الأربعاء، 13 فبراير 2008

كشكول شهر رمضان 1

كتب يوم الجمعة,أيلول 15, 2006

الحريرة في رمضان وأشياء أخرى في الميزان

ليس في كلمة ( الحريرة) في العنوان أعلاه أي تصحيف أو تحريف. هو كما تراه، شكلا وحرفا ونَقْطا. فلا يذهب ظنُكَ بعيدا فتعتقد أنه تصحيف لكلمة الجزيرة الأرضية أو الفضائية، أو حتى لكلمة الجَريرَة؛ وهي الذنْب والجناية التي يجنيها المرء ويجرها على نفسه أو على غيره، كما ورد في معاجم اللغة العربية.
وليس بين الحريرة والجزيرة والجريرة أدنى علاقة معنوية فضلا عن ما بينها من مشترك صوتي وخطي…

والحريرة خلطة الحساء الرمضانية المشهورة على موائد المغاربة عند الإفطار، وهي المعروفة عند إخواننا المشارقة ب ( الشُّربة أو الشَّوْرَبة).

غير أن الحريرة المغربية تختلف عن مثيلتها المشرقية من جهة تركيبها، ومن جهة مقاديرها. بل إنها تختلف حتى داخل مناطق المغرب الواحدة؛ بين ريفية وحضرية، وداخلية وساحلية، وجبلية وتَليَّة، وسهلية وصحراوية حسب الذوق والعادة، وحسب ما تجود به أرض المنطقة وذات اليد. بل وتختلف من بيت إلى بيت، ومن طبقة إلى طبقة، ومن مقام إلى مقام؛ فحريرة الأغنياء غير حريرة الفقراء، وحريرة النبلاء والنبهاء غير حريرة الغوغاء والدهماء، تلك بمائة درهم أو يزيد وهذه بدرهم واحد أو بما يقل عنه، أو بما يكون في حكم العطية أو الصدقة…. !!

المهم، أن لكل فرد مغربي حصة من الحريرة الرمضانية، سواء أكان في البر أو البحر أو في الجو، في البيت أو في المطعم، في قصر من مرمر أو في كوخ من عُشب يابس أوصفيح، عند عتبات المساجد أو تحت قباب الأضرحة، في المستشفيات أو في الثكنات، في المطاعم المدرسية أو في الأحياء الجامعية، في دور البر والإحسان أو في السجون، خارج المغرب أو داخله… فحيثما كنت في شهر رمضان فنهر الحريرة يجري إليك، ولو لم تسع إليه، تماما كنهر السليكون الذي يحمل إليك خلطة أو حريرة الأنترنت العجيبة…!!

والعجيب أن نهر الحريرة هذا ينضب مباشرة بعد حلول الفطر ليعاود الجريان في شهر رمضان المقبل….!!
قال لي أحد الأصدقاء ذات يوم على سبيل الدعابة: لو صُبَّت كل طناجير الحريرة المغربية، في رمضان وحده، من حدود مدينتي طنجة وتطوان في الشمال، دفعة واحدة، لشكلت سيولا متدفقة لا ينضب معينها حتى تصل إلى مدينتي العيون والداخلة في الجنوب، قبل أن تتلاشى وتضيع في جوف رمال الصحراء المغربية…!!

وتطلق كلمة الحريرة في قاموس لهجة المغاربة أيضا على كل أمر مختلط يصعب تخليصه، على سبيل المجاز؛
وهكذا يجري الحديث في مجال البناء مثلا، عن الحريرة الإسمنتية لما يشوب هذه الخلطة، في العادة، عند كثير من المقاولين ومتعهدي البناء، من غش وتطفيف في مقادير الخرسانة.

وقد تكفي رجة أرضية بسيطة، أو ارتفاع بسيط في منسوب الأمطار، أو في سرعة الرياح عن المعدل المألوف ليسقط قناع جشعهم وخداعهم، ولتتصدع وتتداعى كثير من المنازل والدور هنا أو هناك على رؤوس أصحابها أو ساكنيها الأبرياء.

اللهم أدم علينا لطفك وهدوء الطبيعة من حولنا، رأفة بالمخدوعين ضحايا الخلطات الإسمنتية المغشوشة، ولا بارك الله فيما ناله الغشاشون سحتا وبهتانا من عرق الكادحين الذين تضيع حياتهم سدى بين أقساط شهرية وديون مترتبة تذهب بماء وجوههم، وتجعلهم يفرون من لقاء المُدينين كأنهم جربي أو لصوص مطاردون. وكل ذلك في سبيل (دويرة/ تصغير دار) تقي أولادهم من تقلبات هذا الزمن، وتحميهم من غائلة الكوارث والفتن..

لاشيء في بلادنا يمكن أن يتفوق على غضب الطبيعة في فضح عيوب البناء وشق الطرق ومد قنوات مياه المجاري، ويكفي أن تنظر إلى شوارع مدننا الكبيرة التي تتحول إلى برك وأنهار جارفة كلما درت السماء وأرسلت غيثها لدقائق معدودة، وهذا رغم وجود عدد كبير من المختبرات ومكاتب الدراسات والمراقبة التي تحتاج هي الأخرى إلى متابعة ومراقبة، لتواطئ أصحابها وتزويرهم للتقارير والمحاضر، ولانعدام الضمير المهني لديهم، إلا من أخذ الله بيده، وتلك قلة قليلة لا يعتد بها..

ولا شك أن عمل كثير من تلك المختبرات والمكاتب، كما أي حرفة أو مهنة أو وظيفة مزيج مركب من دهاء وغش أو تهاون وكسل، ونتيجة صفقات وطبخات تمت في السر قبل العلن.
وتلك أصباغهم وألوانهم على الحيطان والجدران تبهر وتلمع شهرا أو عاما ثم يخبو بريقها في سائر الشهور والأعوام..

وحيثما اختلط عليك الأمر في مجال من مجالات العمل أو الوظيفة، أو التبس عليك الأمر في سلوك أو معاملة، أولم تجد الكلمة المناسبة للتعبير عن واقع حال ملتبس تحوم حوله الشبهات فما عليك إلا أن تستدعي إلى ذهنك كلمة (الحريرة) وتدخلها في سياق تعبيرك لتعبر بسهولة عن أي مظهر ما من مظهر التناقض والاختلال. فكلمة الحريرة تختزل المشهد كله….!! ويكفي أن ترفع صوتك وتصيح : ( آش هاد الحريرة..!!) لينتبه الجميع إليك ..

وختاما نقول كما قال حكماؤنا الأسلاف: تخليص العمل من الشوائب حتى يخلص أشق على صاحبه من العمل نفسه.
( والله يخلصْ حريرتنا على خير …!!)، كما نقول ـ نحن المغاربة ـ في كلامنا الدارج.
كل رمضان وأنتم بخير..

ليست هناك تعليقات: