السبت، 16 فبراير 2008

التدوين العربي بين الخفاء والتجلي

كتب في فبراير 11, 2008

من الطبيعي أن تكون أكثر المدونات العربية انكشافا أمام القراء والزوار تلك التي تحمل أسماء أصحابها الحقيقيين، وقد تكون فوق ذلك معززة بصورهم الشمسية، وبمختصر عن سيرهم الذاتية.

والانطباع الأول الذي توحي به هذه المدونات المكشوفة بالاسم واللقب والكنية، أو بالمهنة والشهرة، أو بالبلد والمدينة أو حتى بالحي والقرية، أنه ليس وراءها من الغبار ما يمكن أن يترك ولو قدرا ضئيلا من التوجس أو الريبة حول صحة نسبتها إلى أشخاص معينين بلحمهم وشحمهم، معلومين في الزمان والمكان العربيين.

غير أن ما يتكون لدينا من أفكار أولية عن هؤلاء المدونين المعروفين بنفس الأسماء والصفات المثبتة في أوراق هوياتهم لدى وزاراتنا العربية في الأمن والداخلية قد لا يتوافق بالضرورة مع ما يمكن أن يستقر في أذهاننا - كمتلقين افتراضيين - من أفكار وقناعات نهائية عند الفراغ من القراءة والتمعن في محتويات مدوناتهم المكتوبة أو المصورة.

فكثيرا ما تتلاشى معرفتنا الأولى بأصحاب المدونات إذا لم تترسخ صور مدوناتهم، وليس صور وجوههم، في الأذهان بالرغبة في تكرار الزيارة، وبما يعزز تلك الرغبة ويقويها في كل مرة من الجديد الممتع والمفيد الذي يحفزنا تلقائيا ومن غير سابق معرفة شخصية بأصحابها الحقيقيين على التفاعل مع مدوناتهم بإبداء الرأي والتعليق الذي قد يتطور مع الوقت إلى نوع من المحاورة الفكرية المثمرة والألفة الافتراضية، لأن مصافحة العقول للعقول أبقى وأرسخ في العادة من مصافحة الأيادي للأيادي، ومن كل النظرات العابرة عند التقاء العيون بالعيون…

وربما تردد كثير من المدونين في الإعلان عن أنفسهم منذ الوهلة الأولى حتى يزول عنهم هاجس الشك والخوف، فإذا اطمأنوا إلى ثقة القراء وإطراء المعلقين وعداد الزوار حسن ظنهم بمدونتهم وانتقلوا من طور السرية إلى العلانية ليـُكشف عنهم الغطاء ويـُدرجوا في خانة المدونين المعلومين، ويقطعوا دابر الشبهة باليقين.

وكان الجاحظ من المؤلفين الأوائل الذين لبسوا قناع التنكر المعرفي قديما؛ فكان يعمد إلى توقيع مؤلفاته الأولى بأسماء مستعارة حتى إذا اطمأن إلى حسن ظن الناس بها عاد مرة أخرى فنسبها إلى نفسه بثقة تامة.

وقد يرجع السبب في تنكر بعض المدونين بالأقنعة المستعارة إلى بعض النوايا المبيتة المشينة أيضا للتغرير بالسجذج وأصحاب النوايا الطيبة الذين يتصرفون على سجيتهم من فرط ثقتهم العمياء بالناس، وربما حتى بمن سبق له أن لدغ من الجحر الواحدعدة مرات، فكثير من هؤلاء قد رصدوا مدوناتهم شباكا للصيد في ظلام الليل عن سابق إصرار وترصد، فحال هؤلاء كحال الخفافيش المتعلقة بأرجلها دوما إلى تحت في عتمة دهليز أو كهف مظلم.

ومن المدونين من يفضل أن يترك مدونته غـُفلا بلا ملامح واضحة اختيارا وليس اضطرارا، إما من باب الاحتياط والتقية المفرطة، وإما لدرء الشبهة عن نفسه، أو ليقطع الطريق عن أي أحد من الناس يمكن أن يواجه في يوم من الأيام في مقهى أو في الشارع العام بهذا السؤال: هل أنت فلان صاحب المدونة الفلانية…؟ !

وربما قد يكون هذا التنكر ناتجا عن عوامل خارجية متمثلة في النظرة المريبة إلى واقع التدوين في عالمنا العربي، وإلى غياب الثقة التامة لدى كثير من الناس في محتويات الإنترنت؛ فما يبني في العوالم الافتراضية من صداقات وعلاقات وارتباطات قد يكون لدى كثير من الناس في عالمنا العربي محض توهم، انطلاقا من القاعدة المنطقية الصورية: ما بني على باطل فهو باطل، وما بني على وهم فهو وهم، وإذا فما بني على افتراض فهو محض افتراض.

وأنا بهذا المنطق صرت الآن أشك في نفسي، وأن أناملي التي تنقر حروف هذا الإدراج مجرد افتراض.. !!، بل وربما تكون يدي كلها قد أصبحت امتدادا لجهاز الحاسوب الافتراضي وليس لجسمي، وأن ما يسري فيها فقط بعض التيار الكهربائي السالب الذي يجري من محيط الحاسوب إليها، وأن لا أثر فيها لنبض الحياة المتدفق إليها دما حارا من قلبي وكبدي وبقية جوارحي عبر العروق، ولا حتى أدنى بصيص لضوء الفكر الواصل إليها عبر الأعصاب قبل أن ترقنه تلك الأنامل حروفا منسدلة على الشاشة.

ونحن قد نختلف أو نتفق حول هذا الكلام الذي يخص جدل التدوين بين ما هو خفي وما هو واضح وجلي، وبين ما هو حقيقي وما هو محض وهم أو افتراض، ولكن الحقيقة الثابتة بخصوص هذه الإشكالية المعقدة التي لا يمكن أن ينكرها أو يتنكر لها أي واحد منا هي أن آليات التتبع والمراقبة الإلكترونية تسمح في كل وقت بالتعرف الدقيق على جميع المسارات الرقمية وعلى كل تفرعاتها المتشعبة داخل الشبكة العنكبوتية التي ينتهي عند طرفها وجود موقع أو مدونة أو حتى أي حاسوب عادي موصول بالأثير الافتراضي.

وهنا، وفي هذه الحالة فقط يسقط الوهم المتكون لدينا عن العوالم الافتراضية المتشابكة التي يصح لنا أن نشبهها ببيت العنكبوت المتشابك أيضا؛ ليس فقط من جهة تشابك الخيوط فقط وإنما أيضا لأن أجهزة التجسس والاستشعار الإلكترونية المرصودة لتتبع حركة أصحاب المواقع والمنتديات والمدونات، وحتى لعموم الزوار والمتصفحين العاديين تقوم بما يشبه عمل أجهزة الاستشعار الطبيعية لدى العنكبوت عند ملامسة إحدى الحشرات أو الهوام لخيط واحد من خيوطها التي سرعان ما تلفها عليها بسرعة فائقة لا تملك لها دفعا ولا مقاومة…

وهذا ما قد يحدث معنا أيضا إذا ما دق أصحاب المخابرات في الأمن القومي والعالمي في يوم موعود للرصد جرس الباب.

وعندها فقط نفيق من الوهم الإلكتروني لنقول لأنفسنا: صح النوم عن الحقيقة الافتراضية العربية إذا ما قدر لها أن تحرك خيطا واحدا من خيوط الاستشعار لدى وزاراتنا العربية في الداخلية لتنبري إلينا نحن معشر المدونين المستضعفين وتطوقنا بأذرعها الأخطبوطية الحديدية… !!

ليست هناك تعليقات: