الاثنين، 11 فبراير 2008

في سؤال الراعي والرعية قديما

كتب يوم الخميس,نيسان 27, 2006

كيف كان سؤال الراعي والرعية في التراث العربي القديم؟!!
نقدم في هذا الإدراج جزء من المحاورات التي ساقها أبو حيان التوحيدي ـ أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء الذي عاش محنة الظلم والضياع في عصره(القرن الهجري الرابع) ـ حول هذا الموضوع الشائك الذي لم يتغير حتى الآن كثيرا، في معظم ملامحه وحقيقته عن زمن التوحيدي. فلا زالت الشعوب العربية رهينة لدى وزارات الداخلية في معظم الدول العربية تساق بالعصا إلى حظائرها المسيجة بالأسلاك الشائكة المكهربة، المحروسة بالكلاب الضارية والذئاب العاوية….

ـ حق مساءلة السلطة والخوض في شأنها كان مجرد افتراض مرهون ب كلمة ” لو”، كما جاء في هذه المحاورة الافتراضية التي ساقها أبو حيان التوحيدي بحسه الساخر، ومراميه البعيدة الضاربة في عمق الأزمة القائمة بين الحكام العرب وشعوبهم التي لازالت تعرقل خطى بلداننا العربية في التحرر والديموقراطية والتنمية:

( لو قالت الرعية لسلطانها: لم لا نخوض في حديثك، ولا نبحث عن غيب أمرك، ولم لا نسأل عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك؟ ولم لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك، ومصالحنا متعلقةٌ بك، وخيراتنا متوقعةٌ من جهتك، ومسرتنا ملحوظةٌ بتدبيرك، ومساءتنا مصروفة باهتمامك، وتظلمنا مرفوعٌ بعزك، ورفاهيتنا حاصلةٌ بحسن نظرك وجميل اعتقادك، وشائع رحمتك، وبليغ اجتهادك، ما كان جواب سلطانها وسائسها؟

أما كان عليه أن يعلم أن الرعية مصيبةٌ في دعواها التي بها استطالت، بلى والله، الحق معترفٌ به وإن شغب الشاغب، وأعنت المعنت.
قال: ولو قالت الرعية أيضاً: ولم لا تبحث عن أمرنا؟ ولم لا تسمع كل غثٍ وسمين منا! وقد ملكت نواصينا، وسكنت ديارنا، وصادرتنا على أموالنا، وحلت بيننا وبين ضياعنا، وقاسمتنا مواريثنا، وأنسيتنا رفاعة العيش، وطيب الحياة، وطمأنينة القلب، فطرقنا مخوفة، ومساكننا منزولة، وضياعنا مقطعة، ونعمنا مسلوبة، وحريمنا مستباح، ونقدنا زائف، وخراجنا مضاعف، ومعاملتنا سيئة، وجندينا متغطرس، وشرطينا منحرف، ومساجدنا خربة، ووقوفها منتهبة، ومارستاناتنا خاوية، وأعداؤنا مستكلبة، وعيوننا سخينة، وصدورنا مغيظة، وبليتنا متصلة، وفرحنا معدوم…؟؟َََ!!!)

ترى ما كان جواب السلطة عما قالته الرعية في محاورتها الافتراضية السابقة التي تشير إلى عظيم محنتها ومأساتها وبؤسها وضياع حقوقها بسبب أعوانها المفسدين….؟!!

الجواب كامن في مضمون الحكاية التالية التي ساقها أبو حيان التوحيدي أيضا؛ وفيها يظهر أن اهتمام السلطة برعيتها كان كبيرا من خلال جواسيسها وعيونها الساهرة التي لا تنام ليلا أو نهارا، وأنها لا تنزعج لذلك قدر انزعاجها عندما تجد الرعية وقتا للخوض في شأن السلطة بالأراجيف وبالقيل والقال.

غير أن السلطة تجد لنفسها دائما ردا جاهزا على كل شبهة، وتضع لكل واقعة حلا مناسبا يبقيها بمنجاة، وتكون العاقبة على الرعية التي قد تدفع ثمن فضولها ومساءلتها غاليا، فيبقى مصيرها معلقا بين تدبير الوزير الظالم المستبد، وتقدير الخليفة أوالأمير الحكيم. وقد يقع العكس أيضا عندما يتبادلان المواضع والأدوار، ولكن الطامة الكبرى والداهية العظمى عندما يجتمع على الرعية ظلم الحاكم وظلم أعوانه المقربين.

أما ما جاء في هذه المحاورة التي جرت بين الخليفة المعتضد (العاقل المتزن) ووزيره المستبد المتهور الأرعن فتنطبق عليه الحالة الأولى:

( وحكى لنا في عُرض هذا الكلام أنه رُفع إلى الخليفة المعتضد أن طائفةً من الناس يجتمعون بباب الطاق ويجلسون في دكان شيخ تبان، ويخوضون في الفضول والأراجيف وفنونٍ من الأحاديث، وفيهم قومٌ سراة وتناءٍِ وأهل بيوتاتٍ سوى من يسترق السمعَ منهم من خاصة الناس، وقد تفاقم فسادهم وإفسادهم، فلما عرف الخليفة ذلك ضاق ذَرعاً، وحَِرج صدراً، وامتلأ غيظاً، ودعا بعبيد الله بن سليمان، ورمى بالوقيعة إليه، وقال: انظر فيها وتفهمها. ففعل، وشاهد من تَرَبَُدِ وجه المعتضد ما أزعج ساكِنَ صدره، وشرد آلَف صبِره، وقال:
قد فهمت يا أمير المؤمنين.
قال: فما الدواء؟
قال: تتقدم بأخذهم وصلب بعضهم وإحراق بعضهم وتغريق بعضهم، فإن العقوبة إذا اختلفت، كان الهول أشد، والهيبة أفشى، والزجر أنجع، والعامة أخوف.
فقال المعتضد - وكان أعقل من الوزير - : والله لقد بردت لهيب غضبي بفَورتك هذه، ونقلتني إلى اللين بعد الغلظة، وحططت علي الرفق، من حيث أشرت بالخرق، وما علمت أنك تستجيز هذا في دينك وهديك ومروءتك، ولو أمرتك ببعض ما رأيت بعقلك وحزمك لكان من حسن المؤازرة ومبذول النصيحة والنظر للرعية الضعيفة الجاهلة أن تسألني الكف عن الجهل، وتبعثني على الحلم، وتحبب إلى الصفح وترغبني في فضلٍ الإغضاء على هذه الأشياء. وقد ساءني جهلك بحدود العقاب وبما تقابل به هذه الجرائر، وبما يكون كفأً للذنوب، ولقد عصيتَ الله بهذا الرأي ودللت على قسوة القلب وقلة الرحمة ويبس الطينة ورقة الديانة، أما تعلم أن الرعية وديعة الله عند سلطانها؟ وأن الله يسائله عنها كيف سستها؟ ولعله لا يسألها عنه، وإن سألها فليؤكد الحجة عليه منها؛ ألا تدري أن أحداً من الرعية لا يقول ما يقول إلا لظلمٍ لحقه أو لحق جاره، وداهيةٍ نالته أو نالت صاحباً له؟ وكيف نقول لهم: كونوا صالحين أتقياء مقبلين على معايشكم، غير خائضين في حديثنا، ولا سائلين عن أمرنا، والعرب تقول في كلامها: غلبنا السلطان فلبس فروتنا، وأكل خضرتنا، وحنق المملوك على المالك معروف، وإنما يحتمل السيد على صروف تكاليفه، ومكاره تصاريفه، إذا كان العيش في كنفه رافعاً، والأمل فيه قوياً، والصدر عليه بارداً، والقلب معه ساكناً، أتظن أن العمل بالجهل ينفع، والعذر به يسع، لا والله ما الرأي ما رأيت، ولا الصواب ما ذكرت، وجه صاحبك وليكن ذا خبرةٍ ورفق، ومعروفاً بخيرٍ وصدقٍ، حتى يعرف حال هذه الطائفة، ويقف على شأن كل واحدٍ منها في معاشه، وقدر ما هو متقلبٌ فيه ومنقلبٌ إليه، فمن كان منهم يصلح للعمل فعلقه به، ومن كان سيىء الحال فصله من بيت المال بما يعيد نضرة حاله، ويفيده طمأنينة باله؛ ومن لم يكن من هذا الرهط، وهو غنيٌ مكفيٌ، وإنما يخرجه إلى دكان هذا التبان البطر والزهو، فادع به، وانصحه، ولاطفه، وقل له: إن لفظك مسموع، وكلامك مرفوع؛ ومتى وقف أمير المؤمنين على كنه ذلك منك لم تجدك إلا في عرضة المقابر، فاستأنف لنفسك سيرةً تسلم بها من سلطانك، وتحمد عليها عند إخوانك، وإياك أن تجعل نفسك عظةً لغيرك بعدما كان غيرك عظةً لك؛ ولولا أن الأخذ بالجريرة الأولى مخالفٌ للسيرة المثلى، لكان هذا الذي تسمعه ما تراه، وما تراه تود أنك لو سمعته قبل أن تراه. فإنك يا عبيد الله إذا فعلت ذلك فقد بالغت في العقوبة، وملكت طرفي المصلحة، وقمت على سواء السياسة، ونجوت من الحوب والمأثم في العاقبة.

قال: وفارق الوزير حضرة الخليفة، وعمل بما أمر به على الوجه اللطيف، فعادت الحال ترف بالسلامة العامة، والعافية التامة؛ فتقدم إلى الشيخ التبان برفع حال من يقعد عنده حتى يواسى إن كان محتاجاً، ويصرف إن كان متعطلاً، وينصح إن كان متعقلاً).

ليست هناك تعليقات: