كتب يوم الأربعاء,شباط 01, 2006
قصة الفتى العذري مع عامل مروان:
إلى بادية بني عذرة وواديها في قلب الحجاز ينسب الهوى العذري المشهور في عالم الحب.
ولم يكن هذا الحب الجارف من جانب واحد، بل اكتوى بناره العاشق والمعشوق. فتجرعا معا عذابات الصد والهجر، ومكر الوشاة والخصوم، وحسد الحاسدين، وكيد الكائدين المنافسين من الأقارب قبل الأباعد، حتى صار مسلك بني عذرة في العشق سلوة كل عاشق، بل صارت لهم في ساحات العشق صولات وجولات ألفت حولها السير والقصص، وامتزج فيها الواقع بالخيال.
وقد تعاون على الهوى العذري ثلاثة أنواع من القهر والاستبداد؛ استبداد الطبيعة، واستبداد الأهل والعشيرة، واستبداد السلطة وأعوانها.
أما استبداد الطبيعة ففي شحها وتقتيرها، من جهة الماء والكلأ. فقد عانى عشاق بني عذرة الذين كانوا بدوا رعاة يتيهون في الأرض مع شويهاتهم كالمجانين، يموتون بالهجر، ويحيون بأمل الوصل يبعثونه في أشعارهم الغزلية وتراتيلهم في محراب جمال نساء بني عذرة، ويبذلون في سبيله الكثير ويقنعون منه بأقل القليل.
أما استبداد الأهل فبالممانعة الزائدة عن كل حد، والحيلولة دوما دون تحقيق رغبة المتحابين في الزواج، وخاصة من لدن الأعمام والأخوال عندما تتباعد الرغبات، وتتسع الفجوات بأسباب وعلل لا تقنع المتحابين ولا تصرف بعضهم عن البعض قيد أنملة، بل تزيدهم إصرارا وعنادا وتضحية.
أما استبداد السلطة، فبدخولها في عصر بني أمية خاصة، طرفا جديدا في معادلة العشق المعقدة لدى بني عذرة، وخاصة بعد أن بث الأمويون أعوانهم في الحواضر والقرى، وفي الجبال والأودية وفي كل مكان لتقوم سلطتهم على الأرض.
وقد هال بعض أعوان السلطة الأموية الذين انتدبوا على شأن وادي بني عذرة جمال نسائهم، وأذهلهم سحرهن عن أنفسهم، وعن وظائفهم، وعن نسائهم وأولادهم الذين تركوهم في مدن الشام والحجاز، والتحقوا بمعارك العشق المحتدمة في الوادي، لينالوا نصيبهم من الجمال، وبذلوا في ذلك كل ما لديهم من مال وجاه ونفوذ.
فكيف قاوم عشاق بني عذرة استبداد السلطة الأموية الوافد عليهم؟
الجواب هو ما تحكيه القصة التالية، وقد جرت وقائعها بين أحد فتيان بني عذرة وعامل معاوية مروان بن الحكم:
ذُكر أنّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يومٍ بمجلسٍ كان له بدمشق على قارعة الطّريق، وكان المجلس مفتّح الجوانب لدخول النّسيم، فبينما هو على فراشه وأهل مملكته بين يديه، إذ نظر إلى رجلٍ يمشي نحوه وهو يسرع في مشيته راجلاً حافياً، وكان ذلك اليوم شديد الحرّ، فتأمّله معاوية ثمّ قال لجلسائه: لم يخلق الله ممّن أحتاج إلى نفسه في مثل هذا اليوم. ثمّ قال: يا غلام سر إليه واكشف عن حاله وقصّته فوالله لئن كان فقيراً لأغنينّه، ولئن كان شاكياً لأنصفنّه، ولئن كان مظلوماً لأنصرنّه، ولئن كان غنياً لأفقرنّه. فخرج إليه الرسول متلقياً فسلّم عليه فردّ عليه السّلام. ثمّ قال له: ممّن الرّجل؟ قال: سيّدي أنا رجلٌ أعرابيٌّ من بني عذرة، أقبلت إلى أمير المؤمنين مشتكياً إليه بظلامةٍ نزلت بي من بعض عمّاله. فقال له الرّسول: أصبحت يا أعرابي؟ ثمّ سار به حتّى وقف بين يديه فسلّم عليه بالخلافة ثمّ أنشأ يقول:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضــل
وياذا الندى والجود النابل والجـزل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي
فياغيث لا تقطع رجائي من العـدل
وجد لي بإنصاف من الجائر الـذي
شواني شيّاً كان أيسـره قـتـــــــلـي
سباني سعدى وانبرى لخصومتـي
وجار ولم يعدل، وأغصبني أهلــي
قصدت لأرجو نفعه فأثابنـــــــــي
بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكـبـــــل
وهم بقتلي غير أن منيتـــــــــــــــي
تأبّت، ولم أستكمل الرّزق من أجلي
أغثني جزاك الله عني جنـــــــــــة
فقد طار من وجدٍ بسعدى لهاعقلـــي
فلمّا فرغ من شعره قال له معاوية: يا أعرابي إنّي أراك تشتكي عاملاً من عمّالنا ولم تسمعه لنا! قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وهو والله ابن عمّك مروان بن الحكم عامل المدينة. قال معاوية: وما قصّتك معه يا أعرابي. قال: أصلح الله الأمير، كانت لي بنت عمٍّ خطبتها إلى أبيها فزوّجني منها. وكنت كلفاً بها لما كانت فيه من كمال جمالها وعقلها والقرابة. فبقيت معها يا أمير المؤمنين، في أصلح حالٍ وأنعم بالٍ، مسروراً زماناً، قرير العين. وكانت لي صرمةً من إبلٍ وشويهات، فكنت أعولها ونفسي بها. فدارت عليها أقضية الله وحوادث الدّهر، فوقع فيها داءٌ فذهبت بقدرة الله. فبقيت لا أملك شيئاً، وصرت مهيناً مفكّراً، قد ذهب عقلي، وساءت حالي، وصرت ثقلاً على وجه الأرض. فلمّا بلغ ذلك أباها حال بيني وبينها، وأنكرني، وجحدني، وطردني، ودفعها عنّي. فلم أدر لنفسي بحيلةٍ ولا نصرةٍ. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم مشتكياً بعمّي، فبعث إليه، فلمّا وقف بين يديه، قال له مروان: يا أيّها الرّجل لم حُلت بين ابن أخيك وزوجته؟ قال: أصلح الله الأمير، ليس له عندي زوجة ولا زوجته من ابنتي قط. قلت أنا: أصلح الله الأمير، أنا راضٍ بالجّارية، فإن رأى الأمير أن يبعث إليها ويسمع منها ما تقول؟ فبعث إليها فأتت الجّارية مسرعةً، فلمّا وقفت بين يديه ونظر إليها وإلى حسنها وقعت منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار لي، يا أمير المؤمنين خصماً وانتهرني، وأمر بي إلى السّجن. فبقيت كأني خررت من السّماء في مكانٍ سحيقٍ، ثمّ قال لأبيها بعدي: هل لك أن تزوّجها منّي، وأنقدك ألف دينارٍ، وأزيدك أنت عشرة آلاف درهمٍ تنتفع بها، وأنا أضمن طلاقها؟ قال له أبوها: إن أنت فعلت ذلك زوّجتها منك.
فلمّا كان من الغد بعث إليّ، فلمّا أدخلت عليه نظر إليّ كالأسد الغضبان، فقال لي: يا أعرابي طلّق سعدى. قلت: لا أفعل. فأمر بضربي ثم ردّني إلى السّجن، فلمّا كان في اليوم الثّاني قال: عليّ بالأعرابي. فلمّا وقفت بين يديه، قال: طلّق سعدى. فقلت: لا أفعل. فسلّط عليّ يا أمير المؤمنين خدّامه فضربوني ضرباً لا يقدر أحدٌ على وصفه، ثمّ أمر بي إلى السّجن؛ فلمّا كان في اليوم الثّالث قال: عليّ بالإعرابي، فلمّا وقفت بين يديه قال: عليّ بالسّيف والنّطع وأحضر السيّاف، ثمّ قال: يا أعرابي، وجلالة ربّي، وكرامة والدي، لئن لم تطلّق سعدى لأفرّقنّ بين جسدك وموضع لسانك.
فخشيت على نفسي القتل فطلّقتها طلقةً واحدةً على طلاق السّنّة، ثمّ أمر بي إلى السّجن فحبسني فيه حتّى تمّت عدّتها ثمّ تزوّجها، فبنى بها، ثمّ أطلقني. فأتيتك مستغيثاً قد رجوت عدلك وإنصافك، فارحمني يا أمير المؤمنين. فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجهدني الأرق، وأذابني القلق، وبقيت في حبّها بلا عقلٍ، ثمّ انتحب حتىّ كادت نفسه تفيض. ثمّ أنشأ يقول:
في القلب منّــي نـارٌ
والنار فيه الدمــــار
والجسم مني سقـيـم
فيه الطّبيب يحـــار
والعين تهطل دمعا
فدمعها مـــــــدرار
حملت منه عظيما
فماعليه اصطبـار
فليس ليلي ليــــــل
ولانهاري نهـــــار
فارحم كئيبا حزينا
فؤاده مستطــــــار
اردد علي سعادي
يثيبك الـجـبّـــــار
ثمّ خرّ مغشيّاً عليه بين يدي أمير المؤمنين كأنّه قد صعق به قال: وكان في ذلك الوقت معاوية متكّئاً، فلمّا نظر إليه قد خرّ بين يديه قام ثمّ جلس، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اعتدى والله مروان بن الحكم ضراراً في حدود الدّين، وإحساراً في حرم المسلمين: ثمّ قال: والله يا أعرابي لقد أتيتني بحديثٍ ما سمعت بمثله. ثمّ قال: يا غلام عليّ بداوةٍ وقرطاسٍ فكتب إلى مروان: أمّا بعد، فإنّه بلغني عنك أنّك اعتديت على رعيّتك في بعض حدود الدّين، وانتهكت حرمةً لرجلٍ من المسلمين. وإنّما ينبغي لمن كان والياً على كورةٍ أو إقليمٍ أن يغضّ بصره وشهواته، ويزجر نفسه عن لذّاته. وإنّما الوالي كالرّاعي لغنمةٍ، فإذا رفق بها بقيت معه، وإذا كان لها ذئباً فمن يحوطها بعده. ثمّ كتب بهذه الأبيات:
ولّيت، ويحك أمراً لست تحكمــــه
فاستغفر الله من فعل امرئ زانــي
قد كنت عندي ذا عقــــل وذا أدب
مع القراطيس تمثالاً وفـرقـــــــان
حتى أتانا الفتى العذري منتحبـــا
يشكوإلينا بـبـثٍّ ثـمّ أحـــــــــــزان
أعطي الإله يمينا لا أكفرهـــــــا
حقّاً وأبرأ مـن دينـي وديانــــــي
إن أنت خالفتني فيما كتبت بـــه
لأجعلنّك لحماً بين عـقـبـانــــــي
طلق سعاد وعجلها مجهــــــــزة
مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بلغت في بشــــر
ولا كفعلك حقاً فعـل إنـســـــــان
فاختر لنفسك إما أن تجود بهــا
أوأن تلاقي المنايا بين أكـفــــان
ثمّ ختم الكتاب وقال: عليّ بنصر بن ذبيان والكميت صاحبيّ البريد. فلمّا وقفا بين يده قال: اخرجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم ولا تضعاه إلاّّ بيده. قال فخرجا بالكتاب حتّى وردا به عليه، فسلّما ثمّ ناولاه الكتاب. فجعل مروان يقرأه ويردّده، ثمّ قام ودخل على سعدى وهو باكٍ، فلمّا نظرت إليه قالت له: سيّدي ما الذي يبكيك؟ قال كتاب أمير المؤمنين، ورد عليّ في أمرك يأمرني فيه أن أطلّقك وأجهّزك وأبعث بك إليه. وكنت أودّ أن يتركني معك حولين ثمّ يقتلني، فكان ذلك أحبّ إليّ. فطلّقها وجهّزها ثمّ كتب إلى معاوية بهذه الأبيات:
لاتعجلنّ أمير المؤمنين فـقــــــــد
أوفي بنذرك في رفقٍ وإحســــان
وماركبت حراماً حين أعجبنـــي
فكيف أدعى باسم الخائن الزاني
أعذرفإنّك لو أبصرتها لجــــرت
منك الأماقي على أمثال إنســـان
فسوف يأتيك شمسٌ لا يعادلهـــا
عندالخليفة إنسٌ لا ولا جــــــــان
لولا الخليفة ما طلّقتـهـا أبـــــداً
حتّى أضمّنّ في لحدٍ وأكفـــــــان
على سعادٍ سلامٌ من فتىً قلـــقٍ
حتّى خلّفته بأوصابٍ وأحــــزان
ثمّ دفعه إليهما، ودفع الجّارية على الصّفة التي حدّث له. فلمّا وردا على معاوية فكّ كتابه وقرأ أبياته ثمّ قال: والله لقد أحسن في هذه الأبيات، ولقد أساء إلى نفسه. ثمّ أمر بالجّارية فأدخلت إليه، فإذا بجاريةٍ رعبوبةٍ لا تبقي لناظرها عقلاً من حسنها وكمالها. فعجب معاوية من حسنها ثمّ تحوّل إلى جلسائه وقال: والله إنّ هذه الجّارية لكاملة الخلق فلئن كملت لها النّعمة مع حسن الصّفة، لقد كملت النّعمة لمالكها. فاستنطقها، فإذا هي أفصح نساء العرب. ثمّ قال: عليّ بالأعرابي.
فلمّا وقف بين يديه، قال له معاوية: هل لك عنها من سلوٍ، وأعوّضك عنها ثلاث جوارٍ أبكارٍ مع كلّ جاريةٍ منهنٍ ألف درهمٍ، على كلّ واحدةٍ منهنّ عشر خلعٍ من الخزّ والدّيباج والحرير والكتّان، وأجري عليك وعليهنّ ما يجري على المسلمين، وأجعل لك ولهنّ حظاً من الصّلات والنّفقات؟ فلما أتمّ معاوية كلامه غشي على الأعرابيّ وشهق شهقةً ظنّ معاوية أنّه قد مات منها. فلّما أفاق قال له معاوية: ما بالك يا أعرابي؟ قال: شرّ بالٍ، وأسوأ حالٍ، أعوذ بعد لك يا أمير المؤمنين من جور مروان. ثمّ أنشأ يقول:
لاتجعلني هداك الله من ملــــــــكٍ
كالمستجيرمن الرّمضاء بالنــــــّار
أرْدُدْ سعادَ على حرّان مكتـئــــــبٍ
يمسي ويصبح في همٍّ وتذكــــــــار
قد شفَّه قلقٌ ما مـثـلـه قـلــــــــــــقٌ
وأسْعَرالقلبَ منـه أيّ إسـعــــــــــار
والله والله لا أنسى مـحـبّـتـهـــــــــا
حتّى أغيّب في قبري وأحجــــاري
كيف السُّلوُّ وقد هام الفـؤاد بـهـــــا
فإن فعلت فإنـي غـير كـفّـــــــــــار
فأجمل بفضلك وافعل فعل ذي كرمٍ
لافعل غيرك، فعل اللؤم والعـــــار
ثمّ قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني كلّ ما احتوته الخلافة ما رضيت به دون سعدى. ولقد صدق مجنون بني عامر حيث يقول:
أبى القلب إلاّ حبّ ليل وبغّضت
إليّ نساءٌ ما لـهـن ذنــــــــــوب
وماهي إلاّ أن أراها فجــــــاءةً
فأبهت حتّى لا أكـاد أجـيـــــــب
فلمّا فرغ من شعره، قال له معاوية: يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: إنك مقرٌّ عندنا أنّك قد طلّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكن نخيّرها بيننا. قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين. فتحوّل معاوية نحوها ثمّ قال لها: يا سعدى أيّنا أحبّ إليك: أمير المؤمنين في عزّه وشرفه وقصوره، أو مروان في غصبه واعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وأطماره؟ فأشارت الجّارية نحو ابن عمّها الأعرابي، ثمّ أنشأت تقول:
هذا وإن كان في جوعٍ وأطمــــار
أعزّعندي من أهلي ومن جــاري
وصاحب التّاج أو مروان عاملـه
وكل ّذي درهمٍ منهـم ودينــــــار
ثمّ قالت: لست، والله، يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت لي معه صحبة جميلة، وأنا أحقّ من صبر معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى الشّدّة والرّخاء، وعلى العافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي معه. فعجب معاوية ومن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيت المسلمين.
————
هامش :
القصة مقتبسة عن كتاب ( أخبار النساء ) للإمام ابن الجوزي.
قصة الفتى العذري مع عامل مروان:
إلى بادية بني عذرة وواديها في قلب الحجاز ينسب الهوى العذري المشهور في عالم الحب.
ولم يكن هذا الحب الجارف من جانب واحد، بل اكتوى بناره العاشق والمعشوق. فتجرعا معا عذابات الصد والهجر، ومكر الوشاة والخصوم، وحسد الحاسدين، وكيد الكائدين المنافسين من الأقارب قبل الأباعد، حتى صار مسلك بني عذرة في العشق سلوة كل عاشق، بل صارت لهم في ساحات العشق صولات وجولات ألفت حولها السير والقصص، وامتزج فيها الواقع بالخيال.
وقد تعاون على الهوى العذري ثلاثة أنواع من القهر والاستبداد؛ استبداد الطبيعة، واستبداد الأهل والعشيرة، واستبداد السلطة وأعوانها.
أما استبداد الطبيعة ففي شحها وتقتيرها، من جهة الماء والكلأ. فقد عانى عشاق بني عذرة الذين كانوا بدوا رعاة يتيهون في الأرض مع شويهاتهم كالمجانين، يموتون بالهجر، ويحيون بأمل الوصل يبعثونه في أشعارهم الغزلية وتراتيلهم في محراب جمال نساء بني عذرة، ويبذلون في سبيله الكثير ويقنعون منه بأقل القليل.
أما استبداد الأهل فبالممانعة الزائدة عن كل حد، والحيلولة دوما دون تحقيق رغبة المتحابين في الزواج، وخاصة من لدن الأعمام والأخوال عندما تتباعد الرغبات، وتتسع الفجوات بأسباب وعلل لا تقنع المتحابين ولا تصرف بعضهم عن البعض قيد أنملة، بل تزيدهم إصرارا وعنادا وتضحية.
أما استبداد السلطة، فبدخولها في عصر بني أمية خاصة، طرفا جديدا في معادلة العشق المعقدة لدى بني عذرة، وخاصة بعد أن بث الأمويون أعوانهم في الحواضر والقرى، وفي الجبال والأودية وفي كل مكان لتقوم سلطتهم على الأرض.
وقد هال بعض أعوان السلطة الأموية الذين انتدبوا على شأن وادي بني عذرة جمال نسائهم، وأذهلهم سحرهن عن أنفسهم، وعن وظائفهم، وعن نسائهم وأولادهم الذين تركوهم في مدن الشام والحجاز، والتحقوا بمعارك العشق المحتدمة في الوادي، لينالوا نصيبهم من الجمال، وبذلوا في ذلك كل ما لديهم من مال وجاه ونفوذ.
فكيف قاوم عشاق بني عذرة استبداد السلطة الأموية الوافد عليهم؟
الجواب هو ما تحكيه القصة التالية، وقد جرت وقائعها بين أحد فتيان بني عذرة وعامل معاوية مروان بن الحكم:
ذُكر أنّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يومٍ بمجلسٍ كان له بدمشق على قارعة الطّريق، وكان المجلس مفتّح الجوانب لدخول النّسيم، فبينما هو على فراشه وأهل مملكته بين يديه، إذ نظر إلى رجلٍ يمشي نحوه وهو يسرع في مشيته راجلاً حافياً، وكان ذلك اليوم شديد الحرّ، فتأمّله معاوية ثمّ قال لجلسائه: لم يخلق الله ممّن أحتاج إلى نفسه في مثل هذا اليوم. ثمّ قال: يا غلام سر إليه واكشف عن حاله وقصّته فوالله لئن كان فقيراً لأغنينّه، ولئن كان شاكياً لأنصفنّه، ولئن كان مظلوماً لأنصرنّه، ولئن كان غنياً لأفقرنّه. فخرج إليه الرسول متلقياً فسلّم عليه فردّ عليه السّلام. ثمّ قال له: ممّن الرّجل؟ قال: سيّدي أنا رجلٌ أعرابيٌّ من بني عذرة، أقبلت إلى أمير المؤمنين مشتكياً إليه بظلامةٍ نزلت بي من بعض عمّاله. فقال له الرّسول: أصبحت يا أعرابي؟ ثمّ سار به حتّى وقف بين يديه فسلّم عليه بالخلافة ثمّ أنشأ يقول:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضــل
وياذا الندى والجود النابل والجـزل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي
فياغيث لا تقطع رجائي من العـدل
وجد لي بإنصاف من الجائر الـذي
شواني شيّاً كان أيسـره قـتـــــــلـي
سباني سعدى وانبرى لخصومتـي
وجار ولم يعدل، وأغصبني أهلــي
قصدت لأرجو نفعه فأثابنـــــــــي
بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكـبـــــل
وهم بقتلي غير أن منيتـــــــــــــــي
تأبّت، ولم أستكمل الرّزق من أجلي
أغثني جزاك الله عني جنـــــــــــة
فقد طار من وجدٍ بسعدى لهاعقلـــي
فلمّا فرغ من شعره قال له معاوية: يا أعرابي إنّي أراك تشتكي عاملاً من عمّالنا ولم تسمعه لنا! قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وهو والله ابن عمّك مروان بن الحكم عامل المدينة. قال معاوية: وما قصّتك معه يا أعرابي. قال: أصلح الله الأمير، كانت لي بنت عمٍّ خطبتها إلى أبيها فزوّجني منها. وكنت كلفاً بها لما كانت فيه من كمال جمالها وعقلها والقرابة. فبقيت معها يا أمير المؤمنين، في أصلح حالٍ وأنعم بالٍ، مسروراً زماناً، قرير العين. وكانت لي صرمةً من إبلٍ وشويهات، فكنت أعولها ونفسي بها. فدارت عليها أقضية الله وحوادث الدّهر، فوقع فيها داءٌ فذهبت بقدرة الله. فبقيت لا أملك شيئاً، وصرت مهيناً مفكّراً، قد ذهب عقلي، وساءت حالي، وصرت ثقلاً على وجه الأرض. فلمّا بلغ ذلك أباها حال بيني وبينها، وأنكرني، وجحدني، وطردني، ودفعها عنّي. فلم أدر لنفسي بحيلةٍ ولا نصرةٍ. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم مشتكياً بعمّي، فبعث إليه، فلمّا وقف بين يديه، قال له مروان: يا أيّها الرّجل لم حُلت بين ابن أخيك وزوجته؟ قال: أصلح الله الأمير، ليس له عندي زوجة ولا زوجته من ابنتي قط. قلت أنا: أصلح الله الأمير، أنا راضٍ بالجّارية، فإن رأى الأمير أن يبعث إليها ويسمع منها ما تقول؟ فبعث إليها فأتت الجّارية مسرعةً، فلمّا وقفت بين يديه ونظر إليها وإلى حسنها وقعت منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار لي، يا أمير المؤمنين خصماً وانتهرني، وأمر بي إلى السّجن. فبقيت كأني خررت من السّماء في مكانٍ سحيقٍ، ثمّ قال لأبيها بعدي: هل لك أن تزوّجها منّي، وأنقدك ألف دينارٍ، وأزيدك أنت عشرة آلاف درهمٍ تنتفع بها، وأنا أضمن طلاقها؟ قال له أبوها: إن أنت فعلت ذلك زوّجتها منك.
فلمّا كان من الغد بعث إليّ، فلمّا أدخلت عليه نظر إليّ كالأسد الغضبان، فقال لي: يا أعرابي طلّق سعدى. قلت: لا أفعل. فأمر بضربي ثم ردّني إلى السّجن، فلمّا كان في اليوم الثّاني قال: عليّ بالأعرابي. فلمّا وقفت بين يديه، قال: طلّق سعدى. فقلت: لا أفعل. فسلّط عليّ يا أمير المؤمنين خدّامه فضربوني ضرباً لا يقدر أحدٌ على وصفه، ثمّ أمر بي إلى السّجن؛ فلمّا كان في اليوم الثّالث قال: عليّ بالإعرابي، فلمّا وقفت بين يديه قال: عليّ بالسّيف والنّطع وأحضر السيّاف، ثمّ قال: يا أعرابي، وجلالة ربّي، وكرامة والدي، لئن لم تطلّق سعدى لأفرّقنّ بين جسدك وموضع لسانك.
فخشيت على نفسي القتل فطلّقتها طلقةً واحدةً على طلاق السّنّة، ثمّ أمر بي إلى السّجن فحبسني فيه حتّى تمّت عدّتها ثمّ تزوّجها، فبنى بها، ثمّ أطلقني. فأتيتك مستغيثاً قد رجوت عدلك وإنصافك، فارحمني يا أمير المؤمنين. فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجهدني الأرق، وأذابني القلق، وبقيت في حبّها بلا عقلٍ، ثمّ انتحب حتىّ كادت نفسه تفيض. ثمّ أنشأ يقول:
في القلب منّــي نـارٌ
والنار فيه الدمــــار
والجسم مني سقـيـم
فيه الطّبيب يحـــار
والعين تهطل دمعا
فدمعها مـــــــدرار
حملت منه عظيما
فماعليه اصطبـار
فليس ليلي ليــــــل
ولانهاري نهـــــار
فارحم كئيبا حزينا
فؤاده مستطــــــار
اردد علي سعادي
يثيبك الـجـبّـــــار
ثمّ خرّ مغشيّاً عليه بين يدي أمير المؤمنين كأنّه قد صعق به قال: وكان في ذلك الوقت معاوية متكّئاً، فلمّا نظر إليه قد خرّ بين يديه قام ثمّ جلس، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اعتدى والله مروان بن الحكم ضراراً في حدود الدّين، وإحساراً في حرم المسلمين: ثمّ قال: والله يا أعرابي لقد أتيتني بحديثٍ ما سمعت بمثله. ثمّ قال: يا غلام عليّ بداوةٍ وقرطاسٍ فكتب إلى مروان: أمّا بعد، فإنّه بلغني عنك أنّك اعتديت على رعيّتك في بعض حدود الدّين، وانتهكت حرمةً لرجلٍ من المسلمين. وإنّما ينبغي لمن كان والياً على كورةٍ أو إقليمٍ أن يغضّ بصره وشهواته، ويزجر نفسه عن لذّاته. وإنّما الوالي كالرّاعي لغنمةٍ، فإذا رفق بها بقيت معه، وإذا كان لها ذئباً فمن يحوطها بعده. ثمّ كتب بهذه الأبيات:
ولّيت، ويحك أمراً لست تحكمــــه
فاستغفر الله من فعل امرئ زانــي
قد كنت عندي ذا عقــــل وذا أدب
مع القراطيس تمثالاً وفـرقـــــــان
حتى أتانا الفتى العذري منتحبـــا
يشكوإلينا بـبـثٍّ ثـمّ أحـــــــــــزان
أعطي الإله يمينا لا أكفرهـــــــا
حقّاً وأبرأ مـن دينـي وديانــــــي
إن أنت خالفتني فيما كتبت بـــه
لأجعلنّك لحماً بين عـقـبـانــــــي
طلق سعاد وعجلها مجهــــــــزة
مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بلغت في بشــــر
ولا كفعلك حقاً فعـل إنـســـــــان
فاختر لنفسك إما أن تجود بهــا
أوأن تلاقي المنايا بين أكـفــــان
ثمّ ختم الكتاب وقال: عليّ بنصر بن ذبيان والكميت صاحبيّ البريد. فلمّا وقفا بين يده قال: اخرجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم ولا تضعاه إلاّّ بيده. قال فخرجا بالكتاب حتّى وردا به عليه، فسلّما ثمّ ناولاه الكتاب. فجعل مروان يقرأه ويردّده، ثمّ قام ودخل على سعدى وهو باكٍ، فلمّا نظرت إليه قالت له: سيّدي ما الذي يبكيك؟ قال كتاب أمير المؤمنين، ورد عليّ في أمرك يأمرني فيه أن أطلّقك وأجهّزك وأبعث بك إليه. وكنت أودّ أن يتركني معك حولين ثمّ يقتلني، فكان ذلك أحبّ إليّ. فطلّقها وجهّزها ثمّ كتب إلى معاوية بهذه الأبيات:
لاتعجلنّ أمير المؤمنين فـقــــــــد
أوفي بنذرك في رفقٍ وإحســــان
وماركبت حراماً حين أعجبنـــي
فكيف أدعى باسم الخائن الزاني
أعذرفإنّك لو أبصرتها لجــــرت
منك الأماقي على أمثال إنســـان
فسوف يأتيك شمسٌ لا يعادلهـــا
عندالخليفة إنسٌ لا ولا جــــــــان
لولا الخليفة ما طلّقتـهـا أبـــــداً
حتّى أضمّنّ في لحدٍ وأكفـــــــان
على سعادٍ سلامٌ من فتىً قلـــقٍ
حتّى خلّفته بأوصابٍ وأحــــزان
ثمّ دفعه إليهما، ودفع الجّارية على الصّفة التي حدّث له. فلمّا وردا على معاوية فكّ كتابه وقرأ أبياته ثمّ قال: والله لقد أحسن في هذه الأبيات، ولقد أساء إلى نفسه. ثمّ أمر بالجّارية فأدخلت إليه، فإذا بجاريةٍ رعبوبةٍ لا تبقي لناظرها عقلاً من حسنها وكمالها. فعجب معاوية من حسنها ثمّ تحوّل إلى جلسائه وقال: والله إنّ هذه الجّارية لكاملة الخلق فلئن كملت لها النّعمة مع حسن الصّفة، لقد كملت النّعمة لمالكها. فاستنطقها، فإذا هي أفصح نساء العرب. ثمّ قال: عليّ بالأعرابي.
فلمّا وقف بين يديه، قال له معاوية: هل لك عنها من سلوٍ، وأعوّضك عنها ثلاث جوارٍ أبكارٍ مع كلّ جاريةٍ منهنٍ ألف درهمٍ، على كلّ واحدةٍ منهنّ عشر خلعٍ من الخزّ والدّيباج والحرير والكتّان، وأجري عليك وعليهنّ ما يجري على المسلمين، وأجعل لك ولهنّ حظاً من الصّلات والنّفقات؟ فلما أتمّ معاوية كلامه غشي على الأعرابيّ وشهق شهقةً ظنّ معاوية أنّه قد مات منها. فلّما أفاق قال له معاوية: ما بالك يا أعرابي؟ قال: شرّ بالٍ، وأسوأ حالٍ، أعوذ بعد لك يا أمير المؤمنين من جور مروان. ثمّ أنشأ يقول:
لاتجعلني هداك الله من ملــــــــكٍ
كالمستجيرمن الرّمضاء بالنــــــّار
أرْدُدْ سعادَ على حرّان مكتـئــــــبٍ
يمسي ويصبح في همٍّ وتذكــــــــار
قد شفَّه قلقٌ ما مـثـلـه قـلــــــــــــقٌ
وأسْعَرالقلبَ منـه أيّ إسـعــــــــــار
والله والله لا أنسى مـحـبّـتـهـــــــــا
حتّى أغيّب في قبري وأحجــــاري
كيف السُّلوُّ وقد هام الفـؤاد بـهـــــا
فإن فعلت فإنـي غـير كـفّـــــــــــار
فأجمل بفضلك وافعل فعل ذي كرمٍ
لافعل غيرك، فعل اللؤم والعـــــار
ثمّ قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني كلّ ما احتوته الخلافة ما رضيت به دون سعدى. ولقد صدق مجنون بني عامر حيث يقول:
أبى القلب إلاّ حبّ ليل وبغّضت
إليّ نساءٌ ما لـهـن ذنــــــــــوب
وماهي إلاّ أن أراها فجــــــاءةً
فأبهت حتّى لا أكـاد أجـيـــــــب
فلمّا فرغ من شعره، قال له معاوية: يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: إنك مقرٌّ عندنا أنّك قد طلّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكن نخيّرها بيننا. قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين. فتحوّل معاوية نحوها ثمّ قال لها: يا سعدى أيّنا أحبّ إليك: أمير المؤمنين في عزّه وشرفه وقصوره، أو مروان في غصبه واعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وأطماره؟ فأشارت الجّارية نحو ابن عمّها الأعرابي، ثمّ أنشأت تقول:
هذا وإن كان في جوعٍ وأطمــــار
أعزّعندي من أهلي ومن جــاري
وصاحب التّاج أو مروان عاملـه
وكل ّذي درهمٍ منهـم ودينــــــار
ثمّ قالت: لست، والله، يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت لي معه صحبة جميلة، وأنا أحقّ من صبر معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى الشّدّة والرّخاء، وعلى العافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي معه. فعجب معاوية ومن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيت المسلمين.
————
هامش :
القصة مقتبسة عن كتاب ( أخبار النساء ) للإمام ابن الجوزي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق