الجمعة، 15 فبراير 2008

متاهات العوالم الافتراضية من وجهة نظر نقدية

كتب يوم الأحد,تشرين الثاني 04, 2007

الورقة الأولى: خطوة تمهيدية لممارسة نقدية افتراضية

العوالم الافتراضية كعوالم البحر الخفية؛ فيها من الغنى والعمق بمقدار ما فيها من الضحالة والسطحية.

وقد سبق لي، في إدراج سالف، أن شبهت الكائنات الافتراضية بالأسماك والحيتان يطلب بعضها بعضا، ويفترس بعضها بعضا، وقد يسبح بعضها إلى جانب بعض أيضا، في وفاق وانسجام.

وفي السياق نفسه، نجد أن أسلافنا القدماء قد انتبهوا قبلنا بقرون كثيرة، إلى تشبيه الأدب بالبحر رغم غلبة بيئتهم الصحراوية القاحلة على بيئتهم البحرية الخصبة الغنية؛ فرددوا عبارتهم النقدية المشهورة: (الأدب كالبحر؛ أهولُ ما يكون على العالم، أهونُ ما يكون على الجاهل.)

ومعنى هذه العبارة أن الكلام عن الأدب أصعب من ممارسة الأدب نفسه قراءة مستنيرة أو هواية أو تخصصا، إذ لا يُقدر الأدب على حقيقته إلا من ذاقه وكابده، ونفس المثال ينطبق على واقعنا الافتراضي. وإن كانت مساحة الواقع الافتراضي أوسع من مساحة الأدب بأضعاف مضاعفة وأشد تعقيدا وتشابكا، فقد غدا الأدب في عصرنا مجرد جدول صغير يصب في محيط الإنترنت العظيم، وتكاد تحجبه عوالم التقنية المتداولة في عصرنا على نطاق جماهيري كبير.

وفي العادة، فإن الهدم أسهل على الجاهل من البناء، والنقد الفج السريع أسهل أيضا من النقد الإيجابي المُعلل الذي أنضجته الممارسة وطول التجربة.

ولذلك يقتضي الخوض في أمور التدوين معرفة طويلة بأحوال المدونين، من حيث أحوالهم النفسية ولاجتماعية والاقتصادية، ومن حيث جميع خبراتهم المعرفية والتقنية.

ومعلوم أن لجوء معظم المدونين إلى العوالم الافتراضية حديث في واقعنا العربي، بلا زال في مرحلة الاستئناس والتوسع والانتشار، كل بلد حسب طفرته التقنية.

ولا شك أن كل واحد من المدونين قد التحق بالواقع الافتراضي من حيث انتهت تجاربه في واقع الحياة العامة على علاتها المختلفة. فكل مدون يرشح بما فيه عندما يروم رفع جانب من حياته الواقعية إلى السماوات الافتراضية المفتوحة على الدوام.

ومع أن هذه حقيقة قد تبدو بديهية ولكن لا يقدرها حق قدرها إلا من خبر مهمة التدوين وأدرك بوعي حجم تلك المهمة وأثرها على المدى القريب والبعيد عندما يعم أثرها الإيجابي في الناس.

ولا زالت أمور التدوين لم تأخذ بعد في بيئتنا العربية على محمل الجد وخاصة من لدن الجهات الرسمية، إلا عندما يتجاوز بعض المدونين خطوط الرقابة الحمراء الثلاث: (الدين والأخلاق والسياسة)؛ فيفتح بعض المدونين على أنفسهم، من حيث يدرون أو لا يدرون، أبوابا لا توصد من البحث والتنقير من لدن الأجهزة الرسمية المختصة بالتنقير والتفتيش، وعندها فقط قد يصبح لكلامهم الافتراضي الذي يقترب من أحد تلك الخطوط الثلاث بُعد آخر لدى من يمارسون التأويل السياسي والديني والأخلاقي.

وبعيدا عن هذه النقط الحمراء الساخنة يغرق التدوين العربي في موجة من الهدوء والصمت والرتابة.

وبسبب هذا الصمت ورغبة في فك العزلة الافتراضية ربما جنح بعض المدونين من غير قصد إلى الاقتراب أكثر من أحد تلك الخطوط الحمراء لاصطناع نوع من الضجيج والهرج حولهم ولإثارة فضول الزوار والمعلقين حولهم تماما كما تصنع بعض الأسماك للإغراء والإيقاع بضحاياها. وبذلك قد يكون صنيعه هذا كصنيع الفراش الذي يلقي بنفسه من غير قصد في أتون النار رغبة منه في قليل من الدفء أو بصيص من النور.

وربما جاءت فكرة تأسيس هيئات تدوينية وتجمعات افتراضية كثيرة في وطننا العربي لفك العزلة الفردية الافتراضية عن المدونين، وتقوية مشروع التدوين العربي وحمايته من نفسه ومن المحيط العام.

ومهما بلغت قيمة ما يكتبه المدونون في نظر أنفسهم، وفي نظر من يحيطون بهم من أهل وأصدقاء ومعارف على سبيل الحقيقة أحيانا، أو على المجاملة أو المداهنة في أكثر الأحيان، فإن التقدير الحقيقي لا يمكن أن يجد له الأثر والامتداد الحقيقيين في عمق الزمان والمكان إلا من خلال الممارسة النقدية الافتراضية المتخصصة المسؤلة.

فهل من سبيل إلى ممارسة افتراضية نقدية حقيقية لا تقمع وتصادر ولا تُجمل وتزخرف ولا تحابي…؟؟

ليست هناك تعليقات: