السبت، 9 فبراير 2008

مذكرات عربية قديمة عن بلاد الروس

كتب يوم الجمعة,شباط 10, 2006

استطاع العباسيون أن يمدوا نفوذهم على بقاع شاسعة من عالم ذلك الزمن، وكان خراجهم واسعا عريضا لا تغيب عنه الشمس، كما قيل.

ولم يقنعوا بما وقع تحت أيديهم من البلدان المعروفة آنذاك في آسيا وإفريقية وأوربا، بل تطلعت عيونهم إلى ما وراء نهر جيحون، من البلاد الروسية المجهولة آنذاك، حيث صحاري الصقيع الممتدة و حيث مياه الأنهار والبحار الجامدة.

وهذا، حسب علمنا المتواضع، أمر لم يجرؤ أحد من قبلهم على الإقدام عليه، بسبب ما كان يكتنف ذلك العالم المجهول، خلف النهر المذكور، من غموض، وما يحدق به من أخطار.

وكل هذا قبل أن تتضح صورة الأرض عند العرب والمسلمين تدريجيا من خلال الكتب والرسائل والمذكرات التي عنيت بالمسالك والممالك من قبل كثير من الرحالة والجغرافيين القدماء كابن خرذابة وابن حوقل والإصطخري وغيرهم كثير.

ومعلوم أن الذي شجع الجغرافيين والرحالة على رسم حدود الأصقاع والأقاليم النائية هو رغبة الدولة في تحصيل مزيد من المال والخراج. و لكن، ذهب المال والخراج إلى حال سبيله وبقي العلم والوصف والكلام مسجلا عبورهم ومرورهم بشتى أصقاع الدنيا.

فكيف كانت صورة بلاد روسيا آنذاك؟! لا شك أنها كانت تختلف تماما عما نعرفه ونراه الآن. وكيف انطبعت معالمها الأولى في أذهان أول القادمين عليها من العرب والمسلمين، سواء أكانوا من الرحالة أو الدعاة المبلغين لرسالة الإسلام، أو أصحاب السفارات الرسمية الممثلين للدولة العباسية في بعض أمورها السياسية والاستراتيجية، أو حتى من التجار الذين يجوبون بسلعهم بحثا عن أسواق جديدة أوالمغامرين والجوالين الذين يستجيبون لرغباتهم وهواياتهم الخاصة في البحث والاستكشاف.؟!

وحقيقة تلك الصورة التي يجهلها كثير منا هي ما تكشفه وثيقة نادرة نشرت، في طبعتها الأولى، عن مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1959، بتحقيق المرحوم الدكتور سامي الدهان، بعد أن لفتت أنظار الباحثين والمستشرقين من الروس والألمان.
ثم طبعت أيضا طبعة أخرى سهلة و ميسرة، ضمن سلسلة ( المختار من التراث العربي)، السلسلة رقم:3.

وقد صنف تلك الرسالة ابن فضلان. وهو أحمد بن العباس بن راشد بن حماد برسم الخليفة العباسي المقتدر بالله بويع بالخلافة سنة 295 هجرية وعمره لا يتجاوز ثلاث عشرة سنة، وقتل سنة 320 هجرية. ولكن رغم اضطراب أمر هذا الخليفة فقد استطاع وزراؤه القيام بأعمال كثيرة جليلة، وعلى رأسهم ابن الفرات.

وابن فضلان هو الذي عهد إليه الخليفة المقتدر رئاسة الوفد الرسمي إلى بلاد الروس والخزر والبلغار والصقالبة، بعد أن وصلت إليه إشارات من تلك البلاد البعيدة في شأن طلب العون والمساعدة. فقد كانت سمعة ومهابة العباسيين تملأ أرجاء الدنيا آنذاك.

وانطلقت رحلة الوفد من بغداد يوم الخميس 11 صفر 309 هج ، في اتجاه أرض الصقالبة التي حطت بها الرحال يوم الأحد 12 محرم 310 هج بعد أحد عشر شهرا من مكابدة البرد والصقيع و أهوال ومخاطر الطريق التي لم تكن تخلو من اللصوص وقطاع الطرق، وقد وصف ابن فضلان كل ذلك وصفا دقيقا مشوقا.

أما الآن فنعرض لبعض مشاهد ذلك الوصف اقتبسناها عن سلسلة ( المختار من التراث العربي)، تاركين للقارئ المجال للتأمل والتعليق، وليقرن ذلك بما عرضناه سابقا من فصول ومذكرات أسامة بن منقذ عن الصليبيين، في إدراج سابق.
وهذه بعض فصولها العجيبة، مع الاعتذار المسبق عن بعض المشاهد المقززة.

قال في المقطع رقم: 13 ، واصفا قوما من الترك يقال لهم ( الباشغرد):

ووقفنا في بلاد قوم من الأتراك يقال لهم الباشغرد فحذرناهم أشد الحذر. وذلك أنهم شر الأتراك وأقذرهم، وأشدهم إقداما على القتل، يلقى الرجلُ الرجلَ فَيَفْزِرُ هامته ويأخذها ويتركه، وهم يحلقون لحاهم، ويـأكلون القمل، يتتبع الواحد منهم درز قرطقه(1) فيقرض القمل بأسنانه، ولقد كان معنا منهم واحد قد أسلم، وكان يخدمنا فرأيته وجد قملة في ثوبه فقصعها بظفره ثم لحسها وقال لما رآني: جيد..!!!

وقال في المقطع رقم: 16، في وصف عجائب أرض الصقالبة، ومنها قصر الليل إلى أقصى حد ممكن، خلال بعض أيام السنة:

ودخلت أنا وخياط كان للملك من أهل بغداد - قد وقع إلى تلك الناحية - قبتي لنتحدث، فتحدثنا بمقدار ما يقرأ إنسان أقل من نصف سبع، ونحن ننتظر أذان العتمة، فإذا بالأذان، فخرجنا من القبة وقد طلع الفجر. فقلت للمؤذن: أي شئ أذنت؟ قال: أذان الفجر. فقلت : فالعشاء الآخرة؟ قال: نصليها مع المغرب. قلت: فالليل؟ قال : كما ترى، وقد كان أقصر من هذا إلا أنه قد أخذ في الطول..!!

وقال في المقطع رقم: 17 في وصف غريب الأشجار ببلادهم:

ورأيت لهم شجرا لا أدري ما هو، مفرط الطول وساقه أجرد من الورق، ورؤوسه كرؤوس النخل، له خوص دقاق، إلا أنه مجتمع، يجيئون إلى موضع يعرفونه من ساقه فيثقبونه، ويجعلون تحته إناء فتجري إليه من ذلك الثقب ماء أطيب من العسل، إن أكثر الإنسان منه أسكره كما يسكر الخمر.

وقال في المقطع رقم: 18 في وصف سباحتهم المختلطة رجالا ونساء:

وينزل الرجال والنساء إلى النهر فيغتسلون جميعا عراة لا يستتر بعضهم من بعض، ولا يزنون بوجه ولا سبب…
وما زلت أجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة فما استوى لي ذلك، ويقتلون السارق كما يقتلون الزاني.

وقال في المقطع رقم 22 في وصف نظافة الروسية:

ولابد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ما يكون وأطفسه(2)، وذلك أن الجارية توافي كل يوم بالغداة، ومعها قصعة كبيرة فيها ماء، فتدفعها إلى مولاها فيغسل فيها يديه ووجهه وشعر رأسه فيغسله ويسرحه بالمشط في القصعة ثم يتمخط ويبصق فيها، ولا يدع شيئا من القذر إلا فعله في ذلك الماء، فإذا فرغ مما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي إلى جانبه ففعل مثل فعل صاحبه، ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت، وكل واحد منهم يتمخط ويبصق فيها ويغسل وجهه و شعره فيها ).

هذا غيض من فيض مما ذكره ابن فضلان من عادات الروس وطقوسهم الغريبة في الحياة والزواج والدفن وأمور أخرى جنسية فظيعة قفزنا عنها خجلا وحياء من القارئ، فليطالعها من شاء في الكتاب المطبوع المشار إليه سابقا.
———–
هامش:
(1) يقصد الموضع الذي يجتمع فيه طرفا الثوب ويكون خشنا ومرتفعا عما سواه.
(2) يقصد بالطفس الإناء أو القدر النجس.

ليست هناك تعليقات: