الأحد، 10 فبراير 2008

بغداد … تعددت الأسباب والموت واحد

كتب يوم الجمعة,شباط 24, 2006

لم أقرا في تاريخ العرب والمسلمين تاريخا أكبر من تاريخ بغداد، يفنى العمر في قراءته ولا ينفد، ولم أقرأ في تاريخ المدن بهجة أكبر من بهجة بغداد، ولا حزنا أكبر من حزن بغداد، ولا جرحا أكبر من جرح بغداد، ولا عرسا ولا طلاقا، ولا ظلما ولا عدلا، ولا ألفة ولا فتنة، ولا خيرا ولا شرا أكبر من هذا كله ومن غيره… الكل في بغداد وبها ومنها وإليها، من النقيض إلى النقيض..

بغداد مدينة إذا غلب خيرها وخير الوافدين عليها فاضت وأينعت، وإذا غلب شرها وشر الوافدين عليها غاضت وأمحلت.

مدينة كبرت وفطمت، وزفت وولدت، و شاخت وعقرت ساعة ميلادها. فاختصرت أعمارا في عمر واحد فريد هو عمرها الذي لازالت تحياه إلى الآن، مترددة بين الحلم واليقظة، وبين البداية والنهاية، من لدن انبثاق دعوة العباسيين إلى انفراط عقد البعثيين…

مدينة عجيبة غريبة، تسلخ جلدها وتجدد حياتها في كل يوم ألف مرة، مدينة خلقت للرهبة والرغبة، وللموت والحياة. ما ضاقت إلا اتسعت، وما اتسعت إلا ضاقت، (ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل)، شطر بليغ من قصيدة طويلة لامية قالها الشاعر الطغرائي في حقها حين أبعدته وطردته وصادرته، يئست منه وما يئس…

وكم هارب من بغداد أو من العراق قد وجد بأرض الشام أو الكنانة أو الأندلس أو المغرب مستقرا وملاذا من عهد المتنبي إلى الجواهري والبياتي، ومن عهد زرياب إلى كاظم الساهر…

بغداد إذا شاءت أقصت الداني وأدنت القاصي، وإذا جاعت أكلت من لحم القريب والبعيد، وإذا ظمئت شربت من دمهما ثم طلبت المزيد…

ما أرخص اللحم عندها حين تجوع، وما أهون الدم لديها حين تظمأ، مدينة لا تشبع من ماء دجلة والفرات حتى تمزجه بشريان القلوب.

مدينة فتنت الشعراء والأدباء، وألهمت الحكماء والعلماء، وأوت الأغنياء والفقراء، وجمعت الزهاد والمجان، والحمقى والعقلاء، واللصوص والفتيان، والغلاة والمتطرفين من القرامطة والباطنية والحشاشين إلى آخر سلالتهم من الإرهابيين والزرقاويين….

وحتى الجبابرة والطغاة، من أبي جعفر السفاح إلى صدام، ومن هولاكو وتيمورلنك إلى بوش الأكبر والأصغر… الكل في العالم، وكل العالم في بغداد….

الكل يخطب ود بغداد وينشد عندها ضالة معينة، عزا أو جاها أو استراتيجية، ظلا أو وهما، حقا أو باطلا، بحد السيف، أو بطعنة مدية قاتلة، أو بالقصف البري والجوي والبحري، أو بالتفجير عن بعد بالقنابل الموقوتة، أو بالانتحار عن قرب بالأحزمة الناسفة، أجسام تقتل أجساما، وأشلاء تمزق أجساما وأكثر الموتى ضحايا الخبط والعشوائية…

الكل يحب بغداد على شاكلته، منهم من يحبها رغبة، ومنهم من يحبها رهبة، ومنهم من يحبها ديانة، ومنهم من يحبها سياسة، ومنهم من يريدها لنفسه، ومنهم من يريدها لغيره، ومنهم من يحبها لذاتها وصفاتها، ومنهم من يحبها لترابها، ومنهم من يحبها لمائها وهوائها، ومنهم من يحبها لجمالها، ومنهم من يحبها لجاهها وتراثها ومنهم من يحبها لموقعها وثرواتها …. تعددت أسباب حب بغداد والموت واحد..

كم عرفت بغداد من خلافة ومن دولة، ومن دولة صغيرة داخل الدولة، ومن وزارة داخل الوزارة، ومن مذهب داخل مذهب، ومن ملة ومن نحلة… تشعبت الأهواء، وكثر الخطاب، والطريق إلى قلب بغداد واحد…

وكل واحد من الخطاب أخذ نصيبه قاتلا أو مقتولا، بانيا أو هادما، محسنا أو مسيئا، منهم من قضى نحبه، وطويت صفحته، ومنهم من ينتظر من الأيام تسويدها وتبييضها …

وهاهو الدور الآن قد حان على بوش ومن أغراه بها، وقد جاء أول مرة يخطب ود بغداد وود أهلها العراقيين بالمكر والخديعة، وادعى الخوف والإشفاق عليها والنصرة لها من الصداميين والبعثيين، ومن الأشرار والإرهابيين أعداء الحرية والديموقراطية.

وعندما أعيته الحيل والمراوغات داخل هيئة الأمم المتحدة وغير المتحدة، وطال صبره وانتظاره استعجله الشبق الجارف إليها حتى جن جنونه فما تردد ولا استشار ولا احتسب للعواقب أو نظر، فغصبها على نفسها أمام العالم قهرا وعدوانا ورغم أنفها وأنف العراقيين و العرب والعالم أجمع؛ فسفك دمها، وأباح عرضها، وكشف عورتها للصديق والعدو، والشريف والوضيع، والشامت والحاسد..

لقد طالت سنوات القتل والدمار، والفساد والعار على أرض العراق منذ أن وطئتها جيوش أمريكا بأحذيتها الثقيلة المهينة، وصارت في قبضتها رهينة حبس مؤجل، ووعود كاذبة، وآمال زائفة كالسراب.. في انتظار أن يسقى الكمون، أو تنضج طبختها التي لن تنضج أبدا، أو تهدأ عاصفة الإرهاب التي لن تهدأ أبدا…

ما قرأت في تاريخ بغداد لؤما وشؤما واستباحة وموتا بالجملة والتقسيط وقع على الشعب العراقي الشقيق من عدو كالذي رأيته من أمريكا.

وفي هذه الأيام التي تأججت فيها نيران الفتنة والطائفية، وخاصة بين الشيعة والسنة، اختلط الحابل بالنابل أكثر من أي وقت مضى، واتسع الفتق على الراقع، فلا من يسأل، ولا من يجيب.

ليست هناك تعليقات: