الاثنين، 11 فبراير 2008

من وحي قمة الخرطوم …قمة بدون قمم

كتب يوم الخميس,آذار 30, 2006

اختُتِمت أمس، 29 آذر مارس من عام 2006 بالخرطوم، الحاضرة السودانية، القمة الثامنة عشرة على الصعيد العربي، والثانية على صعيد السودان منذ سنة 1967.
وبين التاريخين المذكورين تقع أربعة عقود عريضة ثقيلة، بحجم ثقل الفيل عندما يجثم على نملة.

وقد أدرجنا هنا، مثال الفيل لورود كلمة خرطوم في السياق، والخرطوم يجر وراءه فيلا، كما الكلام يجر بعضه بعضا…
وأربأ بنفسي الآن أن استعرض كل المآسي والانتكاسات التي تكدست وتراكمت على جسد أمتنا العربية منذ أمد بعيد يتجاوز في حساب الزمن الطبيعي زمن قمة الخرطوم الأولى والثانية إلى أزمنة كل القمم السابقة والتالية والمتبقية، لما ترتب عنها من خسائر فادحة تجاوزت أضرارها وعللها الكامنة والظاهرة كل الحدود والتوقعات السلبية الممكنة، وقد كان لكل فرد عربي نصيب وافر منها، بقدر وزن الفيل أو أكثر.

وتلك الخسائر لها شقان: شق معنوي بالنسبة لراحة الشعوب العربية المفتقدة. تلك الراحة والسكينة التي لم يعرف لها المواطن العربي طعما أو مذاقا حتى كتابة هذه السطور. وأنَّى له أن يستعذب تلك الراحة، وهو ما يكاد يمسي على ضربة من ضربات الانتكاسة حتى يصبح على سوط من سياط المذلة والإهانة، كما قال المتنبي:
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبـــــال
فصرت إذا أصابتني سهـام
تكسرتِ النِّصالُ على النصال

وشق مادي: بالنسبة لقاطرة نهضتنا العربية المعطوبة المكبلة بأشكال التخلف والحيف والقهر والاستبداد والتبعية، وغياب الرؤية الشمولية الواضحة الشفافة التي يمكن أن يرى فيها المواطن العربي حيثما كان صورته، وتنعكس عليها خصوصياته كلها، في سمته وصفاته.

فكل برنامج من برامج الإصلاح والتنمية العربية، وكل قطاع من القطاعات العمومية أو الخصوصية أشبه ما يكون بدولة صغيرة داخل دولة، أو حقلا من حقول التجارب على الفئران والجثث.

وكل مسؤول جديد يحل محل آخر بسبب الموت أو التقاعد في الغالب، يَجُب عمل سابقه، ويضرب به عرض الحائط منطلقا من الصفر، ليُسطر عهده الجديد على صفحات بيضاء فارغة لا مجال فيها للهوامش والإحالات، ويأبى إلا أن يعيد ترتيب بيته ومكتبه من جديد ليستوي عنده الشكل والمضمون وليقترن المظهر بالمخبر، بدء بالكرسي الهزاز أو الدوار، والسجاد العجمي، وألوان الحيطان، وأشكال الستائر، وانتهاء بمنفضة السجائر وعود الثقاب وهلم بذخا…

لقد كان من المفروض أن يكون موقع تلك القاطرة العربية في الصدارة، مخترقة كل آفاق الدنيا بحرا وبرا وجوا، لحظة اكتشاف أول بئر بترولية عربية منذ أزيد من قرن، ثم.. وفضلا عن البترول، ألم ترسل البعثات العربية التعليمية إلى الغرب في نفس الوقت مع بعثات اليابان؟!! فماذا كانت النتيجة.؟!!

وهاهي ذي حالنا في العالم العربي الآن تؤول إلى حالة سكون يشبه العدم، كما أي جهاز آلي ياباني فائق التقنية عندما يكون في وضعية إيقاف مؤقت للتشغيل standbay، لا هو بميت ولا هو بحي، خلا بصيص ضوء باهت، ينذر بحرارة التيار ووجود طاقة كامنة، واستعداد للعمل، لكن من يضغط الزر الصحيح، ومن يعلق الجرس ؟؟..

يبدو أن قاطرة نهضتنا لم يتم وصلها وصلا جيدا محكما بكل عربات التنمية المتبقية المجرورة، أو أن تلك القاطرة رمحت بالمسافرين من أبناء شعوبها بعيدا عن السكة كالحصان الجامح المنفلت من عربته المتمرد على سائسه، فانفصلت القاطرة عن بقية العربات، وتركتها في بيداء قاحلة موحشة….

وربما التأمت قاطرة حكامنا مع عربات شعوبهم من الدرجة الأولى والثانية والثالثة، وربما حتى من الدرجة الرابعة التي تخلو من المقاعد، والمفروشة بالحصير، لبعض الوقت فقط، وإلى حين انفضاض سوق الانتخابات، ومهرجان الوعود الزائفة المعسولة التي تشبه وعود الكمون الذي ينمو لزارعه من غير شراب؛ كما قال بشار بن برد لممدوحه يعقوب بن داود عندما أخر عطاءه وحبس جائزته. ولما طالت أيام بشار على بابه دخل عليه، وكان من عادة بشار إذا أراد أن ينشد شعره أن يتفل عن يمينه وشماله. ففعل ذلك، وأنشد قصيدة نقتطف منها هذين البيتين، وهما موطن الشاهد هنا:
يعقوب قد ورد العُفاة عشية
متعرضين لسَيْبِك المُنْتاب
فسقيتهم وحسبتني كَمُّونة
نبتت لزارعها بغير شراب

وهاهو ذا خرطوم النفط العربي يضيع معظم صبيبه في تلك البيداء القاحلة التي لم تنبت حتى الآن إلا غابة كثيفة من النزاعات والانشقاقات والأحقاد، وأشكال التغلب والاستئساد العربي البيني المدعوم بالأعداء والخصوم المتربصين، والمسنود بكثير من الولاءات والإملاءات الخارجية..

يذكرني مشهد لعبة الاحتراب التي تمارسها الدول العربية على بعضها البعض بشغب الأطفال الصغار عندما يمارسون نفس اللعبة؛ فينقسمون إلى عدو وصديق، وتابع ومتبوع، ولص وشرطي، وراصد ومرصود من خلف التلال أوالأسوار أوالأشجار، هذا يكمن لذاك، وهذا يمسك بذاك، ثم تنتهي لعبة المسدسات الخشبية والبلاستيكية بسلام.

وعندما يكبر الأطفال يصبح شغبهم ذاك بالسلاح الخشبي والكرتوني مجرد ذكرى، وفصلا من فصول المزاح في مشهد حياتهم الطفولية البريئة …

إلا لعبة حكامنا التي انقلبت إلى جد صريح وداء قبيح استعصى على التشخيص والعلاج، وأعيى المفكرين والمحللين ودوخ الأدباء والشعراء، رغم كل القمم العربية التي لا يكاد يُعرف منها العدو من الصديق. فوراء كل قمة.. عفوا: .. أكمة ما وراءها..!!

في قمة الخرطوم الحالية، غطى خبر الغائبين عنها على خبر الحاضرين فيها، ليعصف ذلك الغياب الماحق الكاسح بكل مقرراتها وتوصياتها التي انفض عنها جمع الحاضرين بسرعة كمن يجلس على جمر أو يمسك بقطعة نار..

وتلك التوصيات ستحال على الأرشيف لتظل حبرا على ورق، لا تقدم ولا تؤخرا شيئا من حقيقة الواقع العربي، كصيحة في واد سحيق، رغم الظروف والتحديات الصعبة التي تجتازها الآن معظم الدول العربية من المحيط إلى الخليج.

ترى، هل كان ذلك الغياب إعلانا مبكرا عن إفلاس هذه القمة التي غابت عنها معظم القمم العربية، ولكل القمم المتبقية المؤجلة والمعجلة؟ّ!…

وإلى أن يستوي أمر القمم العربية على نهج مستقيم، تستشعر معه الشعوب العربية المغلوبة بعضا من برد الراحة والسكينة، وقليلا من نشوة الوحدة والعزة والأمل نردد مع الطغرائي:
أعللُ النفسَ بالآمال أرقُبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

وإن غدا لناظره لقريب…

ليست هناك تعليقات: