هذه الكرة الأرضية العجيبة التي نشترك جميعا في مائها وهوائها وترابها كل حسب حظه ونصيبه وبخته أو استئساده واستذئابه واستنعاجه.

وكما يجوز لنا أن نتحدث عن تلوث الماء عندما يتجرد من صفات الشفافية والنقاء، يمكن أيضا أن نتحدث عن تلوث ماء الكلام عندما يمتزج بصفات الغش والمكر والدهاء؛ فكل إناء من الكلام بما فيه يرشح أو يقرأ ويشرح. وهذه مدوناتنا العربية التي تدل علينا بمثابة الأوعية الجديدة لمياه الكلام العربي الكثير الغزير المتدفق على مدار الساعة…فأين منه العذب المستساغ، وأين منه الملح الأجاج؟؟!!

وكل ما يتحرك على الأرض أو في البحر والجو أو على أسلة اللسان عندما نهم بالكتابة والبيان يترك وراءه أثرا باقيا؛ ومن الأثر ما يكون بنكهة الريح ومنه ما يكون بنكهة الطين والتراب ومنه ما يكون بنكهة لفح النار وبنكهة سم الأفاعي الرقطاء، ومنه أيضا ما يكون بنكهة ضجيج الجنادب وضوضاء الصراصير في عز الليالي الصيفية المقمرة، وحتى بنكهة وخز الذباب الخريفي الجائع عندما يعلوا أرانب أنوف الطغاة والملوك والجبابرة بجرأة ووقاحة…هل تتذكرون قصة (القاضي والذباب) …؟!!
وربما لهذا السبب قالت العرب في أمثالها ( أشجع من ذباب )؛ لأن الذباب في عالمنا العربي هو الوحيد الذي يتجرأ على اقتحام خلوة حكامنا الميامين وحتى على وخز أنوفهم الشامخة الضاربة في عنان السماء كالأبراج العالية التي تحجب من ورائها ضوء الشمس عن بقية الناس والعباد الذين يفترشون الرصيف، ويتكدسون في الهوامش وفي دورالطين والقش أو في علب القصدير والصفيح.

ولكن، ومع كل ما قلناه من محاذير، قد يصبح الحكي في بعض الأحيان ضرورة قصوى لإثبات الوجود، بل وحتى للمقاومة والبقاء على قيد الحياة فيما يشبه الثورة الهادئة اللطيفة التي قد لا تثير غبارا أو زوبعة، فضلا عن أن تسعف بشيء قليل أو كثير في الإطاحة بعروش الطغاة والجبابرة. غير أنها من شدة رقتها ونعومتها ولطافتها تستطيع أن تسقط ثمرة ناضجة تلذ في المذاق وتنعش عروق الذاكرة وتضخ بعض الدم الحار في شرايين الفهم والنباهة المتكلسة.

وفي حكايتنا العربية القديمة للألف ليلة وليلة استطاعت شهرزاد الأسيرة في قصر شهريار أن تفتنه وتذهله عن نفسه وعن حاجته النفسية الملحة إلى قتلها، ليس بغواية جسمها الفتان ولكن فقط بلعبة الحكي وقدرتها الفائقة على نسج خيوط الكلام..
وهكذا كان ما كان من أمرها المشهور في جميع الآفاق والبلدان حتى غلبت جاذبية سحر كلامها على جاذبية رغبة شهريار في الانتقام، فوقع في سحر كلامها أسيرا خانعا ذليلا بدل أن تكون هي المأسورة والمستسلمة لمصيرها المحتوم.

ولو توقفت شهرزاد في ليلة واحدة عن الحكي وعن الكلام الصريح المباح وغير المباح لما كان لها أصل في هذا الوجود ولما….

معذرة عن هذا التوقف الطارئ لانقطاع مادة الحكي والكلام من المصدر، أو ربما لأنني أشعر أن سحر الكلام يحاول أن يمغنطني ويسحرني ليأخذني إلى حيث لا أقصد من وراء هذا الكلام. .
ولو أذعنت واستسلمت واسترسلت لخرجت عن حدود النطاق المرسوم لهذا الإدراج ولنسيت جوهر حكايتنا عن (السرحة) المنسية…/ ….

تابعونا وانتظرونا في الحلقة التالية.

ليست هناك تعليقات: