الأحد، 17 فبراير 2008

القراءة الورقية والقراءة الافتراضية

القراءة في مفهومها التقليدي تعني تلك العملية الذهنية البصرية التي نقوم بها لاسترجاع معلومات مخزنة سابقا في أرشيف المخطوطات أوالمطبوعات.

وتتطلب أية قراءة بصرية عادية التوفر على جملة مبادئ ومعارف أولية لفك شفرة أبجدية لغة واحدة أو أكثر من بين عدد هائل من اللغات العالمية، قبل أي عملية فهم أو دراسة أو تحليل أو مقارنة لمحتوياتها ومضامينها الغزيرة.

وهذا المفهوم البسيط للقراءة العادية ينسحب أيضا على القراءة الافتراضية التي تقوم أيضا باسترجاع المعلومات المخزنة، لكن ليس في الكتب والدفاتر والمطويات وإنما في الأقراص والرقائق الإلكترونية ذات القدرة الهائلة وغير المحدودة على الحفظ والاستيعاب أو على الشبكة المعلوماتية، مع فارق نوعي في طريقة الاسترجاع.

فالاسترجاع الافتراضي لا يتم عبر التصفح اليدوي للورق وإنما باستخدام مجموعة مترابطة من أجهزة وبرامج التخزين والعرض والأرشفة الرقمية الآلية الدقيقة المنظمة التي تتطلب خبرة معينة بلغة البرمجة وعلوم الحاسبات الآلية.

غير أن خيارات القارئ الورقي المتاحة أمامه للمناورة تكاد تكون منعدمة تجاه الكتب والمطبوعات الورقية، وخاصة عندما يكون في وضعية الإذعان والاستسلام الكامل لما يقرأه.

وبما أن ما طـُبع على الورق قد طـُبع على وجه الثبوت وبقرار نهائي لا رجعة فيه كالميسم على ظهر البعير، فلا مجال البتة إلى زحزحة ولو حرف واحد من مكانه، إلا ما يمكن أن يضيفه بعض القراء بعد ذلك بخطوط أيديهم في حواشي الصفحات من تعليقات أو توجيهات أو تصويبات أو استدراكات.

وقد احتفظت لنا المخطوطات العربية القديمة بحواشي كثيرة تراكمت على نصوصها ومتونها مع مرور الزمن حتى أصبحت في حجم الكتاب الأصلي أو أكثر في بعض الأحيان، وقد جُمعت تلك الحواشي لاحقا في كتب قائمة بذاتها، وصار كثير منها معروفا لدى أصحابها المتخصصين مثل حواشي ألفية ابن مالك المشهورة عند النحاة على سبيل المثال.

وحتى الكاتب الأصلي نفسه لا يملك تجاه ما أصدره من كتب أو مطبوعات أدنى رد أو مراجعة إلا عبر طبعة أخرى منقحة، أو بقرار السحب والمصادرة. أما أنا فقد راجعت هذا الإدراج بعد إرساله على الشبكة عدة مرات بالتشذيب والتنقيح حتى استوى على صورته النهائية التي يحسن بها ظني ويطمئن إليها قلبي. ولو اقتضى الأمر أحيانا إضافة علامة واحدة من علامات الترقيم، أو شطب كلمة مكررة، أو الفصل بين كلمتين التصقتا أو تباعدتا سهوا عند النقر على أزرار لوحة المفاتيح.

وتلك عادتي في الكتابة الافتراضية؛ لأني أرى فيها مشروعا مفتوحا على الدوام بين الكاتب والقارئ للبحث والتنقيح والتجديد، فكثيرا ما نبهتني تعليقات الزوار الكرام إلى أخطائي، وساعدتني في إعادة التوجيه والتصويب، بل كثيرا ما فتحت لي بعض التعليقات الجادة التي أطالعها على مدونتي ومدونة غيرى نوافذ جديدة للبحث والتأمل الذي قد يتولد عنه موضوع جديد لم يكن ليخطر لي على البال.

وعندما أستخرجُ من مكتبة الكلية بعض الكتب المُعارة إلى طلبة فصول الإجازة فإن أول ما يثير انتباهي تعليقاتهم وانطباعاتهم الشخصية العفوية التي يثبتونها في حواشي الكتب أو بين سطورها بالحبر الجاف أو بقلم الرصاص، وقد يكتفي بعضهم بتسطير بعض الجمل والفقرات ذات صلة بما ينجزونه من فروض وعروض وأبحاث، ومنهم من يكتفي بثني جانب من الصفحة أو دس خيط أو قطعة ورق صغيرة في ثنايا الكتب كعلامة بسيطة على تميز مضمون صفحة معينة من كتاب ما قد يُرجع إليه لاحقا عند الحاجة.

وعموما فإن الآثار التي يتركها المراجعون للكتب من الطلبة وعموم القراء على الكتب المودعة في مكتبات الكليات وفي المكتبات العمومية، أو حتى تلك التي باعها أصحابها في أسواق الكتب العتيقة لا تقدم إلا مؤشرات ضئيلة لقياس درجة وطبيعة التلقي عند فئة معينة محدودة من القراء الورقيين، رغم طرافتها وغرابتها وأهميتها في بعض الأحيان.

وبما أن الكتابة الافتراضية التي تكون في مدونة أو في موقع تتيح لصاحبهما الذي يمتلك سر الولوج إليهما إمكانيات هائلة للتطوير والمراجعة الذاتية لكل ما يكتبه أو يعرضه في كل وقت وحين، كما أوضحنا ذلك في بعض المقالات السابقة، فإن القراءة الافتراضية تأخذ من الكتابة الافتراضية نفسها كثيرا من خصائصها وملامحها المميزة أيضا؛ ذلك أن أثر الكتابة الافتراضية يظهر بشكل سريع من خلال الردود والتعليقات للقراء الافتراضيين التي تكاد تكون آنية؛ بحيث لا يفرقها عن تاريخ إرسال الإدراجات غير دقائق معدودة. وكأن عيون القراء الافتراضيين لا تنام، فهي على الدوام متتطلعة ومتشوفة إلى ما يجد منها على مدار الوقت.

وعلى هذا فإن طراوة التعليقات الافتراضية من طراوة الإدراجات والموضوعات الافتراضية أيضا، وكلما تطاول العهد بالإدراجات إلا وقلت التعليقات حتى تتوارى بعيدا في حيزها الافتراضي لتصبح نسيا منسيا إلى أن ترشد إليها محركات البحث عبر الكلمات المفتاحية فتنعشها وتنفخ فيها روح الحياة من جديد. وهذا بخلاف واقع القراءة الورقية التي يظل وضعها متراخيا في الزمن.

والذي يميز الكتابة والقراءة الافتراضيتين تلازمهما الشديد هذا، وكأن أحدهما يطلب الآخر ويستحضره؛ فلا معنى للكتابة الافتراضية دون وجود قراء افتراضيين عند طرف واحد أو أكثر من أطراف الشبكة العنكوتية التي يكون عددها بعدد الحواسيب المتصلة.

ومن هنا يتولد الشغف الكبير لدى الكتاب الافتراضيين بالعداد الافتراضي، وحرصهم الشديد على تتبع حركة الزوار ومناوراتهم المختلفة.

وتقدم أجهزة الاستشعار عبر برمجيات إلكترونية خاصة معلومات دقيقة للكاتب الافتراضي عن قرائه، من حيث العدد نزولا أو هبوطا أو استقرارا، ومن حيث البلد أوالقارة انتماء ومستقرا، ومن حيث طبيعة برامج التصفح لديهم، ومن حيث نوع الصفحات والعناوين والموضوعات والتصنيفات المطلوبة للزيارة، ومن حيث الوقت الذي استغرقته كل زيارة وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة المرتبطة بحيثيات وخصوصيات القراءة الافتراضية التي لا نجد لها نظيرا في القراءة الورقية.

ولهذا لم يعد مستغربا في واقع القراءة الافتراضية اليوم، أن يستدعي إدراج طريف على موقع أو مدونة من القراء الافتراضيين ومن التعاليق في مسافة زمنية قصيرة ليوم واحد ما لا يستدعيه كتاب مطبوع في مسافة زمنية طويلة لعام كامل.

هناك تعليق واحد:

JaCk يقول...

great blog !!
compliments
!!

greetings from Italy