كتب يوم السبت,شباط 04, 2006
الورقة الثانية: إكمال بناء صومعة إشبيلية وتعليق التفافيح:
استمر البناء في مسجد إشبييلية إلى عهد الخليفة الموالي أبي يوسف، ولم توضع اللمسات الأخيرة النهائية، بتعليق التفافيح بأعلى الصومعة إلا بعد فراغ هذا الخليفة من غزوة الأرك في شهر شعبان من سنة 591 هجرية.
وكان انتصار الموحدين على نصارى الأندلس بقيادة ملكهم ( أذفونش ) في هذه المعركة الحاسمة، علامة مميزة في تاريخ الموحدين خاصة، والمغرب عامة، وبداية عهد جديد من البناء والإصلاح والإشعاع مكن المسلمين بجهود المغاربة المخلصين من ترسيخ أقدامهم لسنوات عديدة أخرى على أرض الأندلس، فردوس المسلمين المفقود.
وفي هذه الورقة الثانية سنقصر حديثنا على كيفية بناء صومعة أو منارة إشبيلية، ورفع التفافيح المذهبة بأعلاها في يوم حافل مشهود بعد ذلك الانتصار الرائع الذي أحرزه الموحدون، وكأنهم كانوا على موعد مع التاريخ ليختم لهم بحسنى الجهاد، وحسنى البناء والتشييد لتتم لهم كلمة التوحيد التي ناضلوا من أجلها منذ بداية دعوتهم.
ومن المعلوم لدى المؤرخين ودارسي الآثار، وحتى لدى المراقب العادي التشابه الكبير، من حيث الشكل والتخطيط، بين بناء منارة إشبيلية الأندلسية ومنارة الكتبية المراكشية وحسان الرباطية التي لم يكتب لها أن تكتمل كأخوتيها.
ولا زالت منارة الكتبية بمراكش شامخة بعد الفراغ من ترميمها في السنوات الأخيرة، وهي تعد بمثابة القلب النابض لهذه المدينة، وإليها تأوي أفئدة السواح القادمين إلى مراكش من شتى بلدان العالم، وليس بينها وبين ساحة جامع الفنا العجيبة إلا بضع خطوات.(1)
وبالعودة إلى تفاصيل بناء منارة إشبيلية نلاحظ أن هذا البناء قد تم بشكل متقطع زمنيا، ولم يستأنف هذا البناء بشكل جدي نسبيا إلا سنة 584 هجرية، وتحت إشراف أبي بكر بن زهر هذه المرة، كما أشار إلى ذلك ابن صاحب الصلاة.
غير أن الجديد الذي نسجله هوأن عملية إكمال المشروع قد عهدت هذه المرة إلى المهندس المغربي علي الغماري الذي حل محل أحمد بن باسة المذكور آنفا، في الورقة الأولى.
كما يلاحظ أن المشرفين على البناء والمهندسين والبنائين والعرفاء ربما كانوا يتنقلون بين العدوتين بالتناوب، أو ربما لأنهم كانوا ينجزون عمليات البناء في المساجد الثلاثة المذكورة آنفا، في نفس الوقت، باعتبارها مشروعا واحدا للدولة، وإن تباينت المسافة بينها كثيرا. و يفسر ذلك أن على الغماري نفسه كان دائم المراوحة بين حضرة مراكش وإشبيلية.
وأول ما قام به علي الغماري هذا تعديل ما اختل من بناء جامع إشبيلية في السنوات السابقة من جهاته الأربع، أومن جهة دعاماته، أو من جهة حيطانه وسقوفه .
كما أضاف إليه إضافات جديدة كوضع الشمسيات الزجاجية، وإحكام تسقيف سطوحه بالآجر من الخارج .
وذكر ابن صاحب الصلاة في أمر بناء الصومعة أمرا عجيبا، وهو أنها صنعت بغير أدراج، وأنه كان يصعد إليها في طريق واسعة للدواب والناس والسدنة.
ودامت أشغال بناء تلك الصومعة بشكل متقطع أعواما كان الغماري يراوح خلالها بين العدوتين، ولن تأخذ هذه الصومعة شكلها النهائي بتعليق التفافيح بأعلى صومعة الصومعة(2) إلا بعد مضي ثلاث سنوات عن معركة الأرك.
واليك الآن عزيزي القارئ وصف المؤرخ ابن صاحب الصلاة لعملية نصب التفافيح بأعلى المنارة بعد أن تم الفراغ منها، قال:
…. فلما وصل أمير المؤمنين وهزم الله اذفونش الطاغية أهلكه الله على ما ذكرته أمر رضي الله عنه في مدة إقامته بإشبيلية بعمل التفافيح الغريبة الصنعة، العظيمة الرفعة، الكبيرة الجرم، المذهبة الرسم، الرفيعة الإسم والجسم، فرفعت في منارها بمحضره.
وحضر المهندسون في إعلائها على رأيه وبلوغ وطره مركبة في عمود عظيم من الحديد مرسى أصله في بنيان أعلى صومعة الصومعة أعلاها، زنة العمود مائة وأربعون ربعا من حديد، موثقا هناك في تلاحك ( أي تلاحم ) البنيان بارز طرفه الحامل لهذه الأشكال المسماة بالتفافيح إلى الهواء، يكابد من زعازع الرياح وصدمات الأمطار ما يطول التعجب منه من مقاومته وثباته.
وكان عدد الذهب الذي طليت به هذه التفافيح الثلاث الكبار والرابعة الصغرى سبعة آلاف مثقالا كبارا يعقوبية (3)، عملها الصناع بين يدي أمير المؤمنين وحضوره.
ولما كملت سترت بالأغشية من شقاق الكتان لئلا ينالها الدنس من الأيدي والغبار، وحملت على العجل مجرورة حتى إلى الصومعة بالتكبير عليها والتهليل حتى وصلت، ورفعت بالهندسة حتى إلى أعلى صومعة الصومعة المذكورة ووضعت في العمود وحصلت فيه وحصنت بمحضر أمير المؤمنين أبي يوسف المنصور رضي الله عنه، وبمحضر ابنه وولي عهده أبي عبد الله السعيد الناصر لدين الله، وجميع بنيه وأشياخ الموحدين والقاضي وطلبة الحضر وأهل الوجاهة من الناس، وذلك في يوم الأربعاء عقب ربيع الآخر، بموافقة التاسع عشر من مارس العجمي، من عام أربعة وتسعين وخمسمائة، ثم كشفت عن أغشيتها فكادت تغشي الأبصار من تألقها بالذهب الخالص الإبريز وبشعاع رونقها.
________________
هامش:
(1) يراجع إدراج سابق تحت عنوان: العالم في ساحة.
(2) تتكون الصوامع حسب الطراز المغربي من جزئين، أو من صومعتين؛ الأولى أطول وأعرض، والثانية فوق الأولى أقصر وأنحف، وهي التي تنصب فوقها التفافيح.
(3) قدر الدكتور عبد الهادي التازي محقق كتاب ( المن بالإمامة ) لابن صاحب الصلاة، وعنه نقلنا هذا النص وزن الذهب الذي طليت به التفافيح بنحو 29.5 كيلوغراما.
الورقة الثانية: إكمال بناء صومعة إشبيلية وتعليق التفافيح:
استمر البناء في مسجد إشبييلية إلى عهد الخليفة الموالي أبي يوسف، ولم توضع اللمسات الأخيرة النهائية، بتعليق التفافيح بأعلى الصومعة إلا بعد فراغ هذا الخليفة من غزوة الأرك في شهر شعبان من سنة 591 هجرية.
وكان انتصار الموحدين على نصارى الأندلس بقيادة ملكهم ( أذفونش ) في هذه المعركة الحاسمة، علامة مميزة في تاريخ الموحدين خاصة، والمغرب عامة، وبداية عهد جديد من البناء والإصلاح والإشعاع مكن المسلمين بجهود المغاربة المخلصين من ترسيخ أقدامهم لسنوات عديدة أخرى على أرض الأندلس، فردوس المسلمين المفقود.
وفي هذه الورقة الثانية سنقصر حديثنا على كيفية بناء صومعة أو منارة إشبيلية، ورفع التفافيح المذهبة بأعلاها في يوم حافل مشهود بعد ذلك الانتصار الرائع الذي أحرزه الموحدون، وكأنهم كانوا على موعد مع التاريخ ليختم لهم بحسنى الجهاد، وحسنى البناء والتشييد لتتم لهم كلمة التوحيد التي ناضلوا من أجلها منذ بداية دعوتهم.
ومن المعلوم لدى المؤرخين ودارسي الآثار، وحتى لدى المراقب العادي التشابه الكبير، من حيث الشكل والتخطيط، بين بناء منارة إشبيلية الأندلسية ومنارة الكتبية المراكشية وحسان الرباطية التي لم يكتب لها أن تكتمل كأخوتيها.
ولا زالت منارة الكتبية بمراكش شامخة بعد الفراغ من ترميمها في السنوات الأخيرة، وهي تعد بمثابة القلب النابض لهذه المدينة، وإليها تأوي أفئدة السواح القادمين إلى مراكش من شتى بلدان العالم، وليس بينها وبين ساحة جامع الفنا العجيبة إلا بضع خطوات.(1)
وبالعودة إلى تفاصيل بناء منارة إشبيلية نلاحظ أن هذا البناء قد تم بشكل متقطع زمنيا، ولم يستأنف هذا البناء بشكل جدي نسبيا إلا سنة 584 هجرية، وتحت إشراف أبي بكر بن زهر هذه المرة، كما أشار إلى ذلك ابن صاحب الصلاة.
غير أن الجديد الذي نسجله هوأن عملية إكمال المشروع قد عهدت هذه المرة إلى المهندس المغربي علي الغماري الذي حل محل أحمد بن باسة المذكور آنفا، في الورقة الأولى.
كما يلاحظ أن المشرفين على البناء والمهندسين والبنائين والعرفاء ربما كانوا يتنقلون بين العدوتين بالتناوب، أو ربما لأنهم كانوا ينجزون عمليات البناء في المساجد الثلاثة المذكورة آنفا، في نفس الوقت، باعتبارها مشروعا واحدا للدولة، وإن تباينت المسافة بينها كثيرا. و يفسر ذلك أن على الغماري نفسه كان دائم المراوحة بين حضرة مراكش وإشبيلية.
وأول ما قام به علي الغماري هذا تعديل ما اختل من بناء جامع إشبيلية في السنوات السابقة من جهاته الأربع، أومن جهة دعاماته، أو من جهة حيطانه وسقوفه .
كما أضاف إليه إضافات جديدة كوضع الشمسيات الزجاجية، وإحكام تسقيف سطوحه بالآجر من الخارج .
وذكر ابن صاحب الصلاة في أمر بناء الصومعة أمرا عجيبا، وهو أنها صنعت بغير أدراج، وأنه كان يصعد إليها في طريق واسعة للدواب والناس والسدنة.
ودامت أشغال بناء تلك الصومعة بشكل متقطع أعواما كان الغماري يراوح خلالها بين العدوتين، ولن تأخذ هذه الصومعة شكلها النهائي بتعليق التفافيح بأعلى صومعة الصومعة(2) إلا بعد مضي ثلاث سنوات عن معركة الأرك.
واليك الآن عزيزي القارئ وصف المؤرخ ابن صاحب الصلاة لعملية نصب التفافيح بأعلى المنارة بعد أن تم الفراغ منها، قال:
…. فلما وصل أمير المؤمنين وهزم الله اذفونش الطاغية أهلكه الله على ما ذكرته أمر رضي الله عنه في مدة إقامته بإشبيلية بعمل التفافيح الغريبة الصنعة، العظيمة الرفعة، الكبيرة الجرم، المذهبة الرسم، الرفيعة الإسم والجسم، فرفعت في منارها بمحضره.
وحضر المهندسون في إعلائها على رأيه وبلوغ وطره مركبة في عمود عظيم من الحديد مرسى أصله في بنيان أعلى صومعة الصومعة أعلاها، زنة العمود مائة وأربعون ربعا من حديد، موثقا هناك في تلاحك ( أي تلاحم ) البنيان بارز طرفه الحامل لهذه الأشكال المسماة بالتفافيح إلى الهواء، يكابد من زعازع الرياح وصدمات الأمطار ما يطول التعجب منه من مقاومته وثباته.
وكان عدد الذهب الذي طليت به هذه التفافيح الثلاث الكبار والرابعة الصغرى سبعة آلاف مثقالا كبارا يعقوبية (3)، عملها الصناع بين يدي أمير المؤمنين وحضوره.
ولما كملت سترت بالأغشية من شقاق الكتان لئلا ينالها الدنس من الأيدي والغبار، وحملت على العجل مجرورة حتى إلى الصومعة بالتكبير عليها والتهليل حتى وصلت، ورفعت بالهندسة حتى إلى أعلى صومعة الصومعة المذكورة ووضعت في العمود وحصلت فيه وحصنت بمحضر أمير المؤمنين أبي يوسف المنصور رضي الله عنه، وبمحضر ابنه وولي عهده أبي عبد الله السعيد الناصر لدين الله، وجميع بنيه وأشياخ الموحدين والقاضي وطلبة الحضر وأهل الوجاهة من الناس، وذلك في يوم الأربعاء عقب ربيع الآخر، بموافقة التاسع عشر من مارس العجمي، من عام أربعة وتسعين وخمسمائة، ثم كشفت عن أغشيتها فكادت تغشي الأبصار من تألقها بالذهب الخالص الإبريز وبشعاع رونقها.
________________
هامش:
(1) يراجع إدراج سابق تحت عنوان: العالم في ساحة.
(2) تتكون الصوامع حسب الطراز المغربي من جزئين، أو من صومعتين؛ الأولى أطول وأعرض، والثانية فوق الأولى أقصر وأنحف، وهي التي تنصب فوقها التفافيح.
(3) قدر الدكتور عبد الهادي التازي محقق كتاب ( المن بالإمامة ) لابن صاحب الصلاة، وعنه نقلنا هذا النص وزن الذهب الذي طليت به التفافيح بنحو 29.5 كيلوغراما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق