الثلاثاء، 12 فبراير 2008

فصل ما اتصل من الضمائر الحرة

كتب يوم الخميس,تموز 06, 2006

ليس لهذا العنوان صلة كبيرة بقضايا النحو العربي، ومسائله المستعصية وشواهده المليئة بالضرب والجرح، من قبيل المثال المعروف الذي درجنا عليه في دراسة قواعد اللغة العربية في الصفوف الأولى والمتوسطة والعالية: ضرب عمرو زيدا، وكل ما تفرع عنه من أمثلة أخرى كثيرة اكتست بلباس الضرب وتطبعت بطبائعه…

في الحقيقة لا تروقني كثير من شواهد وأمثلة النحويين المتكلفة التي لا تخلو من استبداد وسادية، وهذا موضوع شائك يحتاج إلى تخليص مثلما هو واقعنا العربي العام الملتبس، وقد نعود إليه في وقت لاحق بعد أن تتهيأ له أرضية النقاش…

ومن المعلوم أن جزء كبيرا من كتب التراث العربي القديم في مختلف فروع العلم والأدب قد ألف باستدعاء من أصحاب السلطان وباقتراحهم وتوجيههم وإشرافهم، وقد مُهِرت جلها بأسمائهم وألقابهم المنتفخة بلا حدود، ووضعت لها مقدمات طويلة في مدحهم وإطرائهم وتقبيل الأعتاب بين أيديهم، حتى كادت أن تمحى شخصية أصحابها وتذوب نهائيا أمام ما استشعروه من خوف ورهبة أمامهم؛ رهبة تجعلهم يبدون غير ما يضمرون أو يجبرون على ذلك مداهنة أو تملقا، أو إيثارا للمصالح المعجلة في دنياهم الفانية…

ولا شك أنه قد تطرق إلى تلك الكتب التي تبدو في ظاهرها بعيدة عن أمور السياسة والسلطان كثير من ملامحهم الاستبدادية، فخفي أمرها على جمهور المثقفين، وحتى على كثير من الدارسين المتخصصين؛

فكما يمكن أن نتحدث عن استبداد السلاطين ووزرائهم وأعوانهم يمكن أيضا أن نتحدث عن استبداد النحويين والعروضيين، وأهل الصرف والبلاغة، والشعراء والكتاب والمؤرخين وحتى بعض الحكماء والفلاسفة والصوفية وأصحاب الخرق المنقطعين في صوامعهم…

ولكن، من منا تحدث يوما عن هذا النوع من الاستبداد المقنع القابع وراء شواهد النحو والصرف والبلاغة، والمعشش في كثير من نصوص الشعر والإنشاء والكتابة التي تعرض على ناشئتنا في مختلف مراحلهم التعليمية…؟؟!!

فهناك آلاف مؤلفة من عناوين الكتب التراثية وأعلام الشعر والأدب والكتابة حكم عليها بالإقبار، ولازالت رهينة حبس مؤبد أو في حكم المجهول، ولا يعلم بها إلا قلة قليلة من الباحثين المتخصصين الذين يتقنون فن النبش والتنقير لا فن التعتيم والتزوير. وليس هناك سبب مقنع يدعو القائمين على الشأن التعليمي والتربوي إلى إقصائها.

وياليت الأمر وقف عند هذا الحد، فربما اختلقوا لأجل ذلك ذرائع استبدادية، من قبيل التحريض أو المس بأمن الدولة أو بمبدأ الأخلاق العامة، وغير ذلك كثير..

وما أسهل اختلاق الذرائع الاستبدادية على المستبد وعلى أعوانه الذين كثيرا ما يتجاوز ضررهم ضرر المستبد نفسه. وهو الذي أنيطت به مهمة حماية رقاب الناس ورفع هممهم عاليا بدل خفضها أو خنقها أو حتى اجتثاثها من أصولها إذا لزم الأمر.

إن تعاظم وانتفاخ المستبدين داخل بلداننا العربية ينتج عنه ضمور حاد لدى عموم الشعب، يجعل من الوطن العربي أشبه ما يكون بالجسم الذي أصابه داء الشلل الحاد، فهو لا يتحرك إلا على إيقاع آلام الأطراف المبرحة وأوجاع البدن المنهك من الجوع والحرمان، فكيف لهذا الجسم العربي الجائع أن يتحرك برأس ثقيل منتفخ..!!

وقد يكون سر فرادة ذلك التراث العربي المُقصى عن الأنظار أن أصحابه اختاروا التحليق الحر الطليق بعيدا وخارج السرب، أو ربما لأن أصحابه كانوا ذوي ضمائر حية غير متصلة بخدمة دنيئة لفلان أو علان…

إن نفاق الأدباء والعلماء وامتهانهم لأنفسهم هو الداء العضال الذي يُعدي باقي الضمائر الحية المحصنة بمبدأ العزة والكرامة، وهو ، في نفس الوقت، فيتامين الحياة والنمو والانتفاخ السريع لغابة الاستبداد داخل وطننا لدرجة التوحش والسادية…

وإن ما نجهله عن حقيقة تراثنا الفكري والأدبي أكثر مما نعلمه، أو بالأحرى أكثر بكثير مما أريد لنا أن نعلمه في الحدود الدنيا لما يبقيه ( غربال الرقابة) ذي العيون الواسعة الساهرة على كل ما من شأنه أن … والذي لا يكاد يبقي شيئا ذا بال يمكن أن ينفع في تغيير القلوب والعقول…

وكثيرا ما كانت دهشة طلبتي كبيرة عندما كنت أعرض عليهم بعض النصوص الأدبية العربية التي تشذ عن مألوفهم، أو أعرض عليهم بعض الأسماء المغمورة التي خرجت عن مهيع الموضوعات الشعرية والأنواع الأدبية المسطورة منذ ظهور التعليم النظامي داخل بلداننا العربية، وكثيرا ما يتساءلون بحرقة وحيرة: لم غيبت عنا من قبل؟؟!!

وإذا انتقلنا إلى المشهد الثقافي العربي المعاصر طالعتنا نفس الملامح الاستبدادية الموروثة، فلازالت سياسة فصل الضمائر الحية المتصلة مع بعضها البعض قائمة؛ فهي قائمة في التعليم بجميع أسلاكه، وفي جميع الوزارات العربية المنشغلة بهاجس أمنها وأمن حكامها وحلفائهم وأعوانهم في الداخل والخارج.

وحتى في المشهد الإعلامي العربي المكتوب خاصة الذي يسعى جاهدا للتخلص من عبء رقابة الرقيب على الأسماع والقلوب والأبصار والعقول لازال بينه وبين الإعلام الغربي الذي كاد أن يمسك هناك بخناق الفساد والمفسدين أمد بعيد وأشواط قانونية وإضافية.

ولنا في قصة الكاتب المغربي الساخر رشيد نيني التي تحدث عنها الأخ بلا فرنسية إشارة وعبرة. وربما تكون قد اختزلت تفاصيل كل ما عرضنا له في هذا الإدراج.

ليست هناك تعليقات: