كتب يوم الأحد,آذار 26, 2006
ربما يكون في هذه اللحظة ملايين الناس مثلي أمام شاشة الحاسوب الآلي، متصفحين لبريدهم، أو محلقين في فضاء الأنترنت الواسع، أو مبحرين عبر مواقعه الكثيرة التي أصبحت بعدد أسماك البحر وحيواناته… من سمك السردين إلى القرش المفترس، ومن فرس البحر الوديع إلى الأخطبوط المتوحش صاحب الأذرع الطويلة الملتفة الملتوية…
حقا، لقد استطاعت تقنية الأنترنت العجيبة أن تفك العزلة عن كثير من الناس في هذا العالم، وأن تُسمع صوتهم، وتنقُل صورتهم وحقيقة حياتهم وأمزجتهم وطباعهم وأحلامهم وأوهامهم ومعاناتهم حيثما كانوا إلى كل بقاع الدنيا…
لقد بدأت معرفتنا بهذا العالم الذي يحلو لبعضهم أن ينعته ب (القرية الصغيرة) تتسع تدريجيا، وما عاد يَشِذ عن أذهاننا شئ من حقيقة تلك القرية الكونية العجيبة، لكثرة ما يتدفق الآن عبر الأنترنت ووسائل الإعلام المختلفة من صور ثابتة ومتحركة، وأخبار وقصاصات أنباء، وفضائح وأهوال وجرائم وحروب واغتيالات، واحتفالات ومهرجانات، وعروض بيع وشراء لكل شئ، حتى للعهود والمواثيق والذمم، وأكل وشرب، وعهر وشذوذ، وصيد وافتراس، تماما كما مملكة الأسماك في قيعان البحار العميقة المظلمة.
ولا فرق بين سكان تلك القرية الصغيرة وأسماك تلك البحار العميقة إلا فيما يكون من فرق بين السر والعلن، أو الستر والفضيحة… وأن تلك الأسماك تأكل لتعيش وتلد، وقلة من أولئك السكان تأكل وتأكل حتى تشبع وتتخم وتمحق وتبيد..
لكن، ومع اتساع معرفتنا المادية والجغرافية بحدود قريتنا الصغيرة شبرا بشبر، وذراعا بذراع، بدأت حقيقة الإنسان الجوهرية التي ساهمت في تكوينها وترسيخها، منذ عهد أبينا آدم وأمنا حواء، التعاليم السماوية المسطورة في آيات الله المحكمة، والأعراف والمواثيق البشرية النبيلة السامية، وكتب الفلاسفة المثالية، وقصص الحالمين والخياليين، وأشعار الرومانسيين المحترقين بلوعة الحب المجنون تضيع وتتلاشى تدريجيا أمام سطوة الحياة الصناعية الرقمية، وزحمة المعلومات والأفكار والصور الغزيرة الموبوءة، في كثير منها، بالفيروسات وبرامج القرصنة والتخريب، وبأشكال العري والعهر، والقهر والاستقواء والهيمنة التي تقذف بها أودية السليكون إلى بحر الأنترنت الفسيح العجيب…
فعن أي إنسان يمكن أن نتحدث الآن، وعن أي نموذج ثابت من السلوك البشري يمكن أن نرسمه أو نحدد معالمه بعد كل هذه الانقلابات الهائلة في المبادئ والقيم؟؟!!.
فما كان استثناء صار قاعدة، وما كان شاذا أصبح قاعدة ومقياسا..
وما نكاد نُمسي على سلوك في قول أو فعل، أو طريقة مشية أو تثن، أو تقليعة تسريحة شعر، أو نفخ شفة، أو استعارة حاجب ورمش، أو تعديل أنف حتى نُصبح على تلون بديل، وتنكر آخر جديد ….
وكما يتلون الأفراد العاديون المحظوظون الميسورون في لباسهم ويتنكرون وراء أقنعتهم التجميلية المستعارة، ويبذلون في سبيل ذلك جزء كبيرا من أموالهم ومدخراتهم، كذلك يفعل الساسة والمتنفذون في العالم، عندما يلونون خطاباتهم وشعاراتهم بألوان الزيف والخداع التي تشبه سحر الحواة، وأقنعة البهلوان، ومشية الراقص الحذر على الحبال، ويزرعون في عروق البقية الباقية من المغلوبين والحيارى والجياع والمحرومين أفرادا وشعوبا كل أمصال التخدير وأنواع التعمية والاستغفال قبل كل عملية هجوم أو افتراس …
الإنسان كائن اجتماعي ليس لطبعه، وإنما لنقصه ولحاجته إلى غيره، كما الطفل الرضيع الذي قدم إلى الدنيا للتو؛ فهو من غير أم أو متعهد في حكم العدم. وفراخ الدجاج تتفوق علينا في هذه الناحية،لأنها من المخلوقات القليلة التي تنطلق إلى كسب قوتها مباشرة بعد خروجها من البيضة…
أتساءل؛ كيف سيكون مصير الإنسانية في الألفية المقبلة، إذا نزعت صفة الأمومة والأبوة والأخوة والخؤولة والعمومة التي حفظت أخص خصائص السلالة البشرية، بكل ما تحمله تلك الكلمات النبيلة من عمق وحميمية وإنسانية، واستُبدل الرحم الأنثوي الطبيعي الحي الدافئ، بأنابيب التخليق والتهجين الاصطناعي الجامدة الباردة، في المختبرات وبنوك الدم والنطف والأعضاء البشرية المجمدة إلى حين من الدهر حتى يعاد استخدامها من جديد، كما في قصة السيدة الفرنسية التي تم زرع جزء كبير من وجهها بعد أن أصابه قدر كبير من التلف بسبب عضة كلب …؟؟!!
ربما اختفت كلمات: ( ماما وبابا وأخي وخالي وعمي) خلال عهود قادمة من الكلام عندما يصبح الإنسان مجرد رقم أو علامة تجارية لسلالة الأنابيب والمحاضن المخبرية البشرية …
لا يعقل أن نطلق على تلك الأنابيب والمحاضن الاصطناعية كلمة: بابا أو ماما … فهذا أمر يتجاوز حدود العقل الطبيعي، وقد يخرج عن نطاق السيطرة ….
وهاهو الإنسان اليوم، بدأ يدخل مرحلة تحول جديد في سمته وصفاته، ليصبح كائنا افتراضيا بامتياز، وليسلم عقله وجسمه إلى سطوة الأرقام، وسلطة المعادلات الرياضية الحاسوبية المعقدة والبسيطة في نفس الوقت:
فكل ما يوجد في جوف الحاسوب والأنترنت من حروف وصور وخطوط وألوان وظلال وأصوات وحركات مجرد أوامر وتطبيقات حاسوبية لمعادلات بسيطة لا تخرج عن رقمي: 0 و1؛ فرقم 0 في لغة الحاسوب، أو كما أريد له أن يفهم ذلك، يعني عدم مرور التيار الكهربائي، ورقم 1 يعني للحاسوب مرور التيار الكهربائي.
وعبر سلسلة من المتواليات الحسابية والمنطقية المكونة من الرقمين المذكورين تتم صناعة كل البرامج والتطبيقات الرقمية الإلكترونية البسيطة والمعقدة، النافعة والضارة، البانية المصلحة والمخربة المدمرة، بدء بأوامر التحرير والكتابة البسيطة على صفحة الحاسوب، وصولا إلى التحكم الإلكتروني في حركة غلق وفتح الأبواب آليا لمجرد الاستشعار عن بعد، استشعارا حراريا أو مغناطيسيا أو غير ذلك من وسائل الاستشعار الافتراضية، على غرار قول علي بابا لبوابة مغارة كنوزه: ( افتح يا سمسم.. )..
ويمكن أن نضيف إلى هذا المثال كل أشكال التحكم الآلي المختلفة بدء بلعب الأطفال المتحركة المصنوعة للتسلية، وصولا إلى آخر ما أنتج في حقل الطب من مباضع جراحية دقيقة يمكن أن تخترق شريان الدم أو عصب الدماغ، وتستأصل أوراما وتخيط جراحا غائرة في جسم الإنسان،أو(روبوتات) صغيرة متحركة أو ثابتة بحجم رأس دبوس، أو أجهزة وشرائح إلكترونية مصنوعة على شكل زخارف معدنية أو نباتية مموهة وضئيلة الحجم تزرع في أماكن لا يمكن كشفها إلا بصعوبة، ويمكن من خلالها أن تترصد وتستشعر، و تبث صورا وإشارات إلى جهات معينة بغرض التجسس على الآخرين أو إيقاع الأذى بهم من حيث لا يشعرون.
وفي وقتنا هذا ازدادت العلاقات والارتباطات الافتراضية بين بني البشر في جميع أنحاء المعمور، فأصبح لقاء الشخص الإفريقي بالأسيوي وبالأوربي وبالأمريكي عبر المنتديات وعبر شبكة المواقع المختلفة والهواتف المحمولة بالصورة والصوت، أمرا ميسورا في كل الأوقات بمجرد ضغطة زر، أو تحريك سهم الفأرة، ودون حاجة إلى حركة الأبدان..
هو سفر افتراضي ومجاني حقيقي للأبصار والأسماع والعقول والأحلام فقط، أما الأجسام المتعبة بالإحباطات وقصر ذات اليد، والمنهكة بأغلال القمع واستبداد الداخل وحصار الخارج فتبقى قابعة حيث هي حتى يفنيها الزمن، بين رغبة لا تتجاوز سقف راتب شهري تأكله الديون يوم تسلمه، ورهبة تلازم الفرد المغلوب على أمره ليل نهار، وهو يتابع يوميات القتل والإبادة لبني البشر بالحصار والنهب والحرب والجوع والتخلف الذي تزداد وطأته على دول العالم الثالث في كل يوم، وإنذارات التسمم بعدوى أنفلونزا الطيور التي يتسع مداها في كل حين، وجنون البقر، وما قد يتبع ذلك من نزيف حاد لكل ثروات أرضنا الطبيعية البرية والبحرية والجوية، فيتضاعف حزن الفرد منا وتزداد همومه أكثر فأكثر….
ما أظن إلا أن أمنا الأرض قد تعبت من عناد بعض الآدميين وعيثهم وعبثهم بمائها وهوائها وترابها، أو أصبحت عاجزة عن غسل أوضار جميع البشر….
الزمن الافتراضي الذي نعيشه أمام الحواسب واسع كالخيال، وهو أشبه ما يكون بحلم لذيذ، يستغرقك ويستحوذ عليك ويأسرك قدرا لا يستهان به من الزمن، وقد تتورم رجلاك من الجلوس الطويل، وتتعب عيناك فتعلوهما حمرة أوغشاوة، بسبب التحديق الطويل وتقليب صفحات الأنترنت التي تتمنى أن تتوقف ولا تتوقف، حتى يدفعك إجهاد بدنك وألم كتفيك إلى فصل التيار الكهربائي عن الجهاز قسرا، وعندها فقط تتمكن من إيقاف مجرى وادي السليكون الذي يمتد إلى جهازك حيث أنت..
وعندما تأوي إلى فراشك ينحسر عنك ستار الحقيقة الافتراضية الواسعة الحالمة، وفي الصباح يلوح أمامك ستار الحقيقة الواقعية الضيقة، على إيقاع يومياتك الروتينية التي لا يتغير من حقيقة مكانها شئ إلا بعدد ما يفقده مرور الأيام من عدد شعرات رأسك ، ودبيب الشيب إلى ما تبقى منها، ووهن العظام من جر أقدامك، جيئة وذهابا، في أمكنة صارت مرصودة ومحصورة ومحسوبة عليك. وهي لا تعدو أن تكون نقطة ماء بالنسبة إلى بحر الأنترنت ..
وتلك أعجوبة أخرى من أعاجيب مفارقات الزمان والمكان..
ربما يكون في هذه اللحظة ملايين الناس مثلي أمام شاشة الحاسوب الآلي، متصفحين لبريدهم، أو محلقين في فضاء الأنترنت الواسع، أو مبحرين عبر مواقعه الكثيرة التي أصبحت بعدد أسماك البحر وحيواناته… من سمك السردين إلى القرش المفترس، ومن فرس البحر الوديع إلى الأخطبوط المتوحش صاحب الأذرع الطويلة الملتفة الملتوية…
حقا، لقد استطاعت تقنية الأنترنت العجيبة أن تفك العزلة عن كثير من الناس في هذا العالم، وأن تُسمع صوتهم، وتنقُل صورتهم وحقيقة حياتهم وأمزجتهم وطباعهم وأحلامهم وأوهامهم ومعاناتهم حيثما كانوا إلى كل بقاع الدنيا…
لقد بدأت معرفتنا بهذا العالم الذي يحلو لبعضهم أن ينعته ب (القرية الصغيرة) تتسع تدريجيا، وما عاد يَشِذ عن أذهاننا شئ من حقيقة تلك القرية الكونية العجيبة، لكثرة ما يتدفق الآن عبر الأنترنت ووسائل الإعلام المختلفة من صور ثابتة ومتحركة، وأخبار وقصاصات أنباء، وفضائح وأهوال وجرائم وحروب واغتيالات، واحتفالات ومهرجانات، وعروض بيع وشراء لكل شئ، حتى للعهود والمواثيق والذمم، وأكل وشرب، وعهر وشذوذ، وصيد وافتراس، تماما كما مملكة الأسماك في قيعان البحار العميقة المظلمة.
ولا فرق بين سكان تلك القرية الصغيرة وأسماك تلك البحار العميقة إلا فيما يكون من فرق بين السر والعلن، أو الستر والفضيحة… وأن تلك الأسماك تأكل لتعيش وتلد، وقلة من أولئك السكان تأكل وتأكل حتى تشبع وتتخم وتمحق وتبيد..
لكن، ومع اتساع معرفتنا المادية والجغرافية بحدود قريتنا الصغيرة شبرا بشبر، وذراعا بذراع، بدأت حقيقة الإنسان الجوهرية التي ساهمت في تكوينها وترسيخها، منذ عهد أبينا آدم وأمنا حواء، التعاليم السماوية المسطورة في آيات الله المحكمة، والأعراف والمواثيق البشرية النبيلة السامية، وكتب الفلاسفة المثالية، وقصص الحالمين والخياليين، وأشعار الرومانسيين المحترقين بلوعة الحب المجنون تضيع وتتلاشى تدريجيا أمام سطوة الحياة الصناعية الرقمية، وزحمة المعلومات والأفكار والصور الغزيرة الموبوءة، في كثير منها، بالفيروسات وبرامج القرصنة والتخريب، وبأشكال العري والعهر، والقهر والاستقواء والهيمنة التي تقذف بها أودية السليكون إلى بحر الأنترنت الفسيح العجيب…
فعن أي إنسان يمكن أن نتحدث الآن، وعن أي نموذج ثابت من السلوك البشري يمكن أن نرسمه أو نحدد معالمه بعد كل هذه الانقلابات الهائلة في المبادئ والقيم؟؟!!.
فما كان استثناء صار قاعدة، وما كان شاذا أصبح قاعدة ومقياسا..
وما نكاد نُمسي على سلوك في قول أو فعل، أو طريقة مشية أو تثن، أو تقليعة تسريحة شعر، أو نفخ شفة، أو استعارة حاجب ورمش، أو تعديل أنف حتى نُصبح على تلون بديل، وتنكر آخر جديد ….
وكما يتلون الأفراد العاديون المحظوظون الميسورون في لباسهم ويتنكرون وراء أقنعتهم التجميلية المستعارة، ويبذلون في سبيل ذلك جزء كبيرا من أموالهم ومدخراتهم، كذلك يفعل الساسة والمتنفذون في العالم، عندما يلونون خطاباتهم وشعاراتهم بألوان الزيف والخداع التي تشبه سحر الحواة، وأقنعة البهلوان، ومشية الراقص الحذر على الحبال، ويزرعون في عروق البقية الباقية من المغلوبين والحيارى والجياع والمحرومين أفرادا وشعوبا كل أمصال التخدير وأنواع التعمية والاستغفال قبل كل عملية هجوم أو افتراس …
الإنسان كائن اجتماعي ليس لطبعه، وإنما لنقصه ولحاجته إلى غيره، كما الطفل الرضيع الذي قدم إلى الدنيا للتو؛ فهو من غير أم أو متعهد في حكم العدم. وفراخ الدجاج تتفوق علينا في هذه الناحية،لأنها من المخلوقات القليلة التي تنطلق إلى كسب قوتها مباشرة بعد خروجها من البيضة…
أتساءل؛ كيف سيكون مصير الإنسانية في الألفية المقبلة، إذا نزعت صفة الأمومة والأبوة والأخوة والخؤولة والعمومة التي حفظت أخص خصائص السلالة البشرية، بكل ما تحمله تلك الكلمات النبيلة من عمق وحميمية وإنسانية، واستُبدل الرحم الأنثوي الطبيعي الحي الدافئ، بأنابيب التخليق والتهجين الاصطناعي الجامدة الباردة، في المختبرات وبنوك الدم والنطف والأعضاء البشرية المجمدة إلى حين من الدهر حتى يعاد استخدامها من جديد، كما في قصة السيدة الفرنسية التي تم زرع جزء كبير من وجهها بعد أن أصابه قدر كبير من التلف بسبب عضة كلب …؟؟!!
ربما اختفت كلمات: ( ماما وبابا وأخي وخالي وعمي) خلال عهود قادمة من الكلام عندما يصبح الإنسان مجرد رقم أو علامة تجارية لسلالة الأنابيب والمحاضن المخبرية البشرية …
لا يعقل أن نطلق على تلك الأنابيب والمحاضن الاصطناعية كلمة: بابا أو ماما … فهذا أمر يتجاوز حدود العقل الطبيعي، وقد يخرج عن نطاق السيطرة ….
وهاهو الإنسان اليوم، بدأ يدخل مرحلة تحول جديد في سمته وصفاته، ليصبح كائنا افتراضيا بامتياز، وليسلم عقله وجسمه إلى سطوة الأرقام، وسلطة المعادلات الرياضية الحاسوبية المعقدة والبسيطة في نفس الوقت:
فكل ما يوجد في جوف الحاسوب والأنترنت من حروف وصور وخطوط وألوان وظلال وأصوات وحركات مجرد أوامر وتطبيقات حاسوبية لمعادلات بسيطة لا تخرج عن رقمي: 0 و1؛ فرقم 0 في لغة الحاسوب، أو كما أريد له أن يفهم ذلك، يعني عدم مرور التيار الكهربائي، ورقم 1 يعني للحاسوب مرور التيار الكهربائي.
وعبر سلسلة من المتواليات الحسابية والمنطقية المكونة من الرقمين المذكورين تتم صناعة كل البرامج والتطبيقات الرقمية الإلكترونية البسيطة والمعقدة، النافعة والضارة، البانية المصلحة والمخربة المدمرة، بدء بأوامر التحرير والكتابة البسيطة على صفحة الحاسوب، وصولا إلى التحكم الإلكتروني في حركة غلق وفتح الأبواب آليا لمجرد الاستشعار عن بعد، استشعارا حراريا أو مغناطيسيا أو غير ذلك من وسائل الاستشعار الافتراضية، على غرار قول علي بابا لبوابة مغارة كنوزه: ( افتح يا سمسم.. )..
ويمكن أن نضيف إلى هذا المثال كل أشكال التحكم الآلي المختلفة بدء بلعب الأطفال المتحركة المصنوعة للتسلية، وصولا إلى آخر ما أنتج في حقل الطب من مباضع جراحية دقيقة يمكن أن تخترق شريان الدم أو عصب الدماغ، وتستأصل أوراما وتخيط جراحا غائرة في جسم الإنسان،أو(روبوتات) صغيرة متحركة أو ثابتة بحجم رأس دبوس، أو أجهزة وشرائح إلكترونية مصنوعة على شكل زخارف معدنية أو نباتية مموهة وضئيلة الحجم تزرع في أماكن لا يمكن كشفها إلا بصعوبة، ويمكن من خلالها أن تترصد وتستشعر، و تبث صورا وإشارات إلى جهات معينة بغرض التجسس على الآخرين أو إيقاع الأذى بهم من حيث لا يشعرون.
وفي وقتنا هذا ازدادت العلاقات والارتباطات الافتراضية بين بني البشر في جميع أنحاء المعمور، فأصبح لقاء الشخص الإفريقي بالأسيوي وبالأوربي وبالأمريكي عبر المنتديات وعبر شبكة المواقع المختلفة والهواتف المحمولة بالصورة والصوت، أمرا ميسورا في كل الأوقات بمجرد ضغطة زر، أو تحريك سهم الفأرة، ودون حاجة إلى حركة الأبدان..
هو سفر افتراضي ومجاني حقيقي للأبصار والأسماع والعقول والأحلام فقط، أما الأجسام المتعبة بالإحباطات وقصر ذات اليد، والمنهكة بأغلال القمع واستبداد الداخل وحصار الخارج فتبقى قابعة حيث هي حتى يفنيها الزمن، بين رغبة لا تتجاوز سقف راتب شهري تأكله الديون يوم تسلمه، ورهبة تلازم الفرد المغلوب على أمره ليل نهار، وهو يتابع يوميات القتل والإبادة لبني البشر بالحصار والنهب والحرب والجوع والتخلف الذي تزداد وطأته على دول العالم الثالث في كل يوم، وإنذارات التسمم بعدوى أنفلونزا الطيور التي يتسع مداها في كل حين، وجنون البقر، وما قد يتبع ذلك من نزيف حاد لكل ثروات أرضنا الطبيعية البرية والبحرية والجوية، فيتضاعف حزن الفرد منا وتزداد همومه أكثر فأكثر….
ما أظن إلا أن أمنا الأرض قد تعبت من عناد بعض الآدميين وعيثهم وعبثهم بمائها وهوائها وترابها، أو أصبحت عاجزة عن غسل أوضار جميع البشر….
الزمن الافتراضي الذي نعيشه أمام الحواسب واسع كالخيال، وهو أشبه ما يكون بحلم لذيذ، يستغرقك ويستحوذ عليك ويأسرك قدرا لا يستهان به من الزمن، وقد تتورم رجلاك من الجلوس الطويل، وتتعب عيناك فتعلوهما حمرة أوغشاوة، بسبب التحديق الطويل وتقليب صفحات الأنترنت التي تتمنى أن تتوقف ولا تتوقف، حتى يدفعك إجهاد بدنك وألم كتفيك إلى فصل التيار الكهربائي عن الجهاز قسرا، وعندها فقط تتمكن من إيقاف مجرى وادي السليكون الذي يمتد إلى جهازك حيث أنت..
وعندما تأوي إلى فراشك ينحسر عنك ستار الحقيقة الافتراضية الواسعة الحالمة، وفي الصباح يلوح أمامك ستار الحقيقة الواقعية الضيقة، على إيقاع يومياتك الروتينية التي لا يتغير من حقيقة مكانها شئ إلا بعدد ما يفقده مرور الأيام من عدد شعرات رأسك ، ودبيب الشيب إلى ما تبقى منها، ووهن العظام من جر أقدامك، جيئة وذهابا، في أمكنة صارت مرصودة ومحصورة ومحسوبة عليك. وهي لا تعدو أن تكون نقطة ماء بالنسبة إلى بحر الأنترنت ..
وتلك أعجوبة أخرى من أعاجيب مفارقات الزمان والمكان..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق