الأربعاء، 13 فبراير 2008

فن الاقتباس وصلته بالإبداع

كتب يوم الخميس,تشرين الثاني 16, 2006

الاقتباس هو اقتطاع جزء من كلام سابق ليلتحم بسياق كلام آخر لاحق.
وأصعب شيء على الكاتب أو المدون التوفيق بين كلامه وكلام غيره؛ بحيث لا يبدو بعيدا عنه بمسافة طويلة.

وكثيرا ما أكتشف داخل فصول الجامعة أن أساليب الطلبة في كتابة مقدمات أبحاثهم وعروضهم تكون نازلة بقدر كبير عن مستوى متن البحوث أو العروض التي أنجزوها. فتكون معاناتي في تصحيح وتصويب المقدمات والخواتم على صغرها وضآلة حجمها أكبر بكثير من تصحيح المتون على كبرها و ضخامة حجمها. وكل ذلك لأن الطالب عند كتابة المقدمة أو الخاتمة يكون وجها لوجه أمام نفسه وعقله، وليس أمامه أو وراءه ما يسنده إلا الاتكال على مجهوده وقريحته. ومن هنا فإن أكثر عيوب الطالب تتركز في مقدمات وفي خاتمة بحثه أو عرضه. أما داخل المتن فهو مدعوم بالشواهد والاقتباسات، ولذلك قد تراه يصول ويجول في متن البحث كالخيل المتحررة من عقالها. ولكن إذا ألجأته إلى مضايق المقدمات والخواتم انكشف على حقيقته وظهرت لك زلاته وسقطاته.

والاستعانة بكلام الآخرين أمر مرغوب ومطلوب في كثير من الأحيان. ولكن، ليس على وجه الغصب والسَّرَق كما كان يفعل الفرزدق مثلا الذي اشتهر في أوساط النقاد بغصب الشعر على أصحابه الأحياء والأموات قهرا وغلبة، واعتدادا بقوة الشاعرية لديه، وليس على وجه القص واللصق كما يفعل كثير من الكتاب والمدونين اليوم، وقد عالجنا ذلك في إدراج سابق، وإنما على وجه الانتظام والتكامل بين مجهود سابق وآخر لاحق.
فالاقتباس بمعناه الإيجابي ملمح من ملامح التواصل بين الذوات، وثمرة من ثمار التلاقي والتلاقح بين العقول.

وقد كان للقدماء من الكتاب العرب والشعراء تصرفات عجيبة في هذا الشأن لسعة محفوظهم، وغزير اطلاعهم ومعرفتهم بأسرار المعاني عند تقليب وجوهها المختلفة؛

وبعض المعاني تزداد وضوحا وتأثيرا بتحريكها ونفض الغبار عنها، والتصرف فيها عند تحريرها من سياقها الأول ونقلها من مكان إلى مكان، ومن غرض إلى غرض، ومن مقام إلى مقام.

والاقتباس في الشعر هو الأعقد من كل الاقتباسات بسبب ضائقة المعنى وضائقة اللغة وضائقة الوزن وضائقة القافية. ومع ذلك لم تمنع هذه الضوائق والإكراهات المحيطة بالشعراء من التجويد والتفنن للوصول بصنعة الاقتباس أقصى غايات الانتظام والكمال والجمال، كما في هذه النماذج المختارة، وقد بينا مواضع الاقتباس من خلال اللون الأحمر:

النموذج الأول، وينسب إلى ابن حجر العسقلاني، قال مقتبسا من القرآن الكريم:
خاض العواذل في حديث مدامعي
لما جرى كالبحر في سرعة سيره
فحبسته لأصون سِرَّ هواكـــــــــم
حتى يخوضوا في حديث غيــــره

النموذج الثاني، وهو للشاعر الخباز البلدي، وقد قاله مقتبسا من القرآن الكريم أيضا:
سار الحبيب وخلف القلبــــــــــا
يبدي العزاء ويظهر الكربــــــــــا
قد قلت إذ سار السفين بـــــــــه
والشوق ينهب مهجتي نهبــــــــــا
لو أن لي عزا أصول بــــــــــه
لأخذت كل سفينة غصبـــــــــــــا

وكقول الآخر مقتبسا من القرآن أيضا:
إن الذين ترحلـــــــــــــــــــوا
نزلوا بعين ناظــــــــــــــــــــــرة
أسكنتهم في مقلتـــــــــــــــي
فإذا هم بالساهــــــــــــــــــــــــرة

وكقول الآخر أيضا مقتبسا من القرآن العظيم:
جاءني الحِبَُ زائـــــــــــــرا
وعلى مهجتي عطــــــــــــــــــف
قلت: جد لي بقبلــــــــــــــــة
قال:
خذها ولا تخـــــــــــــــــف

وكقول العفيف التلمساني مقتبسا من علم الصرف:
ياساكنا قلبي المُعنـــــــــــــى
وليس فيه سواك ثانـــــــــــــــــي
لأي شيء كسرت قلبـــــــــي
وما
التقى فيه ساكنــــــــــــــــــان

وكقول الآخر مقتبسا من علم العروض:
وبقلبي من الجفاء مديـــــــــد
وبسيط ووافر وطويـــــــــــــــــل
لم أكن عالما بذاك إلـــــى أن
قطع الليل بالفراق
الخليـــــــــــــل

والأمثلة من هذا النوع أكثر من تحصى أو تستقصى، في كلام الشعراء والكتاب. ولعل رسالة ابن زيدون الأندلسي التي كتبها على لسان ولادة بنت المستكفي أوضح مثال على فن الاقتباس المنثور. وقد استوعب فيها عددا هائلا من الإشارات والاقتباسات المناسية لسياق رسالته.

ليست هناك تعليقات: