كتب يوم الخميس,كانون الثاني 19, 2006
مقام الحرية مقام عزيز، والناس على الحرية مذ كانوا أول الأمر، ولكن المستبدين منا صادروها واحتكروها لأنفسهم، وانقلب حال كثير من الأفراد والشعوب إلى الرق والعبودية، وصار الشعار الذي رفع قديما:
( الناس على الحرية حتى يصح الرق )، معكوسا، أي: ( الناس على الرق حتى تصح الحرية).
وأصبح استرداد هذا الحق اليوم، حتى في رغيف الخبز، وفي مجرد العيش الكريم لكثير من الأفراد والأمم دونه خرط القتاد، وتيهان في أروقة المحاكم القطرية أو المحافل الدولية بمقرراتها واجتمعاتها الماراطونية التي لا تحاك ولا تحبك إلا على حساب المستضعفين وغير المتنفذين …
وحتى لا نتيه في تفاصيل الحرية الكونية، فلنحصر حديثنا عن هذه القضية والإشكالية في أمر سياسة السلطان العربي للرعية .
في البداية لا بد أن أعترف بأن المتحدث في شؤون السياسة في عالمنا العربي كالمصطلي بالنار في هذه الأيام العالمية الباردة، فقد يؤذي نفسه، من حيث يريد أن ينشر الدفئ لنفسه وغيره؛ وقد تثور حوله عاصفة نارية قد تنبعث حتى من تحت كومة الرماد الذي قد يظنه خامدا.
في سياسة الراعي والرعية، في المشهد التراثي العربي القديم، ثلاثة ملامح بارزة:
الملمح الأول:
تميز السلطان عن الرعية؛ فقد قيل: إن من أخلاق السلطان حب التفرد، وكان الحجاج المشهور باستبداه وعمامته إذا وضع على رأسه عمامته لم يجترئ أحد من خلق الله أن يدخل عليه بمثلها.
وقيل عن ملك بأرض اليمن إنه ما كان أحد من رعيته يأكل الإوز غيره.
الملمح الثاني:
الترهيب قبل الترغيب، فقد روي عن الحجاج أيضا قوله: سلطان تخافه الرعية خير من سلطان يخافها.
وروي عن العتابي الشاعر العباسي المشهور: لم لا تصحب السلطان على ما فيك من الأدب؟! قال: لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شئ، ويرمي من السور في غير شئ، ولا أدري أي الرجلين أكون.
الملمح الثالث والأخير:
حق السلطان في الفحص والتجسس عن أسرار رعيته.. كما تفعل أعتى الأنظمة الدولية الآن، ويضاف إلى ذلك شراء الكلام المنظوم والمنثور الذي يحتوي مدحا وإطراء بأغلى الأثمان، حتى جعلت للأشعار أسعار في بورصة الكلام، تماما كما هو حاصل الآن في المشهد الإعلامي السمعي والبصري، حيث الأقلام والدعايات المأجورة المموهة بماء الكذب والنفاق قد غطت على صوت أصحاب الحق والمظلومين.
ومن عجائب المشهد السياسي، في الزمن العربي القديم حكاية وزير الخليفة العباسي المقتدي بالله أبي شجاع؛ واسمه ظهير الدين محمد بن الحسين الهمداني.
وهو صاحب البيت الشعري المشهور، الذي استوعب فيه حقيقة السياسة، في زمانه، وربما في زماننا هذا أيضا:
تولاها وليس له عدو ـ وفارقها وليس له صديق
وهذا البيت قاله عندما عزل من الوزارة، وأمر بلزوم بيته، لا لشئ إلا لأنه آثر سياسة التصالح مع الرعية، وانحاز إلى جانبها، وأظهركثيرا من الحلم والعطف في تدبير شؤونها، حتى قال له المقتدي يوما:
إن الأمور لا تمشي بهذا اللين الذي تستعمله، وقد أطمعت الناس بحلمك وتجاوزك.
وعندما أمره بنقض دور عشرة من كبار الملاك في بغداد عندما حصلت الفتنة بين الشيعة والسنة، حتى تقوم سياسة الخليفة المقتدي على الأرض، وتتوقف الفتن أرسل الوزير إلى المحتسب وقال له:
قد تقدم الخليفة بنقض دور عشرة من كبار أهل المحال، ولا تمكننى المراجعة فيهم، وما آمن أن يكون فيهم أحد غير مستحق للمؤاخذة، أو أن يكون الملك ليس له، فأريد أن تبعث ثقاتك إلى هذه المحال وتشتري أملاك هؤلاء المتهمين. فإذا صارت الأملاك لي نقضتها. وأسلم بذلك من الإثم ومن سخط الخليفة. ونقده الثمن في الحال، ففعل المحتسب ذلك، ثم بعد ذلك أرسل ونقضها.
وهذا عكس ما يحصل الأن في زمن الاستبداد ( المعولم ) حيث تدك البيوت على رؤوس أصحابها المساكين دون سابق إنذار، ودون أي تعويض يذكر…
وذكر المؤرخون بعد أن أثنوا جميعهم على سيرة هذا الوزير ( الفلتة )، أنه عندما صرف من الوزارة انثالت عليه العامة بتلقائية في طريقه إلى بيته تصافحه وتدعو له، وتشكر له حسن صنيعه.. وظن الخليفة أنه إنما قصد التظاهر بذلك مع العامة تشنيعا على الدولة. فأمره بلزوم داره وأن لا يخرج منها إلا بإذن خاص، وأنكر على كل من مشى معه.
ثم إن هذا الوزيرتزهد بعد إقصائه من وزارته العجيبة التي يبدو أنها قد اخترقت ناموس الطبيعية الاستبدادية!!! ولبس ثيابا خشنة، وطلب الإذن بالتوجه إلى الحج، ثم جاور بالمدينة المنورة يكنس المسجد النبوي، ويفرش الحصر، ويشعل المصابيح. وتوفي سنة 488 هج.
مقام الحرية مقام عزيز، والناس على الحرية مذ كانوا أول الأمر، ولكن المستبدين منا صادروها واحتكروها لأنفسهم، وانقلب حال كثير من الأفراد والشعوب إلى الرق والعبودية، وصار الشعار الذي رفع قديما:
( الناس على الحرية حتى يصح الرق )، معكوسا، أي: ( الناس على الرق حتى تصح الحرية).
وأصبح استرداد هذا الحق اليوم، حتى في رغيف الخبز، وفي مجرد العيش الكريم لكثير من الأفراد والأمم دونه خرط القتاد، وتيهان في أروقة المحاكم القطرية أو المحافل الدولية بمقرراتها واجتمعاتها الماراطونية التي لا تحاك ولا تحبك إلا على حساب المستضعفين وغير المتنفذين …
وحتى لا نتيه في تفاصيل الحرية الكونية، فلنحصر حديثنا عن هذه القضية والإشكالية في أمر سياسة السلطان العربي للرعية .
في البداية لا بد أن أعترف بأن المتحدث في شؤون السياسة في عالمنا العربي كالمصطلي بالنار في هذه الأيام العالمية الباردة، فقد يؤذي نفسه، من حيث يريد أن ينشر الدفئ لنفسه وغيره؛ وقد تثور حوله عاصفة نارية قد تنبعث حتى من تحت كومة الرماد الذي قد يظنه خامدا.
في سياسة الراعي والرعية، في المشهد التراثي العربي القديم، ثلاثة ملامح بارزة:
الملمح الأول:
تميز السلطان عن الرعية؛ فقد قيل: إن من أخلاق السلطان حب التفرد، وكان الحجاج المشهور باستبداه وعمامته إذا وضع على رأسه عمامته لم يجترئ أحد من خلق الله أن يدخل عليه بمثلها.
وقيل عن ملك بأرض اليمن إنه ما كان أحد من رعيته يأكل الإوز غيره.
الملمح الثاني:
الترهيب قبل الترغيب، فقد روي عن الحجاج أيضا قوله: سلطان تخافه الرعية خير من سلطان يخافها.
وروي عن العتابي الشاعر العباسي المشهور: لم لا تصحب السلطان على ما فيك من الأدب؟! قال: لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شئ، ويرمي من السور في غير شئ، ولا أدري أي الرجلين أكون.
الملمح الثالث والأخير:
حق السلطان في الفحص والتجسس عن أسرار رعيته.. كما تفعل أعتى الأنظمة الدولية الآن، ويضاف إلى ذلك شراء الكلام المنظوم والمنثور الذي يحتوي مدحا وإطراء بأغلى الأثمان، حتى جعلت للأشعار أسعار في بورصة الكلام، تماما كما هو حاصل الآن في المشهد الإعلامي السمعي والبصري، حيث الأقلام والدعايات المأجورة المموهة بماء الكذب والنفاق قد غطت على صوت أصحاب الحق والمظلومين.
ومن عجائب المشهد السياسي، في الزمن العربي القديم حكاية وزير الخليفة العباسي المقتدي بالله أبي شجاع؛ واسمه ظهير الدين محمد بن الحسين الهمداني.
وهو صاحب البيت الشعري المشهور، الذي استوعب فيه حقيقة السياسة، في زمانه، وربما في زماننا هذا أيضا:
تولاها وليس له عدو ـ وفارقها وليس له صديق
وهذا البيت قاله عندما عزل من الوزارة، وأمر بلزوم بيته، لا لشئ إلا لأنه آثر سياسة التصالح مع الرعية، وانحاز إلى جانبها، وأظهركثيرا من الحلم والعطف في تدبير شؤونها، حتى قال له المقتدي يوما:
إن الأمور لا تمشي بهذا اللين الذي تستعمله، وقد أطمعت الناس بحلمك وتجاوزك.
وعندما أمره بنقض دور عشرة من كبار الملاك في بغداد عندما حصلت الفتنة بين الشيعة والسنة، حتى تقوم سياسة الخليفة المقتدي على الأرض، وتتوقف الفتن أرسل الوزير إلى المحتسب وقال له:
قد تقدم الخليفة بنقض دور عشرة من كبار أهل المحال، ولا تمكننى المراجعة فيهم، وما آمن أن يكون فيهم أحد غير مستحق للمؤاخذة، أو أن يكون الملك ليس له، فأريد أن تبعث ثقاتك إلى هذه المحال وتشتري أملاك هؤلاء المتهمين. فإذا صارت الأملاك لي نقضتها. وأسلم بذلك من الإثم ومن سخط الخليفة. ونقده الثمن في الحال، ففعل المحتسب ذلك، ثم بعد ذلك أرسل ونقضها.
وهذا عكس ما يحصل الأن في زمن الاستبداد ( المعولم ) حيث تدك البيوت على رؤوس أصحابها المساكين دون سابق إنذار، ودون أي تعويض يذكر…
وذكر المؤرخون بعد أن أثنوا جميعهم على سيرة هذا الوزير ( الفلتة )، أنه عندما صرف من الوزارة انثالت عليه العامة بتلقائية في طريقه إلى بيته تصافحه وتدعو له، وتشكر له حسن صنيعه.. وظن الخليفة أنه إنما قصد التظاهر بذلك مع العامة تشنيعا على الدولة. فأمره بلزوم داره وأن لا يخرج منها إلا بإذن خاص، وأنكر على كل من مشى معه.
ثم إن هذا الوزيرتزهد بعد إقصائه من وزارته العجيبة التي يبدو أنها قد اخترقت ناموس الطبيعية الاستبدادية!!! ولبس ثيابا خشنة، وطلب الإذن بالتوجه إلى الحج، ثم جاور بالمدينة المنورة يكنس المسجد النبوي، ويفرش الحصر، ويشعل المصابيح. وتوفي سنة 488 هج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق