الاثنين، 11 فبراير 2008

الوقت العربي

كتب يوم الثلاثاء,آذار 21, 2006

تحل هذه الأيام الذكرى الثالثة المشؤومة لغزو العراق، والوضع في هذا البلد الشقيق في ترد مستمر، ويمضي سريعا من سيئ إلى أسوأ، رغم ما يردده المحتل، عبر أبواقه المأجورة، من أكاذيب مضللة، وأوهام مزعومة حول ديموقراطية عهد العراق الجديد التي تخفي وراءها أطماعا وأحقادا…

وخلال الأيام السابقة كنت أغرقت نفسي في تاريخ بلاد المغرب الوسيط، على عهد الدولة الموحدية التي استطاعت أن تسجل صفحات غراء على جبين التاريخ.

ولعل قارئ مدونتي قد انتبه إلى ذلك، وربما يكون قد ساءه مني هذا النكوص إلى الماضي، وسجل علي صمتي، وغيبوبتي الطويلة عن الحاضر التي جاوزت أسبوعين من الزمن…

لا أنكر أني انتعشت بعبق التاريخ خلال تلك المدة، واستشعرت برد الراحة والطمأنينة لبعض الوقت، وأنا أقلب بعض صفحات التاريخ العربي المجيد، عندما كان التاريخ العربي تاريخا واحدا لكل العرب، وعندما كان الوقت العربي وقتا واحدا لجميع العرب.

تلك الغيبوبة كانت لي محطة سياحة واستجمام، لم أحمل منها إلى القارئ الكريم تحفا وقطعا أثرية، بعد أن هُرِّب معظمها إلى بلاد الأجانب، وإنما قليل من النصوص الأدبية والقطع النثرية، ربما تكون أغلى ما بقي من بعض ذلك الوقت العربي الثمين، إذا وجدت من يحسن فهمها وتثمينها، ولتكون شاهدة على لسان حال زمانها ومكانها العربيين، عندما كان الزمان زمانا، والمكان مكانا!!..

وأمامك الآن أيها القارئ الكريم فسحة من الوقت لتفك مغالق تلك النصوص، في أبعادها الدلالية العميقة، وفي جوانبها الفنية والأسلوبية، ومعانيها وصورها التعبيرية….

وأنا أعود من جديد إلى وعيي باللحظة الحاضرة، تستقبلني عند نهاية نفق التاريخ العربي، كالعادة، ومنذ فجر القرن الماضي، أخبار نزيف الوطن العربي المتلاحقة:

نزيف الطاقة البشرية العربية، هذه المرة، ـ وهي أغلى رأسمال يمكن أن تملكه أمة حضارية ـ بأفواج المعطلين وأشباه المعطلين الذين لفظتهم الجامعات والمدارس، وسُدت أمامهم أبواب الشغل، ومنافذ العمل الشريف، فافترشوا الأرصفة والتحفوا أردية الوهم والسراب، وغصت بهم المقاهي.

لقد تحولت شوارع المدن العربية، في معظمها، إلى مقهى كبير؛ فبين كل مقهى ومقهى مقهى آخر … مقاهي تتناسل كل يوم كالفطر، وكراسي تتزاحم وتتراكم، حتى تتجاوز قارعة الطريق، وتضيق الخناق على المارة والعابرين بين جنبات الطرق، وتدفع بهم إلى الإسفلت، حيث خطر الاصطدام بالسيارات…

هنا وهناك، بين كل مقهى وآخر يُحرق جزء كبير من الوقت العربي، على إيقاع دخان السجائر، وجرعات الشاي البارد والقهوة المغشوشة المُعتصَرة من جيوب خاوية أو تكاد لأشباح الموظفين والعاطلين الذين يهيمون بخيالاتهم في أودية الفراغ والضياع، وهم يفكون طلاسم الكلمات المتقاطعة، ومغالق أزمة النهضة العربية التي ما عاد يراد لها أن تنهض أبدا، ويتابعون بين الفينة والأخرى جديد الغزو الأمريكي على أرض العراق عبر قنانتي الجزيرة والعربية، بين أسف وحسرة على أيام شهرزاد العراقية الحالمة الجميلة.

لا أحد يستطيع أن يجحد دور تلك المقاهي الفعال في امتصاص جزء كبير من الغضب والقهر والموت البطيء الذي يُمارس على المواطن العربي المقهور من الداخل، حيث الفساد في ازدياد، والخارج حيث أطماع الغرباء المتربصة بآخر قطرة من نفط أو ذهب أو تحفة أثرية أو حتى درهم عربي، وكل ذلك على حساب وقته وماله وحقه الذي يذهب معظمه لصالح الأباطرة والسماسرة والمنتفعين والمتاجرين بأوقات الناس؛ من أرباب المقاهي، وأباطرة الملاهي، وعلب الليل والنهار، وأوكار الدعارة والقمار، وقوارب الموت والهجرة السرية إلى البلدان الغربية…

وتلك كلها شباك مترابطة تترصد أفواج المعطلين والمنبوذين الذين يتعلقون بخيوطها الواهية، على أمل يمكن أن ينتشلهم من ذل الحرمان والفاقة والجوع، ولو أدى بهم الأمر، في أحيان كثيرة، إلى إراقة ماء وجوههم، وإهدار ما بقي لهم من شرف وعرض وكرامة، في سوق النخاسة وأوحال الرذيلة البشرية.

أذكر في هذا الصدد طرفة حقيقة؛ فقد ذُكر لي أن أحد المدمنين على ارتياد المقاهي جاءه مولود ذكر فهنأه أصحابه وقالوا له: (مبروك، جاءك مولود ذكر!!)، فرد عليهم: ( هيهات.. هيهات!! لا .. مبروك لي أنا..!! قولوا : مبروك لصاحب المقهى!!).
فهو يعلم علم اليقين، مع فرط يأسه وكثرة إحباطاته، أنه لن يُوَرِّث ولدَه غير عادة الجلوس على الكراسي، والتسكع بين المقاهي.

وحتى القلة القليلة من أثرياء العرب الذين جل وقتهم نفط أسود منتزع من الآبار، أو ذهب أصفر مودع في البنوك، أو دولار أخضر متداول في البورصات وأسواق المال، لعبت به الرياح الشرقية والغربية هذه الأيام، وأثبت أنه هو الآخر وقت من سراب ويمكن أن يتلاشى في أي لحظة، وإن بدا للعيان بريقه ولونه المموه بصفرة الذهب الفاقع، وخضرة الدولار اليانع، وسواد النفط الحالك. فلا جذور تشده إلى عمق التربة العربية، لغياب سلطة القرار العربي الواحد، وانعدام تأثيره في سياسة العالم وتقلباته الاقتصادية والمالية، فزمام كل أرصدتهم النفطية والمالية والذهبية بأيدي أعدائهم الغرباء الذين يجثمون الآن على بلادهم ويمارسون على المواطن العربي طقوس الاستنزاف والقتل البطيئ …

ماذا سيكون مصير أولئك الأثرياء العرب المعدودين الذين احتكروا أموال شعوبهم لفترات طويلة من الزمن، واكتنزوها في بنوك الأعداء عندما تصبح آبارهم بعد حين قصير من الزمن معطلة خاوية، وعندما يتبخر ما لديهم من أرصدة الذهب والمال ويؤول كل ذلك الثراء الزائف إلى الصفر والعدم، في سوق المضاربات وحروب المعادلات والأرقام؟؟!!

بقي أقل القليل من الوقت العربي الأسود والأصفر والأخضر، وقد دخلنا مرحلة العد العكسي، منذ أن جاءت أمريكا إلى أرض العرب، وعملت على تسريع عقارب وقتنا إلى الوراء، في اتجاه معاكس لعقارب الزمن الطبيعي، لنبدأ مرة أخرى وفي طور جديد من دورات الزمن العربي أداء ضريبة التخلف ومستحقاتها على الأجيال العربية الصاعدة أضعافا مضاعفة…

لقد تحملت الشعوب العربية وحدها، لعهود طويلة وحتى الآن وربما إلى الأبد، بما يكفي وزيادة، وطأة الزمن العربي الهارب من بين أيديها، عندما ضيع عليها حكامها بفسادهم واستبدادهم، فرصة القفز إلى الضفة الأخرى ضفة التقدم والنجاة والفلاح….هناك..!!، حيث الوقت مِلك وحق للجميع.
ومن لا شأن له في الفعل والتأثير الحضاري فوقته عليه، وليس له.

ليست هناك تعليقات: