
العهد الموحدي، البناء والعمران:
الورقة الأولى: قصة بناء مسجد إشبيلية
أ - مقدمة:
عمل الموحدون على إشراك كافة الفعاليات الفكرية والعلمية التي توفرت لهم في المغرب والأندلس لصناعة مجدهم الحضاري . ومعروف عن كبار علماء العهد الموحدي كابن رشد وابن طفيل وابن زهر وغيرهم انخراطهم في الحياة العلمية والعملية، ونزولهم من أبراج الفكر والفلسفة العالية إلى ساحة البناء والجهاد، جنبا إلى جنب مع البنائين والنجارين والعرفاء والجنود والمتطوعة. وحتى فقهاء الدولة الموحدية وطلبتها وحفاظها كانوا رجال علم وعمل.
ولكي تأتي هذه الحركة أكلها فقد كفل الموحدون للناس حرية الفكر والعمل، وخاصة في ولاية أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن ( 558 - 580 هج ).
وأظهر الموحدون رغبة كبيرة في تخليد مجدهم عن طريق تنفيذ مشاريع ضخمة في مجال التخطيط الهندسي والبناء العمراني وجلب المياه للحواضر الكبيرة في العدوتين المغربية والأندلسية عن طريق شق القنوات ومد الجسور وبناء الخزانات الهائلة، وتأمين شبكة الطرق البرية والبحرية، مع التركيز على مدن تجمعاتهم الكبرى استعدادا للعبور إلى العدوة الأندلسية بغرض الجهاد كرباط الفتح ( الرباط حاليا، وعاصمة المملكة المغربية) التي اختطت في عهدهم كمدينة جديدة سيكون لها الأثر الفعال في مجمل تاريخ المغرب، وكجبل الفتح (جبل طارق) الذي تعهدوه بالبناء والتوسعة والتحصين، حيث كانت تكتمل عنده تجمعات الحشود الموحدية القادمة من جميع البلاد الموحدية العربية والبربرية مع ما يتطلبه ذلك من توفير الذخائر الحربية والمؤونة والسفن الكافية لنقل تلك الحشود الهائلة إلى بر العدوة الأندلسية.
كما أظهر الموحدون عناية خاصة بنظام البريد والرقاصين (حاملي البريد) لتأمين سرعة نقل الأخبار والمستجدات بين حاضرة ملكهم في مراكش وقاعدة ملكهم في الأندلس إشبيلية، أو في المغرب الأوسط كبجاية، أو في إفريقية كالمهدية، وذلك على مراحل معلومة وهيأة مخصوصة سنعود إليها بالتفصيل في إدراجات لاحقة.
أما الآن فنريد أن نعرض لبعض المآثر العمرانية التي خلفها الموحدون. وقد تعاون على تخطيطها وبنائها خيرة المهندسين والبنائين والحرفيين والصناع من بلدان الأندلس والمغرب ، ومن العرب والبربر، على حد سواء.
وفي ذلك مظهر كبير من الوحدة والتآلف تفتقدهما الدول العربية الآن، وإن كانت أحوج ما تكون إليهما.
ب - وصف بناء جامع إشبيلية الكبير ( الخيرالدا ):
أتى المؤرخ الموحدي ابن صاحب الصلاة في سياق خبر بنائه، وكان شاهد عيان على ذلك في كتابه ( المن بالإمامة ) (1) على ذكر معلومات هامة مفيدة للمحققين والمهتمين بفن العمارة والحضارة والتخطيط؛ كذكر من أسهم في ذلك البناء الشامخ إلى الآن ومن أشرف عليه، وسبب بنائه، وكيفية بنائه، وصعوبة رفع الدعائم والبلاطات والقباب والمنبر والصومعة، ومواد البناء والزخرفة والتزيين، قال:
وفي هذه السنة ( يقصد سنة 567 هجرية) في شهر رمضان ابتدأ أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين ( يقصد أبا يعقوب يوسف بن عبد المومن) باختطاط موضع هذا الجامع العتيق الأنيق، فهدمت الديار داخل القصبة له، وحضر على ذلك شيخ العرفاء أحمد بن باسه(2) وأصحابه العرفاء البناؤون من أهل إشبيلية، وجميع عرفاء أهل الأندلس، ومعهم عرفاء البنائين من أهل حضرة مراكش ومدينة فاس وأهل العدوة، فاجتمع بإشبيلية منهم ومن أصناف النجارين والنشارين والفعلة لأصناف البناء أعداد، من كل صنف صناع مهرة في فن من الأعمال أفراد.
وكان الذي دعا أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين لبنائه ما خصصه الله به من الدين والورع، وأن يخص إشبيلية بالتمصير والتسكين بأشرف مرآى ومسمع، ولأنه كان قد قطنها في مصيف ومربع، وكان الموحدون الفاتحون لها قد اتخذوا في قصبتهم بداخل إشبيلية جامعا صغيرا لصلاتهم في أيامهم وجمعهم، فضاق عند استيطانهم عنهم لتناسلهم وترادف وفود الموحدين إليهم بالعساكر، وكان أيضا جامع مدينة إشبيلية المعروفة بجامع العدبس قد ضاق بأهلها، فيصلون في رحابه وأفنيته، وفي جوانب الأسواق المتصلة به فيبعد عنهم التكبير بالفريضة، فربما فسدت صلاتهم، ولم تمتد قط فيما سلف من الأزمنة همم ملوكهم وأمرائهم في السيرات إلى توسعته والزيادة فيه، للذي كانوا عليه عاكفين من تهالكهم في الإمارة وهويهم في ضلال الفتنة بينهم، وإهمال المسلمين بغير حماية، لعمارة في دار قراره إلى أن جمع الله تعالى الإسلام بهذا الأمر العزيز بالتوحيد بعد فترة، وبهذا الخليفة الإمام أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين أبي يعقوب بن الخليفة أمير المؤمنين رضي الله عنهم الذي سمت به الخلافة، وأنافت به المعالم والديانة أعظم إنافة، ووصل لنصر جزيرة الأندلس بعساكره المنصورة، فحاز الذخر والأجر في بناء هذا المسجد الجامع الكبير توسعة للناس.
فأسسه من الماء بالآجر والجيار والحصى والأحجار، على أعظم البناء والإقتدار، وأسس أرجله المعقودة بطاقات بلاطاته تحت الأرض أطول مما فوق الأرض، وجمع عليه الفعلة بكثرة الرجال والخدام وإحضار الآلات من الخشب المجلوب من سواحل العدوة، بما لم يقدر عليه ملك من ملوك الأندلس قبله، فأعلى بنيته وصقل صفحته بالإتقان لتشييده وتوثيقه،
وأنفذ أمره العالي ببنائه في شهر رمضان من سنة سبع وستين وخمسمائة المؤرخة، لم يرفع البناء عنه قط في فصل من فصول السنين مدة إقامته بإشبيلية إلى أن كمل بالتسقيف، وجاء في أبهى المنظر الشريف، وأعجز في بنائه من تقدمه، وبقي في ميزانه ذخيرة ورحمة له مقدمة، قارب به جامع قرطبة في السعة، وليس في الأندلس جامع على قدره وسعته وعدد بلاطاته.
وكان الناظر على البنائين والعرفاء العريف أحمد بن باسه(1)، وصاحب تقييد الإنفاق أبو داود يلول بن جلداسن خاصة أمير المؤمنين ومشرفه على الأعمال، ومن أهل إشبيلية أبو بكر بن زهر، وأبو بكر اليناقي، ثم شركهم في النظر عبد الرحمان بن أبي مروان بن سعيد العنسي الغرناطي.
فظهرت على كتابه وأصحابه خيانة، فعزل وعزلوا واستبدلوا، ورجع النظر إلى أبي داود واستبد به مع خاصته تحت أمره إبراهيم الدباغ مع مشاركة ابن زهر المذكور.
وكانت سُرَب المدينة تشق بجريها تحت الأرض على مواضع اختطاط هذا الجامع فنُكِّبت عنه، وأخرجت بطريقها منه وصرفت إلى جهة الجوف منه على أوسع مجرى وواثق مسرى على سَرَب واسع، وعمل بأعداد من الرجال على أوثق البناء تحت الأرض جار إلى الوادي تحت الأرض قاطع.
واهتبل العرفاء واستعرفوا، وتحدقوا في بناء القبة التي على محرابه أعظم الاهتبال، في العمل بصنعة الجبس والأقباء بالبناء ونجارة الخشب بغاية الاحتفال، وأقبوا يسار المحراب ساباطا في الحائط يمشي في سعة فيه الماشي معدا لخروج الخليفة عليه من القصر إلى هذا الجامع لشهود صلاة الجمعة ينذر منه المنذر على بابه الخاص الرفيع، وعلى يمين المحراب إقباء في حائط الجامع معقود بالبناء لكون المنبر فيه عند إخراجه للخطبة وإدخاله فيه.
وصنع هذا المنبر من أغرب ما قدر عليه الفعلة من غرابة الصنعة، اتخذ من أكرم الخشب مفصلا منقوشا مرقشا محكما بأنواع الصنعة والحكمة في ذلك، من غريب العمل، وعجيب الشكل والمثل، مرصعا بالصندل، مجزعا بالعاج والأبنوس، يتلألأ كالجمر بالشعل، وبصفائح من الذهب والفضة، وأشكال في عمله من الذهب الإبريز يتألق نورا، ويحسبها الناظر لها في الليل البهيم بدورا.
ثم أردفت له بالعمل المقصورة من أحسن الخشب مختصرة من قضبه، وثيقة لحجبه.
وكان الخليفة يتطلع بناءه في أكثر الأيام بنفسه، فيصل لرؤيته ومعه أخوه السيد الأعلى أبو حفص، مع أعلام إخوته وأشياخ مملكته، ووزيره ووجوه رجاله من طلبته وأهل دولته. ويشير لهم بالجد في البناء، والوثاقة فيه والاستعلاء، والعكوف بعمل الأمانة والديانة وترك الأهواء، ويعطيهم البركات، ويعدهم على ذلك العمل بالصلات، حتى انكملت جهاته الأربع بالبناء، وعقد الأقواس منه بالأقباء، وكمل التسقيف، ثم حان انصراف أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى حضرته مراكش في الرابع عشر من شهر شعبان المبارك من عام أحد وسبعين وخمسمائة، وأمر بتسريح العرفاء والبنائين والصباغ إلى مواطنهم، فكانت المدة في بنائه ثلاثة أعوام وأحد عشر شهرا قمرية وتحرك أمير المؤمنين حركته المذكورة.
———-
هامش:
(1) بتحقيق الدكتور عبد الهادي التازي. دار الأندلس، ط1/ 1964.
(2) ابن باسة هذا من أبرز خبراء البناء والتصميم والتخطيط وتنفيذ المشاريع الموحدية الكبرى التي أسندت إليه كجامع إشبيلية العظيم ( الخيرالدا). ومن أبرز وأشهر المهندسين، إلى جانب ابن باسة الحاج يعيش المالقي، وكانت له اختراعات هندسية وتصميمية عجيبة، كمقصورة المسجد الجامع بمراكش. وكانت تتحرك آليا، بحيث تنخفض عند دخول الخليفة، وترتفع عند خروجه. وهو الذي تكفل أيضا بجلب الماء إلى خزان إشبيلية، ثم قام بتوزيعه على أحيائها.
ومن عجائب صناعاته الميكانيكية المطحنة الهوائية التي أقامها بجبل الفتح، جبل طارق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق