السبت، 9 فبراير 2008

حب وإعصار وعنترية

كتب يوم الأربعاء,شباط 15, 2006

سئل عنترة ذات مرة عن سر شجاعته، فأجاب بأنه كان يعمد إلى الضعيف الجبان، فيضربه بسيفه ضربة قوية يطير لها فؤاد الشجاع المقدام، فيولي هاربا من بين يديه، لا يلوي على شئ، من هول تلك الضربة.

وهكذا شاع أمر شجاعة عنترة حتى هابه الأعداء، وجامله الأصدقاء، واصطنعته قبيلته عبس لنفسها درعا تصد به الأعداء، وترفع به رأسها عاليا بين كل القبائل، وتوجته بتاج البطولة والشهرة بعد أن كان عبدا خامل الذكر، يرعى الإبل في القبيلة ويخدم الأسياد.

والذي حرره من رقه، كما هو معلوم، حبه الجارف المشهور لعبلة الذي ألهب حماسه، وفتق مواهبه وقرائحه حتى كان من أمره العجيب ما كان.. فسبحان مبدل الأحوال..!!

حدث كل هذا دون أن يفطن الناس إلى خدعته، وسر شجاعته أو لعبته. لكن، حتى وإن فطنوا لها أو تنبهوا لها فمن يجرؤ على تطبيقها وإحكام تنفيذها؟!، ثم أليس في التنفيذ المحكم لأي خطة شجاعة، أو بعض ما يفوق مفهوم الشجاعة المجرد القابع في ذاكرتنا الآن فقط، لأننا لم نعد نعرف له تطبيقا على أرض واقعنا العربي المهترئ؟!

ما أعظم حب عنترة الذي استطاع أن يغير صاحبه، ويعيد عجنه وتشكيله !! وما أحوجنا إلى ذلك الحب العنتري السحري العجيب، وخاصة في هذا اليوم المدعو بعيد الحب..!!

ترى، هل ما زال الحب يلد أبطالا ورجالا، أم صار عقيما، أم انتفت أسباب الحب عند رجالنا وحكامنا – اليوم - بزوال حوافزه ودواعيه، أم بانقراض سلالة المعشوقات الفاتنات من الأرض ممن هن على شاكلة عبلة في بعث الهمم الخامدة، أم ماتت القلوب في الصدور، أم استعيض عنها بالقلوب الاصطناعية البلاستيكية الجامدة، أم استبدلت دماؤها الحارة بالأصباغ والألوان الحمراء الباردة كما خلفيات معظم الفضائيات العربية الملونة هذه الأيام بلون ( الفالنتاين ) الأحمر، أم اكتفوا بحب ذواتهم، أم ملوا وشبعوا من الحب حتى زهدوا فيه، أم احترقوا بناره وذابوا فيه حتى انقطع حسهم، أم صاروا أشباحا تَرى ولا تُرى، أم أصناما ميتة فاقدة للحياة والحركة… ؟؟!!

كنت قديما في زمن المدارسة أطالع بشغف أخبار عنترة في شعره الغزلي الجميل، وفي سيرته التاريخية والشعبية الخيالية المليئة بعجائب البطولات، ثم نسيت ذلك كله، حتى عادت قصة عنترة إلى ذاكرتي من جديد غصبا، وطفت على سطحها المتداعي بأثقال وأحمال كبر السن والتجارب.

و قد ظل ذلك السطح راكدا حتى حركته في هذه السنوات الأخيرة عواصف الصحراء الأمريكية وأعاصيرها التي هبت على بلداننا العربية في المشرق ووصلت تداعياتها إلى أقصى بلاد المغرب، فكادت تأتي على كل أخضر ويابس.

وقد تداعى مع تلك العواصف كل ما بقي من أركان تلك الذكرى الجميلة عن عنترة العربي العبسي، تماما كما تداعت تماثيل بعض حكامنا، عند أول إعصار حربي أمريكي قدم من بلاد العم ( سام ) البعيدة إلى بلاد الرافدين، وليست أرض عبس عنها ببعيدة…!!

وإذا كانت لمهندسي الرصد الجوي – اليوم - مراصد متطورة وأجهزة إلكترونية دقيقة لقياس درجة خطورة الأعاصير، ولاستشعار زمن حدوثها وتحديد سرعتها، وتعيين مكان وجهتها، فإن لمقدمي نشرات الأخبار الجوية مصطلحات عجيبة وأسماء أنثوية جميلة خفيفة على اللسان يطلقونها على تلك الأعاصير ساعة ميلادها وخروجها من رحم الطبيعة المكفهرة الغاضبة، من قبيل كاترينا وريتا وشقيقاتهما الكبيرة والصغيرة والمتوسطة….

لست أدري السبب الحقيقي الذي يدفعهم إلى إطلاق تلك المسميات على بنات الغضب الطبيعي، ربما يعود الأمر إلى عدوى المجاملة أو التحرش والمعاكسة التي استشرت هذه الأيام في سلوك الرجال والنساء عند عبورهم في الشوارع أو عند العمل في المكاتب والمصانع وحتى داخل بيوت مراكز القرار السياسي من قبيل البيت الأبيض المشهور مثلا.

وقد قرأنا في أدب العرب أن الغواني يغرهن الثناء، وأن الكلام الغزلي الجميل والاستفتاح باسم الأنثى في الشعر أو الكلام يفتح مغالق النفس ويبعثها على الفأل الحسن والاستجابة التلقائية بالسماح والمغفرة والعطاء، وقد يهيئها حتى لقبول الصدمات القوية، عند حلول الموت والكوارث كما في شعر الرثاء والبكاء مثلا.

ربما هذا ما يقوم به مقدمو نشرات الأخبار الجوية في العالم، عندما ينادون أعاصير أمريكا الطبيعية بأجمل الأسماء الأنثوية الأمريكية، ويتغزلون بها، ويخطبون ودها بأجمل الأوصاف والنعوت، ربما تخفيفا على قلوب المواطنين الأمريكيين الشجعان الأخيار أحرار العالم ومنقذوه من رؤوس الضلال والفتنة، واحتراما لمشاعرهم المرهفة، وتهوينا على قلوبهم المعذبة بحب الإنسانية من إيقاع رعب الطبيعة ذاك!!.

فيكفي تلك القلوب المنفطرة المعذبة المسكينة أنها تموت وتحيى في كل يوم ألف مرة، على إيقاع وهم الإنذارات والتفجيرات الكاذبة التي قد تأتي ولا تأتي.

ولكن سؤال الاستخبار والدهشة وعلامة التعجب والحيرة ينتصبان أمامنا عندما ننتقل إلى الحديث عن عواصف أمريكا الحربية التي أطلقتها على شعوب العرب والمسلمين، في السنين الأخيرة، ومن قبل على شعوب أسيوية كثيرة لا زالت لم تبرأ بعد من أوجاعها وأمراضها رغم مرور كل هذا الوقت.

تعالوا معي نلقي نظرة سريعة على مسميات تلك العواصف والأعاصير الأمريكية الحربية الماحقة لنتلمس مواطن تلك المفارقة العجيبة بين الأعاصير الطبيعية والأعاصير الأمريكية، وخذ من تلك الأسماء على وجه التمثيل لا الحصر: عاصفة الصحراء، وخرائط الطرق المستوية والملتوية، والخطط الثعلبية والذئبية والجهنمية، والمطرقة الحديدية، والقبضة الفولاذية، والضربة الاستباقية…، أسماء كثيرة معددة بعدد النيران وشواظ العواصف التي أرسلتها من طائراتها ودباباتها وجنودها المدججين الذين يدهمون أبواب البيوت ويدهسون الجثث الحية قبل الميتة بأحذيتهم الثقيلة، ويقتلون بالصياح والتهديد قبل أن يقتلوا، وتلك الملايين من الصواريخ والقنابل الموجهة من الأرض والفضاء، وطلقات رشاشاتهم ومسدساتهم بأعيرتها المختلفة ربما تكون بعدد العرب والمسلمين وزيادة…

ثم هاهي ذي قد حولت حياة الناجين من جحيم خوفها وعواصف نيرانها في العراق وفي غيره إلى سجن كبير تسوم فيه الناس كل ألوان العذاب وكل أشكال الموت البطيء والمعجل.

أي إيقاع للرعب والموت والدمار والخراب أكبر من هذا عندنا وأقل عندها!! وأي عزف على إيقاع الموت أشجى من هذا عندنا وألذ عندها!!

فلينتبه المنتظرون على الطابور الأمريكي، وليحفظوا مصطلحات أعاصيرها الحربية المدمرة، ومسميات عواصفها النارية الجهنمية جيدا!!، وعلى البقية الباقية المتفرجة من بعيد أن تعي وتحفظ تلك الدروس. دروس الرعب والتهويل الأكاديمية، وربما قامت بتنفيذ ذلك، قريبا، في أحد برامج تلفزيون الواقع لديها، وتسابقت بعض قنواتنا الفضائية إلى تنفيذ نسختها العربية ..!!

وبما أن الحديث ذو شجون، والشيء بالشيء قد يذكر، فقد سئل أحد الأعراب في الجاهلية عن السبب في كونهم يطلقون على أبنائهم أسماء حيوانية قبيحة ككلب وضبع وذئب وجحش، أو مرعبة كظالم وفتاك، أو مرة كعلقمة وحنظلة، في حين يسمون في نفس الوقت عبيدهم أسماء حسنة وجميلة، فأجاب بما يقرب من منطق أمريكا في تسمية أعاصيرها الطبيعية لنفسها وأعاصيرها الحربية لغيرها ومنهج عنترة في إرعاب الشجاع البطل فضلا عن الرعديد الجبان: ( إننا نسمي عبيدنا لأنفسنا، ونسمي أبناءنا لأعدائنا ).

ليست هناك تعليقات: