كتب يوم السبت,كانون الثاني 14, 2006
كان للمرأة الجارية أو القينة دور كبير في المجتمع العباسي. والقينة بخلاف المرأة الحرة التي بقيت قابعة في البيت، هي الوحيدة التي سمح لها بالتسلل إلى مجتمع الذكور ومطارحتهم في مجالسهم الخاصة بأشكال الغواية المختلفة. وقد تم إعدادها لأداء هذا الدورإعدادا خاصا من لدن المقينين والنخاسين لجلب أكبر عدد ممكن من الزبائن و(المربوطين).
وللجاحظ رسالة مشهورة كتبها عن القيان أراد من خلالها أن يميط اللثام عن سر صناعة الغواية لديهن، وأن يكشف خيوط شراكها المتشابكة التي إذا وقع فيها المربوط، لن يجد لنفسه فكاكا حتى يؤدي الثمن غاليا من حرعرضه وماله.
وقد حذر الجاحظ منهن ومن غوايتهن رغم اعترافه بفضلهن على كثير من مثيلاتهن من النساء الحرائر القابعات في ظلمة البيوت قسرا، وتفوقهن عليهن بحسن اطلاعهن وثقافتهن، وحفظهن لغزير الشعر، ومعرفتهن بفن الكتابة والمراسلة، بالإضافة إلى حذقهن لكثير من الصناعات قال:
(ومن الآفة عشق القيان على كثرة فضائلهن، وسكون النفس إليهن، وأنهن يجمعن للإنسان من اللذات ما لا يجتمع في شئ على وجه الأرض).
وعلل ذلك بعدم إخلاصهن وسرعة تلونهن وكيلهن لجميع الرجال بمكيال واحد وذلك:
( أن القينة لا تكاد تُخالصُ في عشقها ولا تُناصح في ودها، لأنها مكْتسبة ومجبولة على نصب الحِبالة والشَّرّك للمُتربطين ليقْتحموا في أُنْشُوطتها، فإذا شاهدها المشاهد رامته باللحظ، وداعبته بالتبسم، وغازلته في أشعار الغناء، ولَهِجت باقتراحاته، ونَشِطت للشرب عند شربه، وأظهرت الشوق إلى طول مُكْثه، والصبابة لسرعة عودته، والحزن لفراقه. فإذا أحست بأن سحرها قد نفذ فيه، وأنه قد تعقَّل في الشَّرَك، تزَيَّدت فيما كانت قد شرعت فيه، وأوهمته أن الذي بها أكثر مما به منها. ثم كاتبته تشكو إليه هواه، وتقسم أنها مدَّت الدواةَ بدمعتها، وبلت السَّحاءة بريقها، وأنه شَجْبُها وشّجْوُها في فِكرتها وضميرها، في ليلها ونهارها، وأنها لا تريد سواه، ولا تؤثر أحدا على هواه، ولا تنوي انحرافا عنه، ولا تريده لماله بل لنفسه. ثم جعلت الكتاب في سُدُس طومار، وختمته بزعفران، وشدته بقطعة سَيْر، وأظهرت ستره عن مواليها ليكون المغرور أوثق بها، وألحت في اقتِضاء جوابه، فإن أجيبت عنه ادعت أنها قد صيرت الجواب سلوتها، وأقامت الكتاب مقام رؤيته…
وحمته النظر إلى صواحباتها، وسقته أنصاف أقداحها، وجمَّشته بعضوض تفاحها، وزودته عند انصرافه خُصلة من شعرها، وقطعة من مُرْطها، وشَظِيَّة من مِضرابها، وأهدت إليه في النَّيروز تكَّةٌ وسكرا، وفي المهرجان خاتما وتفاحة، ونقشت على خاتمها اسمه، وغنته إذا رأته:
نظَرُالمُحِب إلى الحبيب نعيم
وصُدوده خطر عليك عظيم
ثم أخبرته أنها لا تنام شوقا إليه، ولا تتهنأ بالطعام وّجْدا به، ولا تمل، إذا غاب، الدموع فيه، ولا ذكرته إلا تنغصت، ولا هتفت باسمه إلا ارتاعت، وأنها قد جمعت قنينة من دموعها من البكاء عليه…
وربما شاركت صاحبها في البلوى حتى تأتي إليه بيته فتمكنه من القبلة فما فوقها، وتفرشه نفسها إن استحل ذلك منها.. وادعت الحرية احتيالا لأن يملكها، وإشفاقا أن يجتاحه كثرة ثمنها، ولا سيما إذا صادفته حلو الشمائل، رشيق الإشارة، عذب اللفظ، دقيق الفهم، خفيف الروح، فإن كان يقول الشعر ويتمثل به أو يترنم كان أحظى له عندها..
وأكثر أمرها قلة المناصحة واستعمال الغدر والحيلة في استعطاف ما يحويه المربوط والانتقال عنه.
وربما اجتمع عندها من مربوطيها ثلاثة أو أربعة على أنهم يتحامون من الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء. فتبكي لواحد بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي واحدا سرها والآخر علا نيتها، وتوهمه أنها له دون الآخر، وأن الذي تظهره خلاف ضميرها، وتكتب إليهم عند الانصراف كتبا على نسخة واحدة، تذكر لكل واحد منهم تبرمها وحرصها على الخلوة به دونهم.
وليس هذا بذم لهن، ولكنه من فرط المدح، وقد جاء في الأثر: ( خير نسائكم السواحر الخلابات ). وليس ما يحسن هاروت وماروت، وعصا موسى وسحرة فرعون إلا دون ما يحسنه القيان ).
وقد اعتبر الجاحظ أن القينة نتاج تنشئة لمجتمع جديد صار يستهلك جسد المرأة كأي سلعة معروضة على رفوف الحوانيت قال:
( وكيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفة، وإنما تكتسب الأهواء، وتتعلم الألسن والأخلاق بالمنشأ. وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث وصنوف اللعب والأخانيث وبين الخُلَعاء والمُجَّان، ومن لا يسمع منه كلمة جِد ولا يرجع منه إلى ثقة ولا دين ولا صيانة ولا مُرُوَّة ).
غير أن الرابح الأكبر من تجارة التقيين هو المقين النخاس الذي في يده زمام أمرها؛ فهي أمته، وتحت يديه صك عبوديتها، وإليه يعود معظم ريع سحر غوايتها مما تسلبه من مربوطيها من كنوز وأموال منقولة وغير منقولة، قال:
( والمقين يأخذ الجوهر ويعطي العَرَض، ويفوز بالعين ويعطي الأثر، ويبيع الريح الهابة بالذهب الجامد…
وهو الذي يُعِد لكل مربوط عُدة على حِدة، كما يميز التاجر أصناف تجارته فيسعرها على مقاديرها ).
وصناعات التقيين في عصر الجاحظ وفنون تسويق الغواية لا تختلف في شئ عن مثيلاتها في زمننا هذا، زمن العولمة، إلا في الوسائل التقنية الجديدة التي يسرت إيصال منتوج الغواية إلى القاصي والداني، ومشاهد الغواية السافرة والمحجبة صارت مألوفة لدى الناس تصحبهم في بيوتهم ليلا ونهارا، بمجرد ضغطة زر بسيطة لجهاز عرض صوتي أو مرئي، أو لمجرد الصدفة ودون قصد، عند تقليب صفحات الأنترنت، أو البريد الإلكتروني.
كان للمرأة الجارية أو القينة دور كبير في المجتمع العباسي. والقينة بخلاف المرأة الحرة التي بقيت قابعة في البيت، هي الوحيدة التي سمح لها بالتسلل إلى مجتمع الذكور ومطارحتهم في مجالسهم الخاصة بأشكال الغواية المختلفة. وقد تم إعدادها لأداء هذا الدورإعدادا خاصا من لدن المقينين والنخاسين لجلب أكبر عدد ممكن من الزبائن و(المربوطين).
وللجاحظ رسالة مشهورة كتبها عن القيان أراد من خلالها أن يميط اللثام عن سر صناعة الغواية لديهن، وأن يكشف خيوط شراكها المتشابكة التي إذا وقع فيها المربوط، لن يجد لنفسه فكاكا حتى يؤدي الثمن غاليا من حرعرضه وماله.
وقد حذر الجاحظ منهن ومن غوايتهن رغم اعترافه بفضلهن على كثير من مثيلاتهن من النساء الحرائر القابعات في ظلمة البيوت قسرا، وتفوقهن عليهن بحسن اطلاعهن وثقافتهن، وحفظهن لغزير الشعر، ومعرفتهن بفن الكتابة والمراسلة، بالإضافة إلى حذقهن لكثير من الصناعات قال:
(ومن الآفة عشق القيان على كثرة فضائلهن، وسكون النفس إليهن، وأنهن يجمعن للإنسان من اللذات ما لا يجتمع في شئ على وجه الأرض).
وعلل ذلك بعدم إخلاصهن وسرعة تلونهن وكيلهن لجميع الرجال بمكيال واحد وذلك:
( أن القينة لا تكاد تُخالصُ في عشقها ولا تُناصح في ودها، لأنها مكْتسبة ومجبولة على نصب الحِبالة والشَّرّك للمُتربطين ليقْتحموا في أُنْشُوطتها، فإذا شاهدها المشاهد رامته باللحظ، وداعبته بالتبسم، وغازلته في أشعار الغناء، ولَهِجت باقتراحاته، ونَشِطت للشرب عند شربه، وأظهرت الشوق إلى طول مُكْثه، والصبابة لسرعة عودته، والحزن لفراقه. فإذا أحست بأن سحرها قد نفذ فيه، وأنه قد تعقَّل في الشَّرَك، تزَيَّدت فيما كانت قد شرعت فيه، وأوهمته أن الذي بها أكثر مما به منها. ثم كاتبته تشكو إليه هواه، وتقسم أنها مدَّت الدواةَ بدمعتها، وبلت السَّحاءة بريقها، وأنه شَجْبُها وشّجْوُها في فِكرتها وضميرها، في ليلها ونهارها، وأنها لا تريد سواه، ولا تؤثر أحدا على هواه، ولا تنوي انحرافا عنه، ولا تريده لماله بل لنفسه. ثم جعلت الكتاب في سُدُس طومار، وختمته بزعفران، وشدته بقطعة سَيْر، وأظهرت ستره عن مواليها ليكون المغرور أوثق بها، وألحت في اقتِضاء جوابه، فإن أجيبت عنه ادعت أنها قد صيرت الجواب سلوتها، وأقامت الكتاب مقام رؤيته…
وحمته النظر إلى صواحباتها، وسقته أنصاف أقداحها، وجمَّشته بعضوض تفاحها، وزودته عند انصرافه خُصلة من شعرها، وقطعة من مُرْطها، وشَظِيَّة من مِضرابها، وأهدت إليه في النَّيروز تكَّةٌ وسكرا، وفي المهرجان خاتما وتفاحة، ونقشت على خاتمها اسمه، وغنته إذا رأته:
نظَرُالمُحِب إلى الحبيب نعيم
وصُدوده خطر عليك عظيم
ثم أخبرته أنها لا تنام شوقا إليه، ولا تتهنأ بالطعام وّجْدا به، ولا تمل، إذا غاب، الدموع فيه، ولا ذكرته إلا تنغصت، ولا هتفت باسمه إلا ارتاعت، وأنها قد جمعت قنينة من دموعها من البكاء عليه…
وربما شاركت صاحبها في البلوى حتى تأتي إليه بيته فتمكنه من القبلة فما فوقها، وتفرشه نفسها إن استحل ذلك منها.. وادعت الحرية احتيالا لأن يملكها، وإشفاقا أن يجتاحه كثرة ثمنها، ولا سيما إذا صادفته حلو الشمائل، رشيق الإشارة، عذب اللفظ، دقيق الفهم، خفيف الروح، فإن كان يقول الشعر ويتمثل به أو يترنم كان أحظى له عندها..
وأكثر أمرها قلة المناصحة واستعمال الغدر والحيلة في استعطاف ما يحويه المربوط والانتقال عنه.
وربما اجتمع عندها من مربوطيها ثلاثة أو أربعة على أنهم يتحامون من الاجتماع، ويتغايرون عند الالتقاء. فتبكي لواحد بعين، وتضحك للآخر بالأخرى، وتغمز هذا بذاك، وتعطي واحدا سرها والآخر علا نيتها، وتوهمه أنها له دون الآخر، وأن الذي تظهره خلاف ضميرها، وتكتب إليهم عند الانصراف كتبا على نسخة واحدة، تذكر لكل واحد منهم تبرمها وحرصها على الخلوة به دونهم.
وليس هذا بذم لهن، ولكنه من فرط المدح، وقد جاء في الأثر: ( خير نسائكم السواحر الخلابات ). وليس ما يحسن هاروت وماروت، وعصا موسى وسحرة فرعون إلا دون ما يحسنه القيان ).
وقد اعتبر الجاحظ أن القينة نتاج تنشئة لمجتمع جديد صار يستهلك جسد المرأة كأي سلعة معروضة على رفوف الحوانيت قال:
( وكيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفة، وإنما تكتسب الأهواء، وتتعلم الألسن والأخلاق بالمنشأ. وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصد عن ذكر الله من لهو الحديث وصنوف اللعب والأخانيث وبين الخُلَعاء والمُجَّان، ومن لا يسمع منه كلمة جِد ولا يرجع منه إلى ثقة ولا دين ولا صيانة ولا مُرُوَّة ).
غير أن الرابح الأكبر من تجارة التقيين هو المقين النخاس الذي في يده زمام أمرها؛ فهي أمته، وتحت يديه صك عبوديتها، وإليه يعود معظم ريع سحر غوايتها مما تسلبه من مربوطيها من كنوز وأموال منقولة وغير منقولة، قال:
( والمقين يأخذ الجوهر ويعطي العَرَض، ويفوز بالعين ويعطي الأثر، ويبيع الريح الهابة بالذهب الجامد…
وهو الذي يُعِد لكل مربوط عُدة على حِدة، كما يميز التاجر أصناف تجارته فيسعرها على مقاديرها ).
وصناعات التقيين في عصر الجاحظ وفنون تسويق الغواية لا تختلف في شئ عن مثيلاتها في زمننا هذا، زمن العولمة، إلا في الوسائل التقنية الجديدة التي يسرت إيصال منتوج الغواية إلى القاصي والداني، ومشاهد الغواية السافرة والمحجبة صارت مألوفة لدى الناس تصحبهم في بيوتهم ليلا ونهارا، بمجرد ضغطة زر بسيطة لجهاز عرض صوتي أو مرئي، أو لمجرد الصدفة ودون قصد، عند تقليب صفحات الأنترنت، أو البريد الإلكتروني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق