الاثنين، 11 فبراير 2008

رسالة مقامية هزلية لركن الدين الوهراني المغربي 10

كتب يوم الخميس,آذار 16, 2006

أخبار ركن الدين الوهراني، هذا الكاتب المغربي المغمور قليلة جدا، مع أن أحواله في الكتابة عجيبة، ومدى الخيال في رسائله عريض فسيح، وباعه في النقد والسخرية والتجريح والصراحة طويل؛ فلم يكن يخشى انتقام وزير أو سطوة أمير، يمزج في كتابته بين أسلوب الرسائل في الديباجة و مراعاة الألقاب، على سبيل السخرية والتهكم، وأسلوب الخطابة في الجدل والاحتجاج بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والشعر والأمثال، في سياقات مناسبة كثيرا ما يختلط فيها المدنس بالمقدس، وبأسلوب المقامة في ربط الأحداث بعنصر المكان، دون التقيد بباقي عناصر كتابة المقامة المعروفة، وبأسلوب كتابة الرحلة التي كانت دائما توحي للوهراني بمشاعر الغربة والوحشة والتبرم من الناس، وخاصة بعد إخفاقه الذريع في رحلته إلى بلاد المشرق، وكساد بضاعته الأدبية هناك عندما قامت دولة الكتابة الفاضلية التي لم يكن يشق لها غبار.

وعندما تجرع مرارة الخيبة تحول عن الجد إلى الهزل، وجنح في كتابته إلى السخرية من الزمن و أهله وأمكنته، وإلى التصوير الكاريكاتوري الفاضح للعورات النفسية والجسمية والعقلية لكثير من شخوصه الذين سلط عليهم جام غضبه، ولم يتورع عن ذلك حتى عند مخطابته لكبار زعماء عصره، كنور الدين محمود الشهيد الأتابكي، وخلفه صلاح الدين الأيوبي، رغم ما عرف عنهما من سداد وصلاح، ثم بقية وزرائهما وأعوانهما الكبار من قبيل القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني والعماد الكاتب الأصبهاني، فما بالك بمن هم دون ذلك، أو من هم على شاكلته من الكتاب والفقهاء والعلماء والأدباء العاديين الذين كان يحلو له دائما أن يلهو بهم ويعبث بسيرتهم.

فكل واحد من رجالات عصره الذين عرفهم، عن بعد أو عن قرب، قد أصابه ما أصابه من لسان الوهراني الساخر، تارة بالتصريح، وتارة بالرمز والتلميح، حتى صار أسلوبه معروفا لدى القاصي والداني، كما يدل على ذلك كلام ابن خلكان في هذه السطور القليلة التي خصصها له، عندما أفرد له ترجمة في كتابه ( وفيات الأعيان )، وقد أثنى فيها ثناء كبيرا على أدبه الغزير الذي يشمل رسائل ومقامات ومنامات.

والمنامات فن شبيه بالمقامة والرسالة، نهج فيها نهج المعري في رسالة الغفران، في افتعال الأحداث الأخروية عند الحشر، وقد تميز الوهراني بها عمن سواه من الكتاب، وخاصة منامه الكبير، قال عنه:

أبو عبد الله محمد بن محرز بن محمد الوهراني الملقب ركن الدين، وقيل جمال الدين؛ أحد الفضلاء الظرفاء، قدم من بلاده إلى الديار المصرية في أيام السلطان صلاح الدين، رحمه الله تعالى، وفنُّه الذي يمت به صناعة الإنشاء، فلما دخل البلاد ورأى بها القاضي الفاضل وعماد الدين الأصبهاني الكاتب وتلك الحلبة علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم ولا تنفق سلعته مع وجودهم، فعدل عن طريق الجد وسلك طريق الهزل، وعمل المنامات والرسائل المشهورة به والمنسوبة إليه، وهي كثيرة الوجود بأيدي الناس، وفيها دلالة على خفة روحه ورقة حاشيته وكمال ظرفه، ولو لم يكن له فيها إلا المنام الكبير لكفاه، فإنه أتى فيه بكل حلاوته، ولولا طوله لذكرته، ثم إن الوهراني المذكور تنقل في البلاد وأقام بدمشق زمانا، وتولى الخطابة بداريا، وهي قرية على باب دمشق في الغوطة.

وتوفي في سنة خمس وسبعين وخمسمائة (575 هج) بداريا، رحمه الله تعالى، ودفن على باب تربة الشيخ أبي سليمان الداراني. نقلت من خط القاضي الفاضل: وردت الأخبار من دمشق في سابع عشر رجب بوفاة الوهراني.

وهذا الآن، نص رسالة الوهراني العجيبة في مضمونها وأدائها، وقد جاءت على شكل محاورات تأخذ شكل مكاتبات ومجاوبات شبيهة ببعض الفصول المسرحية، وتبدأ ديباجتها بسرد الراوي المجهول لوقائع الأحداث الأولى، على طريقة بناء المقامة الذي يتبع في الأصل أسلوب المحدثين في إسناد الخبر.

ثم يمضي الوهراني بعد ذلك في نسج خيوط قصته أو حكايته تدريجيا، حتى يصل بها إلى نهايتها المحتومة.
وقد أسند بطولتها بطريقة رمزية إلى جامع (جلق) وهو جامع بني أمية الكبير في دمشق، وتحت سلطته تنضوي بقية مساجد دمشق ومشاهدها وأضرحتها.
وقد اجتمعت كلها عند هذا المسجد الجامع الذي كان لها بمثابة الملك، للمشاورة والمحاورة، وليدلي كل طرف بشهادته، في أداء خطابي، وبطريقة تناوبية وتراتبية، على سوء أحواله وضياع حقوقه، ثم بعد ذلك تتوحد كلمة المسجد الجامع مع من تحته من الأضرحة والمشاهد في خطاب واحد شاهد على لسان حالها، ثم يرسل إلى القيم على شؤونها، وهو سعد بن أبي عصرون، لعله ينظر في أمرها ويصلح ما اختل من بنائها.

وعندما فوجئت المساجد برد ابن عصرون المخيب لآمالها اضطرت إلى رفع أمرها إلى الملك العادل نور الدين محمود الأتابكي، وعندها فقط يأتي الفرج على يد هذا الملك العادل الذي سيرفع عنها ما كان قد حل بها من إهمال ونهب لحقوقها وأوقافها، وليعزل ابن عصرون الذي اتهمه الوهراني بتعطيل مصالحها.

لقد بنى الوهراني رسالته على هذا الشكل لتأتي متطابقة مع حقيقته الشخصية، فقد كانت حياته في المشرق شديدة الصلة بالمساجد والمشاهد والأضرحة التي كانت ملاذه الأول في مرحلة الضياع والتشرد وفي مرحلة الانتعاش والاستقرار، عندما انتبه بعض الفضلاء إلى علمه وفقهه، فأسندوا إليه الخطابة في مسجد صغير بقرية (داريا)، وهي ضاحية من ضواحي دمشق المدينة التاريخية الشهيرة.

وقد ساءه حاله كما ساءه حالها، وكانت غربته جزء من غربتها عندما آل أمرها هي الأخرى إلى الإهمال والضياع. إنه مظهر من مظاهر توحد الفقيه العربي عامة والمغربي خاصة بالأماكن المقدسة في جغرافية العالم الإسلامي، ولطالما كانت تلك المساجد وتلك المشاهد والأضرحة الملاذ الأخير لكثير من المنبوذين والمثقفين والمهمشين في تاريخنا القديم، فهل كانت رسالة الوهراني هذه نوعا من الوفاء بحقها تجاهه عندما رعته وآوته، في الوقت الذي تحاماه الناس وجفوه وأقصوه؟؟!!

وهل ينتبه إليه الدارسون المعاصرون، بعد أن صدرت مجاميع كتاباته، منذ سنة 1968م، ثم ليطويها بعد ذلك النسيان،عدا بعض الإشارات العابرة هنا وهناك!!

وعسى أن نكون في هذا الإدراج وفي إدراجين سايقين (2) قد سلطنا بعض الأضواء على حقيقة هذا الكاتب المغربي المغمور حتى يجد العناية التي تليق بمجهوده.

نص الرسالة:
قال بعض العارفين بطريق الانتحال على لسان الحال:
لما تحكمت يد الضَّياع في مساجد الضِّياع، وأُرْتِج باب العدل وغُلق، ونُبذ الكتاب وخُلق، فزعت المساجد إلى جامع (جِلَّق)، وهو يومئذ أميره، وعليه مدار أمرها.

فلما اجتمعوا على بابه، ودخلوا تحت قبته ومحرابه، كتب له جامع ( النَّيرب ) قصة إليه، وسألوا عرضها عليه، وكانت الرقعة مسطورة على هذه الصورة:

المماليك ـ مساجد الكورة ـ يقبلون الأرض بين يدي الملك المعظم، البديع الرفيع المكرم، كهف الدين، جمال الإسلام والمسلمين، مدفن الأنبياء والمرسلين، ملجأ الفقراء والمساكين، مأوى الغرباء والمقلين، بيت الأتقياء والصالحين، معبد الملبين، صاحب الدواوين، بِنية أمير المؤمنين.أيد الله أنصاره، وأعلى مناره، وعمر بالتوحيد أقطاره، وينهون إلى مجلسه السامي ما يقاسونه من جور العمال، وتضييع الأعمال، ونهب الوقوف، وخراب الحيطان والسقوف، قد لفهم الظلم والظلام، وأنكرهم المؤذن والإمام، فلا تسمح لهم حسيسا، ولا ترى فيهم أنيسا، إلا آذان البوم، وتسبيح الغيوم، وقد ركعت حيطانها، وسجدت سقوفها وأركانها، وانصرفت من الصلاة أربابها، وسكانها تنوح عليهم الأجراس والنواقيس، وترثي لهم البيع والنواويس:
يرثي له الشامتُ مما به
ياويح من يرثي له الشامت


وقد فزعنا أيها الملك إلى بابك، وأوينا إلى جنابك، فافعل معنا ما هو أولى بك، ورأيك العالي والسلام.

فلما وقف الملك على هذه الشكاية، وعلم بمقتضى هذه الحكاية، استوى جالسا من مقعده، وضرب بيده، وقال: كيف وأنى أم للإنسان ما تمنى، ثم رفع صوته وغنى:
وما شرب العشاقُ إلا بقيتي
ولا ورَدوا في الحب إلا على ِورْدِي

ثم اشرف الملك من إيوانه بين جنده وأعوانه، فاستقبلنه بالسلام والتحية والإكرام، وأقبل وهو يقلب طرفه في الجموع، ويكفكف أسراب الدموع، لما يرى من اختلالهم، وفساد أحوالهم، ثم رد عليهم السلام، وأذن لهم في الكلام.

فابتدأ جامع ( المُزة) المقال، وتقدم بين يدي الملك وقال:
الحمد لله الذي قضى علينا بالخراب، وصير أموالنا كالسراب، وجعلنا مأوى البوم والغراب، أحمده حمد من كان فقيرا ثم استغنى، وأدرك بمال الوقوف ما تمنى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده المكين، ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأكرمين، أما بعد:

أيها الملك السعيد، ثبت الله قواعد أركانك، وشيد ما وهي من بنيانك، فإن الخراب قد استولى على المساجد، حتى خلت من الركع والساجد، فأصبحت مساجد (الغوطة) غيطان لا سقوف لها ولا حيطان، وجوامع (حوران) مخازن وأفران، ومشاهد(البقاع) صعصعا كالقاع، فكم بِنْيَةٍ لعب الجور بأثوابها، فنسج العنكبوت على بابها، وكم بيوت لله غلقت دون أصحابها، فعشعش الحمام في محرابها ( فمن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها).

وقد دخل أيها الملك على الوقوف، بحجة العمارة والسقوف، فاختلفت فينا الأهواء، واتفقت علينا الأنواء، فلا يزال المسجد ينهار، وتأخذه السيول والتيار والأنهار حتى يمتحى رسمه، ولا يبقى منه إلا اسمه، وأنت أيها الملك عمادنا، وإليك بعد الله معادنا، فاكشف عن حالنا، وانظر في صلاح أحوالنا، يصلح الله أحوالك، ويسدد أقوالك، والسلام.

فقال الملك: قد سمعنا كلام المساجد، فما بال المشاهد؟!!
فبرز مشهد (برزة) متوكئا على مشهد (الأرزة)، وهو يصلصل ويصول، ويلطم وجهه ويقول:
كلما حاولت أشكو قصتـي
لا ألقى غير ذي قلب جريح
يتشكى مثل شكوى مِحنتي
يالَقومي ما عليها مُستريــح

أما بعد، أيها الملك السعيد، أدام الله جمالك، وبلغك في عدوك آمالك، فإن مقام (إبراهيم) أصبح في كل واد يهيم، ومغارة (الدم) لا تستفيق من الذم، ومشهد (الكهف) لا يفتر من اللهف، ومشهد (هابيل) قد رمي بطير أبابيل، ومشهد (شيث) قد استأصله الخبيث، ومشهد (نوح) نبكي عليه وننوح، وقبر(حلة) ما لنا فيه حلة، وقبر (إلياس) قد وقع منه اليأس، فلحقت المشاهد بأربابها، وأمست رميما كأصحابها، قد محتها الغوادي، وحدا بها الحادي:
جرت الرياح على محل ديارهم
فكأنهم كانوا على ميعــــــاد

فتنحنح الملك عجبا، وحرك رأسه طربا، وقال:
رب طارق على غير وعد
وفي كل واد بنو سعــــــــــد


ثم استفتح المقال بأن قال:
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، نصب العدل وسواه، وأمده بعونه وقواه، ( فمن أضل ممن اتبع هواه )، فأهواه بسلبه وأضله على علم، وختم على سمعه وقلبه، أحمده على ما رزقني من الاحتمال، وأشكره على ذهاب العرض والجاه والمال، وأشهد أن محمدا عبده المختار، ورسوله الصادق البار، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، أما بعد:

يامعشر المتكلمين، وطائفة المساجد المتظلمين، إنه والله لا ينتهي إليكم من الجور إلا ما يَفضُل عني، ولا يصل إليكم إلا ما يُستعار مني، فلولا أن أركاني سليمة، وبِنْيَتي قديمة، لأصبح جامع بني أمية يُغنى عليه: (يادار مية)، وقد والله شَِرقت بغُصتكم، وحِرت في قصتكم، إن رفعت أمركم إلى الملك العادل، ردكم إلى الشيخ الفاضل، فلا يراعي لكم حرمة، ولا يكشف لكم غمة، ولا يرقب فيكم إلا ولا ذمة.
شكوى الجريح إلى الغربان والرخم

والرأي عندي أن تكتبوا إلى هذا الشيخ قصة، ولا تتركوا في صدوركم غصة، وأن في الكتاب أنواعا من العتاب، فإن التأم رأيه برأيكم وإلا فالسلطان من ورائكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

فنادوا بالغلام، فأتى بالدواة والأقلام، فقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، واكتب:
بسم الله الرحمان الرحيم، من ملك الجوامع ب (جيرون) إلى سعد بن أبي عصرون:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنـــــادي


أما بعد:
ياغدار، لقد هيجت الألم، وأبهمت الظلم، ومن استرعى الذئب فقد ظلم، طالما تغافلنا على خيانتك، وتغاضينا عن جنايتك، حتى اكتنزت الأموال واختزلتها، وجمعت الذخائر واعتزلتها. من أجل هذا كانت سِياحتك، ولأجله طالت نياحتك، وبسببه كنت تسيح وتصيح، حتى غبطك المسيح، لقد عجبت أيها الشيخ من مُحالك في ابتداء حالك، ومن فساد دينك وضعف يقينك، صليت بالمسوح والقيد حتى ظفرت بأنواع الصيد، وتقلدت بالقرون والعظام حتى تقلدت الأمور العظام أن كنت في هذا العمل إلا كما قيل في المثل:
صلى وصام لأمر كان يأمله
حتى حواه فما صلى ولا صاما


وعرِّفني أيها الشيح المفتون، والبائع المغبون: لم بعت الآخرة بالدانية، والباقية بالفانية؟! إن فعلت هذا إلا لِعلة أو لتحقيق مِلة، إما أن تكون قد استطبت (السكباج)، واستلنت الديباج، وإما أن نصدق أهل الأحقاد في أنك نُصيري الاعتقاد، لا تقول بالنُّجعة، ولا تصدق بالرِّجعة، وكلاهما أنت فيه ملوم ومُعاقب ومذموم، وحسبك، وقد بلغني عنك ما أنت عليه من قلة الوفاء لهؤلاء الضعفاء، فاحسم عني أدواءهم، ولا تمكِّن منهم أعداءهم والسلام.

فلما وصل الكتاب إليه، وقرأ ما انطوى عليه فكر وقدر فقُتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس، ثم أدبر واستكبر، ثم لعن المساجد وبانيها، وشتم المشاهد وقانيها، ثم قلب الرقعة وكتب فيها:

بسم الله الرحمان الرحيم، وصلت رقعتك ـ أصلحك الله ـ كأنها ضربة موتور، أو نفثة مَصْدور، وتخلط فيها الهَزل بالجِد، وتبدي غيظ الأسير على القيد، وأيْمُ الله لقد قَرَفت سَِريا، وقذفت بريا، وجئت شيئا فَِريا، فاشدد من عِقالك، وتأيد في مقالك، فما كل شكل يذم شكله، ولا كل طائر يحِل أكله، ، وما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء فحمة، ولو كان لك عقل يُهديك، أو رأي يَهديك لواريت أُوارَك، ولسترت عوارك، أليس قد اشتهر عند الداني والقاصي بأنك قطب ما يتم فيك من المعاصي، حتى لقبوك بسوق الفسوق، وميدان المروق، ورحاب القحاب، حتى قال فيك القائل:
تجنب دمشق فلا تأتها
وإن راقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق به قائم
وفجر الفجور به طالــــع

فلا جرم أن الله قطعك بالطريق، وعاقبك بالحريق، وجعل الميض على أبوابك، والزط في قبلة محرابك، وعذبك بالنيران، وقرنك بأشر الجيران، وجعل خطيبك أتوها دائصا، وإمامك أعمى ناقصا، فلو أنك البيت المعمور لهجرت، أو حرم مكة لما حججت، فقف عند مقدارك، وانظر في إيرادك وإصدارك، والسلام.

فلما وقف الجامع على رقعته، ورأى ما فيها من رقاعته قام وقعد، وأبرق وأرعد، وقال: اكتب ياغلام، باسم الملك العلام:
من العاتب الواجد إلى الملك الزاهد، قال الحائط للوتد: لم تشقني؟ قال: سل من يدقني، لم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي، أما بعد:
أيها الملك العادل، أدام الله أيامك، ونشر في الخافقين أعلامك، فقد طاولت بعدلك القمرين، وسرت سيرة العمرين، وأنت تعلم أن الله قد طهر بقعتي وكرمها، وشرف بنيتي وحرمها. طالما زوحمتُ بالمناكب لما كنت هيكلا للكواكب، وكم أمسيت مشكاةً للأنوار، وبيتا لأستقص النار، ثم انتقلت إلى اليهود بعد انقراض ملة هود، فتأنست بالزبور، وبالأنبياء في القبور، ثم جاءت دولة الصلبان فقربت بالقربان ومعاشرة الرهبان، ثم جاء الإسلام فتشرفت بدين محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فأنا المُشَرَّف في كل قرآن، والمعظم في كل أوان، فكيف يسعك ـ أيدك الله ـ أيها الملك المتغافل عن حالي، والمتحيِّن لنهب أموالي، ويدك مبسوطة في العباد ومطلقة في جميع البلاد.

ما يكون جوابك يوم النشور إذا بعثر ما في القبور، وقد أُوقفت موقف الذليل بين يدي الملك الجليل؟ وأقول: أيْ رب سل هذا لمَ أهملني، وسلمني لمن أكلني! فلا ترد جوابا، ولا تجد خطابا، ولا أقبل منك جميلا ولا كفيلا، ولا أقبل عنك شفيعا ولا وكيلا، فتقول: ( ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، ياويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاء وكان الشيطان للإنسان خذولا).

فقدم أيها الملك السعيد لنفسك ما تجده غدا في رمْسك، وخذ هذا المذكور في الحساب قبل يوم الحساب، فتَبْرأ من التباعة، وتدخل في أهل الشفاعة، والسلام على من حمى مساجد الإسلام ورحمة الله وبركاته.

فلما وقف الملك العادل على كتابه، وتجرع كأس عتابه التفت إلى المساجد فرثى لهم وسدد أحوالهم، ولما علم فحوى شكايتهم، وعرف كنه قضيتهم أزال عنهم ظلمهم، (وأسرها يوسف في نفسه، ولم يبدها لهم).

ثم نظر إلى ابن أبي عصرون فأنزله واعتزله، وحجبه عن بابه واختزله، وألقاه في سِجن الصدود، وخلده إلى يوم الخلود، وقرأ عليه: (ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود). والسلام.
———-

هامش:
(1) النص مقتبس عن كتاب : مقامات الوهراني ومناماته ورسائله ، ص 61 وما بعدها. تحقيق إبراهيم شعلان ومحمد نغش، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، مصر 1968م. الجمهورية العربية المتحدة.
(2) يراجع إدراجنا السابق تحت عنوان: (نبات الخروع) وكذلك الذي تحت عنوان:( عبث وسخرية)

ليست هناك تعليقات: