السبت، 9 فبراير 2008

أنفلونزا الكاريكاتور

كتب يوم الإثنين,شباط 20, 2006

الرسوم والنقوش التي حفرها الإنسان البدائي على الصخور في أعالي الجبال و في الكهوف التي سلمت من عاديات الدهر لا زالت حتى يومنا هذا، هي التي تحمل أقدم أفكاره وأحلامه وخيالاته، وربما كان ذلك قبل أن يهتدي إلى الكتابة الخطية بزمن بعيد…

وعندما اخترع الآدميون أبجديتهم المختلفة للتواصل لم يتخلوا عن الرسم، بل صار الرسم جزء من كل أبجدية أبجدية، وامتدادا لها، واختزالا لعبثيتها ولثرثرتها.

ثم دار الزمن دورته وتطور فن الرسم وتعقد أكثر مع اختراع الآلة الفوتوغرافية التي كانت مقدمة لتعميم فن التخاطب بلغة الصور بين أكبر شريحة من البشر، ثم زادت لغة الرسوم والصور تمكنا ورسوخا مع التقدم المبهر في صناعات آلات إنتاج الصور أو عرضها أو استرجاعها أوتحريكها أوتنسيقها أوتعديلها..، بدء بالسينما والتلفزيون، وانتهاء بآخر صيحات العرض الرقمي، وتقنيات الحاسبات الإلكترونية المذهلة، بلمساتها السحرية الفنية العجيبة في خلق الأبعاد الافتراضية الغريبة الممكنة وحتى المستحيلة.

أما الجرائد والصحف فقد درجت هي الأخرى، ومنذ ظهورها الأول على الاستعانة بريشة الرسامين الكاريكاتوريين، لإضفاء بعض اللمسات الساخرة المضحكة التي تستطيع أن تختزل المشهد الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي الكامل، أو جانبا معينا من سلوك شخص ما، أو من أوصافه الخِلقية والخُلقية دفعة واحدة، وفي لمحة أقل من ثانية عند النظر، يلتقطها الرسام الماهر، ويبرزها مجسمة ومضخمة بعدسته المكبرة أو المصغرة، المعظمة أو المحقرة.

ولا أحد اليوم، يستطيع أن يجحد جاذبية الرسوم كيفما كان نوعها، ولا أحد أيضا، يستطيع أن ينكر أثرها القوي والفعال في العالم كله، سواء في دنيا الصغار الحالمة، أو في دنيا الكبار المهوسة.!!

وصانعوا تلك الرسوم، وإن كانوا كبارا في السن، فهم أطفال بالضرورة، أو قل: إنهم قلة قليلة من البالغين الذين استطاعوا أن يحملوا قسما كبيرا من صغرهم إلى كبرهم..

فلا زالت أساليب التربية والتنشئة داخل أوطاننا تحمل الصغار على تقليد الكبار، ويُلْحَقون قسرا بصفوف البالغين قبل الأوان، فتَتَعطل أو تقتل كثير من المواهب الفطرية الطبيعية عندهم، وخاصة موهبة الرسم والتشكيل والموسيقى وباقي الفنون الاستعراضية…!!

وربما كانت الرسوم الكرتونية من بين الفنون القليلة الأكثر إثارة وجذبا لانتباه الأطفال الصغار، وحتى للرضع منهم، فكثيرا ما تذهلهم تلك الرسوم والأصوات المصاحبة لها عن حالات البكاء الطبيعي، أو النوم، أو الاستمرار في الرضاعة والأكل.

وربما تكون كثافة الألوان الزاهية، وسرعة الحركة، ومفارقات الأشكال والأصوات هي ما تثيرهم أكثر.. !!

وحتى في عالم الكبار فإن الصحف الأكثر قراءة وجاذبية هي تلك التي تمتلئ صفحاتها بالصور، وتزداد جاذبية تلك الصحف أكثر إذا انضافت إلى الصور رسوم الكاريكاتور، والكلمات المتقاطعة، وشبكات الألغاز والأحاجي والنكت، وهذه كلها فنون تعبيرية تتكامل مع الصورة الكاريكاتورية وتتقاطع معها عند كثير من النقط والمواضع.

وحتى كبار ساسة العالم والمشهورون في عالم المال والأعمال والأدب والثقافة والفن في الغرب، ما عادت حساسيتهم تجاه الرسوم الكاريكاتورية الساخرة مثلما كانت في السابق، بل أصبح الرسم، و حتى المخجل والإباحي منه، جزء من فنهم وحياتهم، فهم يتقبلونه بترحيب، وأحيانا بإعجاب..

غير أن وضعنا في عالمنا العربي والإسلامي مع الرسم وفن التصوير عموما، يختلف كثيرا عن وضع الغربيين؛ فلازال حيز الرسم والتصوير المنظور عندنا، ضئيلا بالقياس إلى حيز الكلام المكتوب والمقروء والمسموع، ولا زالت حساسية الحكام وأعوانهم وحتى المثقفين عموما، عالية جدا، بل مفرطة تجاه فنون الرسم والتصوير…

وكثيرا ما يتدرج منطق الرقابة والمراقبين، في التعامل مع أصحاب الرسم والتصوير، من التنبيه والتهديد والزجر ليصل سريعا إلى المنع والعقاب ثم القصاص.

وربما هذا ما يخيف بعض منتجي الصور والرسوم الثابتة والمتحركة في بلداننا، ويحد من مناوراتهم ومغامراتهم الفنية، أو التمادي فيها إلى أقصى حد ممكن، ولا زالت مقارباتهم الفنية والفكرية والسياسية في مجال التصوير الآلي واليدوي مكبلة بشتى أنواع المحاذير.

والمفارقة العجيبة أن الرقيب في بلادنا قد يتجاوز في أمر الكلام، ولا يتجاوز في أمر الرسم والصور، وإن كان ضررها أخف من ضرر الكلام، في كثير من الأحيان!!

وإذا ألقيت نظرة سريعة على بعض الصحف والمواقع الإلكترونية والكتب المنشورة باللغة العربية وبغيرها من اللغات الأوربية التي يستخدمها كثير من العرب في كلامهم وكتابتهم، ربما، فزعت من هول ما يُنشر من أفكار خطيرة تمس جوهر العقيدة الإسلامية، وتشكك في مصداقية الوحي، وتهون من شأن الرسالة الإسلامية المحمدية، وتفتري على الرسول الكريم، وتشنع على الصحابة الكرام وعلى الخلفاء والقادة والزعماء المسلمين، وهم من هم!! فما بالك بمن هو دونهم..!!

فلماذا هذه الازدواجية في التعامل مع الصورة والكلام، ولماذا هذا الكيل بمكيالين داخل عالمنا العربي والإسلامي…؟!!

فهل لأن الرقيب عندنا لا يقرأ، أم يعتقد أن أخاه العربي مثله لا يقرأ، وحتى إذا قرأ فهو لا يفهم…؟!! أم أن الإساءة إذا كتبت هانت وهُوِّنت وإذا رُسِمت أو صُوِّرت أَفْزَعت وأُدِينَت..!!
أم لأن أسلافنا كانوا يقدرون خطر الكلام، أو على الأقل يفهمونه أكثر وأحسن منا الآن..!!؛

فقد قرأنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى أعراض المسلمين من الحطيئة، الشاعر الهجاء المخضرم المعروف، بالمال صونا لكرامة المسلمين حتى لا يتعرض لهم بالهجاء، وكان الحطيئة من أكبر الكاريكاتوريين الساخرين في تاريخ الهجاء العربي، ولو واتاه الرسم كما واتاه الشعر لكان من أكبر الرسامين الساخرين..

فلماذا لم يقتد أثرياء العرب المسلمين اليوم بصنيع عمر هذا، وليتهم دفعوا للرسامين الدنمركيين كما دفع عمر، حتى يجنبوا الإسلام والمسلمين الأذى، ويمنعوا وقوع الأضرار المادية والمعنوية، وسقوط الضحايا في أوساط الجماهير العربية والإسلامية الغاضبة المحتجة على الرسوم وغير الرسوم… وقبل أن تقع الفأس في الرأس، وقبل أن يسبق السيف العذل…. وهل يلقم أفواه الغربيين رسامين، وغير رسامين غير المال…!!!

نقول هذا الكلام ليس تهوينا من خطر الرسوم الدنمركية، كما قد يظن البعض، وإنما للتنبيه فقط على نوع من الانتقائية والعشوائية التي شابت احتجاجاتنا، وردود أفعالنا، وسلوك حكامنا وساستنا وعلمائنا ومثقفينا حتى الآن، على قضية الرسوم الدنمركية التي بدأت تأخذ، مع الأسف، منحى تصاعديا خطيرا بدأ اليمين الأوربي المتطرف يستغله استغلالا سيئا، من شأنه أن يضر بمصالح الجالية الإسلامية، وبكافة مصالح الشرق والغرب المتبادلة، وينسف كثيرا من جسور التواصل والتفاهم بينهما، خاصة بعد أن انحاز للموقف الغربي المضاد كثير من الوزراء والساسة الأوربيين المحسوبين على اليمين الأوربي المتطرف بشكل سافر ومفضوح…

الآن،… وبعد كل ما أثير من زوابع وتوابع تلك الرسوم المشؤومة أخذ الناس، عامتهم وخاصتهم في عالمنا العربي والإسلامي، يفطنون إلى جوهر حقيقة الرسم الكاريكاتوري وإلى عظيم أهميته وقوة شوكته، في التحريك والتأجيج..

ولو لم تتجه تلك الرسوم إلى شخص الرسول الكريم، ولو لم تضرب في صميم مشاعر المسلمين، وفي موطن مقتلهم لما فهموا درس الرسم جيدا، ولما انتبهوا إلى ما انتبهوا إليه الآن، … ولو بعد غفلة طويلة حتى أخذتهم صفعة الرسوم على حين غرة…!!

فهنيئا وبشرى لكم أيها الكاريكاتوريون في بلاد العرب والمسلمين … أخيرا سينتبه أولو الأمر والعزم لكم، وسيعرف الجميع أنكم أحياء غير أموات… وربما في هذا الظرف الاستثنائي الخاص، سيسمح المسؤولون بتعميم عدوى الكاريكاتور في المدارس والمعاهد وكل منابر الإعلام.. وسَتُسْتَنْفَرون على كل قدم وساق، وسَتُواصلون رسمكم بالليل والنهار، وستتعدد مواقعكم الإلكترونية ومتاححفكم وأروقتكم الفنية في كل البلدان، وستنتشر رسومكم ومنمنماتكم في كل مكان….!!

ولكن،…. ساعة تزول تداعيات تلك الرسوم المحرضة والمهيجة التي تزامنت مع انتشار عدوى أنفلونزا الطيور المستشرية في العالم الآن، قد تسكن النفوس من جديد، كما عودنا التاريخ دائما، صحوة… ثم نوم… وتعود ريما إلى عادتها القديمة، ويرجع كل شئ إلى أصله وطبعه، ويتزوج سعيد وسعيدة … وهكذا دوما ينتهي زمن الحكايات العربية … !!!

ليست هناك تعليقات: