كتب يوم الأحد,حزيران 18, 2006
عدت إلى شاشة الحاسوب بعد غياب قسري بسبب انشغالي بالامتحانات الجامعية، مصححا ومشرفا على بعض فصول الطلبة المنتسبين إلى شعبة الدراسات العربية.
وقد يكون من المفيد أن أكتب، هنا وتباعا، بعض الإدراجات من وحي أجواء الامتحانات والحركة التعليمية السائدة الآن في بلدنا المغرب خاصة والعالم العربي عامة، مستعرضا بعض تجاربي المتواضعة في دراسة الآدب والعلوم الإنسانية، ومستخلصا بعض العبر والنتائج، لعل البعض ينتفع بها أو يجد فيها مجالا للمطارحة والمساءلة وتبادل وجهات النظر.
في بداية هذه الفئة الجديدة من مدونتي المتواضعة التي تحمل عنوان: ( قضايا تربوية وجامعية)، وللضرورة القصوى ولأن المناسبة شرط كما يقال، أجد نفسي مضطرا لأن أثير مرة أخرى قضية تسريب أسئلة امتحانات البكالوريا بجهة مدينة مكناس، منذ أسبوع مضى. ومع ذلك لا زالت تفاعلاتها مستمرة على أعمدة الصحف المغربية، وفي كثير من المواقع الإلكترونية، وقد تلقي بظلالها الكثيفة على مصداقية نتائجها التي ستعلن في غضون أيام قليلة.
والذي دفعني إلى إثارة هذا الموضوع الاعتبارات التالية:
1. لأن البكالوريا نقلة نوعية في حياة المتعلم، ولو جاز لي التشبيه لقلت إنها مرحلة البلوغ الحقيقي للتلميذ، وإن جاءت متزامنة أو متأخرة قليلا أو كثيرا عن زمن بلوغه الفزيلوجي حسب طبيعة جنسه ونوعية تكوينه، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن متوسط عمر حاملي شهادة البكالوريا في المغرب من الجنسين معا: الذكور والإناث، وبحسب ما يقتضيه منطق التدرج التعليمي المعتمد ببلادنا، من التمهيدي إلى الابتدائي إلى الإعدادي التأهيلي إلى الثانوي، يكون بين السن الثامنة عشر أو السابعة عشر في الأحوال الاستثنائية، وبين التاسعة عشر في الأحوال العادية، وقد يتأخر إلى ما بعد السن العشرين في الأحوال غير المعتادة، عند تراكم سنوات الهدر المدرسي…
2. ولأن حامل شهادة البكالوريا تتغير صفته من ( تلميذ) إلى ( طالب ) عند انتسابه إلى الكليات الجامعية أو المعاهد والمدارس العليا المتخصصة، داخل الوطن أو خارجه، فيتحقق له مزيد من النضج والاستقلال التدريجي بفكره ورأيه لرسم ملامح مستقبله، وتحديد مسار حياته، بعيدا بعض الشيء عن سلطة الأوصياء من الآباء والأقارب الذين يعلق معظمهم الآمال على كليات الطب أو الهندسة، مسترخصين كل غال ونفيس، وسالكين كل السبل الممكنة من أجل انتساب فلذات أكبادهم إلى أحد التخصصين المفضلين لدى جل الأسر المغربية الغنية والمتوسطة وحتى الفقيرة التي طالما أجبت نبغاء ونبهاء، وهما: الطب أو الهندسة.
وكثيرا ما تتعارض رغبات الأبناء مع رغبات الآباء في مسألة تحديد نوع التوجه، هل يكون علميا أم أدبيا، ثم بعد ذلك في تحديد مراكز الولوج بعد نيل شهادة البكالوريا. وهذا موضوع هام ومتشعب، وربما عدنا إليه بتفصيل لاحقا..
3. وبما أن شهادة البكالوريا بهذه القيمة في حياة المتعلم، وفي تحديد مصيره، فإن أهميتها تتضاعف أكثر عندما تكتسب مصداقية تدل على حقيقة حاملها وتمت إلى صاحبها بأسباب قوية غير ملفقة، ولا يتطرق إليها غش أو زيف، كما الشأن بالنسبة لكثير من السلع المغشوشة أو المضروبة أو الفاسدة التي تملأ معظم أسواقنا، والأدهى أنها تستعير وتنتحل لنفسها أسماء وشعارات لماركات معروفة عالميا بجودتها ومصداقيتها.ونحن لا نريد أن يصيب شواهدنا التعليمية ما يصيب الماركات التجارية من احتيال أو غش أو تزوير يمكن أن يضر بسمعة العملية التربوية برمتها، ويذهب بجهود المخلصين في حقل التربية والتعليم أدراج الرياح، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نسترخص العملية التربوية أو ننزل بها إلى سوق المضاربات والمزايدات، لأننا في هذه الحالة نزايد على مصير أمة كاملة.
لقد كان حدث تسريب أسئلة الامتحان لبكالوريا هذه السنة مؤشرا خطيرا على وجود داء خبيث ينخر هيكل العملية التربوية والتعليمية بالمغرب، ويفضح ما يجري في الكواليس الخفية عن الجمهور، وحيث يمكن أن تلعب الأهواء المريضة التي لا يحلو لها الاصطياد عادة إلا في الماء العكر وفي الظلام الدامس كما الخفافيش، مؤثرة لمصالحها الشخصية ومصالح بعض الغشاشين على حساب مجهود الشرفاء المثابرين المجدين الذين قد يضيع مجهودهم سدى في لحظة طيش وعبث أو موت للحس والضمير.
ولتنضاف تلك الحادثة المشؤومة التي طارت بفضيحتها الركبان، وصارت حديث جميع الأسر المغربية المكلومة أصلا بجراح الإحباط والفقر، وكل أشكال الهزائم العربية القريبة والبعيدة.
وقد وجد حادث التسريب في وسائل الاتصال والنسخ السريع من هاتف جوال وفاكس وأنترنت أعوانا وجنودا من جنود الخفاء حولوا تلك الشرارة التي انطلقت من بؤرة واحدة فاسدة إلى نار ملتهبة انتشرت بسرعة فائقة وكادت أن تتحول إلى شر مستطير يصعب إيقافه أو التحكم فيه، وليحترق الأخضر باليابس، وليعتل الصحيح بالمريض وليختلط الحابل بالنابل، ولتضرب شهادة البكالوريا هذه السنة في صميم مقتلها.
ورغم تصريحات بعض المسؤولين عن شأن التعليم جهويا ووطنيا التي حاولت أن تطمئن الرأي العام، وتهون من حادثة التسريب قدر الإمكان، فإن مجرد ظهورهم على الشاشة التلفزيونية ومواجهتهم لعموم الشعب المغربي بتبريرات يبدو أنها لم تقنع حتى أصحابها لأكبر دليل على فداحة الأمر، لأن ظهور المسؤولين العرب أمام شعوبهم المغلوبة على أمرها لا يتم في الغالب إلا عند الضرورة القصوى، أو عند احتدام الأمر.
بقي في النهاية أن أشير إلى أن ظاهرة تسريب الامتحانات يمكن أن نجد لها امتدادات أخرى؛ فداخل بلد كالمغرب بخصوصياته الجغرافية والطبيعية والبشرية المتميزة ووقوعه على مسافة قريبة من أوربا، وعند أقصى طرف من جناح العالم العربي حيث يلتقي البحران: الأطلسي والمتوسط يمكن أن نتحدث عن أشكال كثيرة أخرى من التسريبات؛
فيمكن أن نتحدث مثلا عن تسريب البشر عبر عمليات ( الحريق ) أو الهجرة السرية عبر قوارب الموت بين ضفتي البوغاز أو مضيق جبل طارق، كما يمكن أن نتحدث عن التسريب السري للسلع من سبتة ومليلية السليبتين إلى باقي مدن المغرب، كما يمكن أيضا أن نتحدث عن تسريب ( الكيف ) و ( الحشيش ) عبر منطقة ( كتامة ) الشمالية إلى أوربا وإلى داخل المغرب، وحتى عن تسريب البشر عبر ظاهرة النقل السري الذي لا يخضع للإجراءات القانونية أو ما يعرف بحركة ( الخطافة ) وغير ذلك من الظواهر التسريبية التي صارت جزء من سلوكات كثير من المغاربة يمارسونها بالواضح أحيانا، عند غياب الرقيب، وبالمرموز أحيانا أخرى عندما تتحرك حملات المتابعة والتفتيش التي تحتاج هي الأخرى إلى من يتابعها ويفتشها.
ولا رقابة أكبر من ضمير حي يراعي حرمة الله والعباد في السر قبل العلن.
عدت إلى شاشة الحاسوب بعد غياب قسري بسبب انشغالي بالامتحانات الجامعية، مصححا ومشرفا على بعض فصول الطلبة المنتسبين إلى شعبة الدراسات العربية.
وقد يكون من المفيد أن أكتب، هنا وتباعا، بعض الإدراجات من وحي أجواء الامتحانات والحركة التعليمية السائدة الآن في بلدنا المغرب خاصة والعالم العربي عامة، مستعرضا بعض تجاربي المتواضعة في دراسة الآدب والعلوم الإنسانية، ومستخلصا بعض العبر والنتائج، لعل البعض ينتفع بها أو يجد فيها مجالا للمطارحة والمساءلة وتبادل وجهات النظر.
في بداية هذه الفئة الجديدة من مدونتي المتواضعة التي تحمل عنوان: ( قضايا تربوية وجامعية)، وللضرورة القصوى ولأن المناسبة شرط كما يقال، أجد نفسي مضطرا لأن أثير مرة أخرى قضية تسريب أسئلة امتحانات البكالوريا بجهة مدينة مكناس، منذ أسبوع مضى. ومع ذلك لا زالت تفاعلاتها مستمرة على أعمدة الصحف المغربية، وفي كثير من المواقع الإلكترونية، وقد تلقي بظلالها الكثيفة على مصداقية نتائجها التي ستعلن في غضون أيام قليلة.
والذي دفعني إلى إثارة هذا الموضوع الاعتبارات التالية:
1. لأن البكالوريا نقلة نوعية في حياة المتعلم، ولو جاز لي التشبيه لقلت إنها مرحلة البلوغ الحقيقي للتلميذ، وإن جاءت متزامنة أو متأخرة قليلا أو كثيرا عن زمن بلوغه الفزيلوجي حسب طبيعة جنسه ونوعية تكوينه، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن متوسط عمر حاملي شهادة البكالوريا في المغرب من الجنسين معا: الذكور والإناث، وبحسب ما يقتضيه منطق التدرج التعليمي المعتمد ببلادنا، من التمهيدي إلى الابتدائي إلى الإعدادي التأهيلي إلى الثانوي، يكون بين السن الثامنة عشر أو السابعة عشر في الأحوال الاستثنائية، وبين التاسعة عشر في الأحوال العادية، وقد يتأخر إلى ما بعد السن العشرين في الأحوال غير المعتادة، عند تراكم سنوات الهدر المدرسي…
2. ولأن حامل شهادة البكالوريا تتغير صفته من ( تلميذ) إلى ( طالب ) عند انتسابه إلى الكليات الجامعية أو المعاهد والمدارس العليا المتخصصة، داخل الوطن أو خارجه، فيتحقق له مزيد من النضج والاستقلال التدريجي بفكره ورأيه لرسم ملامح مستقبله، وتحديد مسار حياته، بعيدا بعض الشيء عن سلطة الأوصياء من الآباء والأقارب الذين يعلق معظمهم الآمال على كليات الطب أو الهندسة، مسترخصين كل غال ونفيس، وسالكين كل السبل الممكنة من أجل انتساب فلذات أكبادهم إلى أحد التخصصين المفضلين لدى جل الأسر المغربية الغنية والمتوسطة وحتى الفقيرة التي طالما أجبت نبغاء ونبهاء، وهما: الطب أو الهندسة.
وكثيرا ما تتعارض رغبات الأبناء مع رغبات الآباء في مسألة تحديد نوع التوجه، هل يكون علميا أم أدبيا، ثم بعد ذلك في تحديد مراكز الولوج بعد نيل شهادة البكالوريا. وهذا موضوع هام ومتشعب، وربما عدنا إليه بتفصيل لاحقا..
3. وبما أن شهادة البكالوريا بهذه القيمة في حياة المتعلم، وفي تحديد مصيره، فإن أهميتها تتضاعف أكثر عندما تكتسب مصداقية تدل على حقيقة حاملها وتمت إلى صاحبها بأسباب قوية غير ملفقة، ولا يتطرق إليها غش أو زيف، كما الشأن بالنسبة لكثير من السلع المغشوشة أو المضروبة أو الفاسدة التي تملأ معظم أسواقنا، والأدهى أنها تستعير وتنتحل لنفسها أسماء وشعارات لماركات معروفة عالميا بجودتها ومصداقيتها.ونحن لا نريد أن يصيب شواهدنا التعليمية ما يصيب الماركات التجارية من احتيال أو غش أو تزوير يمكن أن يضر بسمعة العملية التربوية برمتها، ويذهب بجهود المخلصين في حقل التربية والتعليم أدراج الرياح، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نسترخص العملية التربوية أو ننزل بها إلى سوق المضاربات والمزايدات، لأننا في هذه الحالة نزايد على مصير أمة كاملة.
لقد كان حدث تسريب أسئلة الامتحان لبكالوريا هذه السنة مؤشرا خطيرا على وجود داء خبيث ينخر هيكل العملية التربوية والتعليمية بالمغرب، ويفضح ما يجري في الكواليس الخفية عن الجمهور، وحيث يمكن أن تلعب الأهواء المريضة التي لا يحلو لها الاصطياد عادة إلا في الماء العكر وفي الظلام الدامس كما الخفافيش، مؤثرة لمصالحها الشخصية ومصالح بعض الغشاشين على حساب مجهود الشرفاء المثابرين المجدين الذين قد يضيع مجهودهم سدى في لحظة طيش وعبث أو موت للحس والضمير.
ولتنضاف تلك الحادثة المشؤومة التي طارت بفضيحتها الركبان، وصارت حديث جميع الأسر المغربية المكلومة أصلا بجراح الإحباط والفقر، وكل أشكال الهزائم العربية القريبة والبعيدة.
وقد وجد حادث التسريب في وسائل الاتصال والنسخ السريع من هاتف جوال وفاكس وأنترنت أعوانا وجنودا من جنود الخفاء حولوا تلك الشرارة التي انطلقت من بؤرة واحدة فاسدة إلى نار ملتهبة انتشرت بسرعة فائقة وكادت أن تتحول إلى شر مستطير يصعب إيقافه أو التحكم فيه، وليحترق الأخضر باليابس، وليعتل الصحيح بالمريض وليختلط الحابل بالنابل، ولتضرب شهادة البكالوريا هذه السنة في صميم مقتلها.
ورغم تصريحات بعض المسؤولين عن شأن التعليم جهويا ووطنيا التي حاولت أن تطمئن الرأي العام، وتهون من حادثة التسريب قدر الإمكان، فإن مجرد ظهورهم على الشاشة التلفزيونية ومواجهتهم لعموم الشعب المغربي بتبريرات يبدو أنها لم تقنع حتى أصحابها لأكبر دليل على فداحة الأمر، لأن ظهور المسؤولين العرب أمام شعوبهم المغلوبة على أمرها لا يتم في الغالب إلا عند الضرورة القصوى، أو عند احتدام الأمر.
بقي في النهاية أن أشير إلى أن ظاهرة تسريب الامتحانات يمكن أن نجد لها امتدادات أخرى؛ فداخل بلد كالمغرب بخصوصياته الجغرافية والطبيعية والبشرية المتميزة ووقوعه على مسافة قريبة من أوربا، وعند أقصى طرف من جناح العالم العربي حيث يلتقي البحران: الأطلسي والمتوسط يمكن أن نتحدث عن أشكال كثيرة أخرى من التسريبات؛
فيمكن أن نتحدث مثلا عن تسريب البشر عبر عمليات ( الحريق ) أو الهجرة السرية عبر قوارب الموت بين ضفتي البوغاز أو مضيق جبل طارق، كما يمكن أن نتحدث عن التسريب السري للسلع من سبتة ومليلية السليبتين إلى باقي مدن المغرب، كما يمكن أيضا أن نتحدث عن تسريب ( الكيف ) و ( الحشيش ) عبر منطقة ( كتامة ) الشمالية إلى أوربا وإلى داخل المغرب، وحتى عن تسريب البشر عبر ظاهرة النقل السري الذي لا يخضع للإجراءات القانونية أو ما يعرف بحركة ( الخطافة ) وغير ذلك من الظواهر التسريبية التي صارت جزء من سلوكات كثير من المغاربة يمارسونها بالواضح أحيانا، عند غياب الرقيب، وبالمرموز أحيانا أخرى عندما تتحرك حملات المتابعة والتفتيش التي تحتاج هي الأخرى إلى من يتابعها ويفتشها.
ولا رقابة أكبر من ضمير حي يراعي حرمة الله والعباد في السر قبل العلن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق