كتب يوم الأحد,شباط 12, 2006
استطاعت حركة الرحلة، (سواء تعلق الأمر برحلة الأشخاص أم برحلة الأفكار) أن تربط ربطا ثقافيا وأخويا وروحيا وثيقا بين كثير من جهات المشرق والمغرب، في التاريخ القديم بخلاف ما عليه الوضع الآن(1).
وكان القائمون بهذه الرحلة لا يكتفون بأداء مناسك الحج والعمرة، أو طلب العلم وأخذه عن رجالاته ورواته المشهورين في المشرق، بل جعلوا الحج منطلق رحلتهم الواسعة الممتدة؛ فمن مصر والحجاز كانت تنطلق سياحتهم الطويلة إلى الشام حيث المسجد الأقصى، والعراق حيث بغداد دار السلام، و حيث المدارس النظامية المشهورة بفطاحل علمائها ووعاظها وأدبائها، وخراسان حيث الفقه وعلم الكلام، بل امتدت الرحلة ببعضهم إلى جهات نائية من بلاد الهند والصين، حتى أن أحدهم لقب نفسه ب( الصيني)، كما أشار إلى ذلك أصحاب التراجم المغربية والأندلسية.
وكان هؤلاء المرتحلون يستطلعون في كل مكان وصلوه عن أخبار الناس وأحوالهم الخاصة والعامة، ويسجلون كل ذلك في كتبهم ومذكراتهم ، كما كان العلماء منهم يحرصون على أخذ الإجازات والشهادات والمرويات والمنقولات العلمية يدا بيد عن فطاحل العلماء المسلمين بكل أرض وطأتها أقدامهم.
ولم يقفوا عند حدود استطلاع ورصد أخبار أهل المشرق الخاصة والعامة، بل شاركوهم حياتهم وأسهموا في تلك الحركة العلمية نفسها التي كانوا يلهثون وراءها، وصاروا من أقطابها، ثم خلقوا لها امتدادات أخرى جديدة في كثير من بلاد المغرب أو الأندلس عندما رجعوا إليها، ومنهم من اختار الإقامة بالمشرق وكون هناك أسرة جديدة وأصهارا وأنسابا، ومنهم من استشهد محاربا ومدافعا عن حوزة الإسلام و مقدساته في المعارك الكبرى التي خاضها المسلمون ضد الصليبيين والمغول.
وهذه بعض الأخبار المتفرقة تشهد على مواقف المغاربة البطولية إلى جانب إخوانهم المجاهدين في المشرق في الإصلاح بالقلم أو السنان:
فقد كان الإمام الشاذلي المعروف في عالم التصوف يلقن العلم في المدرسة (الكاملية) في القاهرة، كما كان من المجاهدين في سبيل الله، وقد أبلى البلاء الحسن في مقاومة الغارة الفرنسية على مصر في عهد لويس التاسع، كما جاهد في صفوف جيوش الظاهر بيبرس المملوكي.
كما شارك الفقيه يوسف بن محمد بن عبد الله بن يحيى البلوي في الجهاد إلى جانب المنصور الموحدي بالمغرب، ثم إلى جانب صلاح الدين الأيوبي بالشام.(صلة الصلة، القسم الأخير، ص 217، ترجمة رقم: 426.)
وذكر المؤرخ عبد اللطيف البغدادي عندما وصف منازلة صلاح الدين على عكا سنة 583- وهي السنة التي تم فيها استرجاع بيت المقدس- أنه كان في العسكر أكثر من ألف حمام، وكان أكثر من يتولاها المغاربة. (السلوك لمعرفة دول الملوك،ج1/ ص 94.)
وكان للمغاربة مواقف وبطولات مشهودة ضد الأعداء والغزاة الصليبيين، مما جعلهم يترصدونهم ويضيقون عليهم. وقد سجل ابن جبير في رحلته المشهورة- بهذا الخصوص-أن المغاربة الذين هبوا من بلادهم في اتجاه المشرق للدفاع عن الأراضي المقدسة ألزمهم الصليبيون بعكا ضريبة مكسية دون سواهم، (وذلك لمقدمة منهم أحفظت الفرنج.)
وحتى المشارقة أنفسهم اعترفوا للمغاربة بهذا الجهد، وأثنوا عليهم، وأظهروا لأجل ذلك اهتماما خاصا بهم، سواء في عهد نور الدين محمود الأتابكي الزنكي الشهيد، أو في عهد خلفه في الإصلاح والجهاد صلاح الدين الأيوبي، كما تدل على ذلك صفحات عدة من رحلة ابن جبير نفسه. فمما قاله ابن حبير عن نور الدين محمود أنه نذر في مرض أصابه تفريق اثني عشر ألف دينار في فداء أسرى من المغاربة…
أما المغاربة الذين لم يسعفهم الحظ في الجهاد الفعلي بأرض الشام لعوائق شتى كالبعد وصعوبة الرحلة في ذلك الوقت، فظلت قلوبهم متعلقة إلى بيت المقدس بالصلاة والدعاء، ترقبا وتطلعا إلى ذلك اليوم الذي يرد فيه بيت المقدس على المسلمين.
ولعل خير دليل على ذلك ما قام به الفقيه أبو زكريا يحيى بن الحاج اللبلي الأصل ( لبلة منطقة بالأندلس)، ثم المراكشي النشأة عندما استخرج تاريخ ذلك الفتح العظيم من بعض الآيات القرآنية الكريمة. وهذا ما أشار إليه ابن الزبير عندما أدرج ترجمته في كتابه ( صلة الصلة، ص 370، طبعة المغرب، الرباط)، قال:
وهو الذي استخرج من تفسير أبي الحكم بن برجان من كلامه على سورة (الم غلبت الروم) فتح بيت المقدس في الوقت الذي فُتِح فيه على المسلمين، وحقق وعين ما كان أغمض فيه ابن برجان وأبهم. ووقف عليه المنصور، فبقي مترقبا له ومعتنيا في نفسه به حتى كان ذلك على حسب ما قاله، فأمر أن يحضر مجلسه، ويرتسم في جملة طلبته).
ويدل كلام ابن الزبير على مدى اهتمام يعقوب المنصور الموحدي بفتح بيت المقدس الذي كان خير وأهم ما أثمره جهاد معاصره صلاح الدين وجهاد جميع المسلمين المخلصين معه من كافة بلاد الإسلام.
ولعل في هذا الخبر الطريف بعض ما يخفف من شأن قصة الخلاف بينهما، تلك القصة التي أشار إليها بعض القدماء ونفخ فيها بعض الدارسين المعاصرين للتشكيك في مظاهر الوحدة العميقة التي كانت تجمع المشرق والمغرب آنذاك.
ومهما قيل عن قصة الخلاف المذكور، وعن مبرراته فإنها لن تستطيع نسف بناء الوحدة الشامخ الذي تحقق في بلاد المشارق كلها بزعامة الأيوبيين، وفي بلاد المغارب كلها بفضل قيادة الموحدين.
وفي عهدهما معا، ولأول مرة في تاريخ الأمة الإسلامية عرف جناحا العالم الإسلامي أكبر تقارب ممكن بينهما؛ إذ كانت دولة المشرق الأيوبية تتصل اتصالا مباشرا بدولة المغرب الموحدية دون أن تقوم بينهما دولة أخرى فاصلة، وخاصة بعد أن زالت الدولة الفاطمية بمصر.
وهذا وضع لم يكتب له مع الأسف أن يتحقق أو يتكرر في تاريخ العرب والمسلمين حتى الآن. ومما قوى عناصر الوحدة بينهما أكثر تماثلهما وتكاملهما وسيرهما على خط واحد من العدل والإصلاح والبناء والجهاد.
ولذلك لم يكن مستغربا أن يجئ انتصار الموحدين الحاسم في (الأرك) سنة 591هجرية، قريبا في الزمن عن انتصار الأيوبيين في حطين سنة 583 هجرية.
ما أحوجنا اليوم إلى درس الوحدة هذا!!، وهل ما تعرفه أمتنا اليوم من ضعف وهوان وخور واستسلام إلا بسبب انفراط عقد الوحدة الثمين ؟! وانصياعنا وانبطاحنا وخضوعنا التام لإرادة الأعداء المستعمرين الغاصبين لأرضنا الناهبين لثرواتنا.
متى ندرك أن قوتنا في وحدتنا؟! متى نتخلص من أنانيتنا واستئسادنا على بعضنا البعض، شعوبا وحكاما بخطاب التفرقة العنصرية البغيضة والنزعات القبلية والإقليمية والمحلية الضيقة؟؟.
لقد ضيعنا حقوق ديننا علينا حتى أصبح عرضة لسخرية الساخرين ونبز الحاقدين. وفرطنا في مكتسبات أجدادنا الخالدة وصارت أثرا بعد عين نقرأ عنها في الكتب بحسرة ولوعة…!!
———
هامش: يراجع إدراج سابق تحت عنوان: حلم الهجرة العربية.
استطاعت حركة الرحلة، (سواء تعلق الأمر برحلة الأشخاص أم برحلة الأفكار) أن تربط ربطا ثقافيا وأخويا وروحيا وثيقا بين كثير من جهات المشرق والمغرب، في التاريخ القديم بخلاف ما عليه الوضع الآن(1).
وكان القائمون بهذه الرحلة لا يكتفون بأداء مناسك الحج والعمرة، أو طلب العلم وأخذه عن رجالاته ورواته المشهورين في المشرق، بل جعلوا الحج منطلق رحلتهم الواسعة الممتدة؛ فمن مصر والحجاز كانت تنطلق سياحتهم الطويلة إلى الشام حيث المسجد الأقصى، والعراق حيث بغداد دار السلام، و حيث المدارس النظامية المشهورة بفطاحل علمائها ووعاظها وأدبائها، وخراسان حيث الفقه وعلم الكلام، بل امتدت الرحلة ببعضهم إلى جهات نائية من بلاد الهند والصين، حتى أن أحدهم لقب نفسه ب( الصيني)، كما أشار إلى ذلك أصحاب التراجم المغربية والأندلسية.
وكان هؤلاء المرتحلون يستطلعون في كل مكان وصلوه عن أخبار الناس وأحوالهم الخاصة والعامة، ويسجلون كل ذلك في كتبهم ومذكراتهم ، كما كان العلماء منهم يحرصون على أخذ الإجازات والشهادات والمرويات والمنقولات العلمية يدا بيد عن فطاحل العلماء المسلمين بكل أرض وطأتها أقدامهم.
ولم يقفوا عند حدود استطلاع ورصد أخبار أهل المشرق الخاصة والعامة، بل شاركوهم حياتهم وأسهموا في تلك الحركة العلمية نفسها التي كانوا يلهثون وراءها، وصاروا من أقطابها، ثم خلقوا لها امتدادات أخرى جديدة في كثير من بلاد المغرب أو الأندلس عندما رجعوا إليها، ومنهم من اختار الإقامة بالمشرق وكون هناك أسرة جديدة وأصهارا وأنسابا، ومنهم من استشهد محاربا ومدافعا عن حوزة الإسلام و مقدساته في المعارك الكبرى التي خاضها المسلمون ضد الصليبيين والمغول.
وهذه بعض الأخبار المتفرقة تشهد على مواقف المغاربة البطولية إلى جانب إخوانهم المجاهدين في المشرق في الإصلاح بالقلم أو السنان:
فقد كان الإمام الشاذلي المعروف في عالم التصوف يلقن العلم في المدرسة (الكاملية) في القاهرة، كما كان من المجاهدين في سبيل الله، وقد أبلى البلاء الحسن في مقاومة الغارة الفرنسية على مصر في عهد لويس التاسع، كما جاهد في صفوف جيوش الظاهر بيبرس المملوكي.
كما شارك الفقيه يوسف بن محمد بن عبد الله بن يحيى البلوي في الجهاد إلى جانب المنصور الموحدي بالمغرب، ثم إلى جانب صلاح الدين الأيوبي بالشام.(صلة الصلة، القسم الأخير، ص 217، ترجمة رقم: 426.)
وذكر المؤرخ عبد اللطيف البغدادي عندما وصف منازلة صلاح الدين على عكا سنة 583- وهي السنة التي تم فيها استرجاع بيت المقدس- أنه كان في العسكر أكثر من ألف حمام، وكان أكثر من يتولاها المغاربة. (السلوك لمعرفة دول الملوك،ج1/ ص 94.)
وكان للمغاربة مواقف وبطولات مشهودة ضد الأعداء والغزاة الصليبيين، مما جعلهم يترصدونهم ويضيقون عليهم. وقد سجل ابن جبير في رحلته المشهورة- بهذا الخصوص-أن المغاربة الذين هبوا من بلادهم في اتجاه المشرق للدفاع عن الأراضي المقدسة ألزمهم الصليبيون بعكا ضريبة مكسية دون سواهم، (وذلك لمقدمة منهم أحفظت الفرنج.)
وحتى المشارقة أنفسهم اعترفوا للمغاربة بهذا الجهد، وأثنوا عليهم، وأظهروا لأجل ذلك اهتماما خاصا بهم، سواء في عهد نور الدين محمود الأتابكي الزنكي الشهيد، أو في عهد خلفه في الإصلاح والجهاد صلاح الدين الأيوبي، كما تدل على ذلك صفحات عدة من رحلة ابن جبير نفسه. فمما قاله ابن حبير عن نور الدين محمود أنه نذر في مرض أصابه تفريق اثني عشر ألف دينار في فداء أسرى من المغاربة…
أما المغاربة الذين لم يسعفهم الحظ في الجهاد الفعلي بأرض الشام لعوائق شتى كالبعد وصعوبة الرحلة في ذلك الوقت، فظلت قلوبهم متعلقة إلى بيت المقدس بالصلاة والدعاء، ترقبا وتطلعا إلى ذلك اليوم الذي يرد فيه بيت المقدس على المسلمين.
ولعل خير دليل على ذلك ما قام به الفقيه أبو زكريا يحيى بن الحاج اللبلي الأصل ( لبلة منطقة بالأندلس)، ثم المراكشي النشأة عندما استخرج تاريخ ذلك الفتح العظيم من بعض الآيات القرآنية الكريمة. وهذا ما أشار إليه ابن الزبير عندما أدرج ترجمته في كتابه ( صلة الصلة، ص 370، طبعة المغرب، الرباط)، قال:
وهو الذي استخرج من تفسير أبي الحكم بن برجان من كلامه على سورة (الم غلبت الروم) فتح بيت المقدس في الوقت الذي فُتِح فيه على المسلمين، وحقق وعين ما كان أغمض فيه ابن برجان وأبهم. ووقف عليه المنصور، فبقي مترقبا له ومعتنيا في نفسه به حتى كان ذلك على حسب ما قاله، فأمر أن يحضر مجلسه، ويرتسم في جملة طلبته).
ويدل كلام ابن الزبير على مدى اهتمام يعقوب المنصور الموحدي بفتح بيت المقدس الذي كان خير وأهم ما أثمره جهاد معاصره صلاح الدين وجهاد جميع المسلمين المخلصين معه من كافة بلاد الإسلام.
ولعل في هذا الخبر الطريف بعض ما يخفف من شأن قصة الخلاف بينهما، تلك القصة التي أشار إليها بعض القدماء ونفخ فيها بعض الدارسين المعاصرين للتشكيك في مظاهر الوحدة العميقة التي كانت تجمع المشرق والمغرب آنذاك.
ومهما قيل عن قصة الخلاف المذكور، وعن مبرراته فإنها لن تستطيع نسف بناء الوحدة الشامخ الذي تحقق في بلاد المشارق كلها بزعامة الأيوبيين، وفي بلاد المغارب كلها بفضل قيادة الموحدين.
وفي عهدهما معا، ولأول مرة في تاريخ الأمة الإسلامية عرف جناحا العالم الإسلامي أكبر تقارب ممكن بينهما؛ إذ كانت دولة المشرق الأيوبية تتصل اتصالا مباشرا بدولة المغرب الموحدية دون أن تقوم بينهما دولة أخرى فاصلة، وخاصة بعد أن زالت الدولة الفاطمية بمصر.
وهذا وضع لم يكتب له مع الأسف أن يتحقق أو يتكرر في تاريخ العرب والمسلمين حتى الآن. ومما قوى عناصر الوحدة بينهما أكثر تماثلهما وتكاملهما وسيرهما على خط واحد من العدل والإصلاح والبناء والجهاد.
ولذلك لم يكن مستغربا أن يجئ انتصار الموحدين الحاسم في (الأرك) سنة 591هجرية، قريبا في الزمن عن انتصار الأيوبيين في حطين سنة 583 هجرية.
ما أحوجنا اليوم إلى درس الوحدة هذا!!، وهل ما تعرفه أمتنا اليوم من ضعف وهوان وخور واستسلام إلا بسبب انفراط عقد الوحدة الثمين ؟! وانصياعنا وانبطاحنا وخضوعنا التام لإرادة الأعداء المستعمرين الغاصبين لأرضنا الناهبين لثرواتنا.
متى ندرك أن قوتنا في وحدتنا؟! متى نتخلص من أنانيتنا واستئسادنا على بعضنا البعض، شعوبا وحكاما بخطاب التفرقة العنصرية البغيضة والنزعات القبلية والإقليمية والمحلية الضيقة؟؟.
لقد ضيعنا حقوق ديننا علينا حتى أصبح عرضة لسخرية الساخرين ونبز الحاقدين. وفرطنا في مكتسبات أجدادنا الخالدة وصارت أثرا بعد عين نقرأ عنها في الكتب بحسرة ولوعة…!!
———
هامش: يراجع إدراج سابق تحت عنوان: حلم الهجرة العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق