كتب يوم الثلاثاء,أيار 02, 2006
يقوم سلوك الإنسان في التعامل مع العالم الخارجي المحيط به والسيطرة عليه على مبدأ جوهري عميق وسطحي بسيط في نفس الوقت، ويشترك فيه مع معظم المخلوقات الكونية التي تحرص جميعها على جلب الغذاء النافع لها، ودفع الخطر المحدق بها، للحفاظ على نقاء نوعها وبقاء سلالتها لأطول فترة ممكنة.
وهذا المبدأ هو مبدأ الحيل الغريزية التي أودعها الخالق فيها. وبه وحده تتمكن من مجابهة أعدائها والحفاظ على حياتها؛ ففرار الأرانب الضعيفة أمام السباع الضارية، وإن انطوى على جبن، في عرف البشر، مثال واحد على هذا المبدأ، وكذلك الأمر بالنسبة لسرطانات البحر التي تحمي جسمها الرطب داخل الهياكل الصدفية الجوفاء في قيعان البحار الموحشة، فهي مثال واحد آخر من بين عدد هائل من المخلوقات التي لا يُحصيها عدًّا ولا يُحيط بها علمًا غيرُ خالِقها الجبار الذي أودعها خفايا سره وبليغ حكمته، فتكون حيلُها التي هي سبب وجودها وبقائها بعدد أنواعها. وهل الإنسان بالنسبة لها إلا بمثابة حبة رمل من شاطئ، أو نقطة ماء من بحر، أو ذرة تراب من يابسة…!!؟؟
وتلك الأرانب الجبانة، في عين الإنسان، لم تستطع منذ أن خلقها الله، أن تعدل من سلوكها هذا أو تزيد فيه أو تنقص منه، وكذلك الأمر بالنسبة لسرطانات البحر التي لم تستطع أن تغير شيئا من عادتها في التخفي وتحمل أعباء جر الأصداف الثقيلة التي تضطر إلى تغييرها كلما ضاقت عن جسمها الذي ينمو داخلها.
وحده الإنسان يتمتع بالقدرة على التنكر خلف أقنعة كل المخلوقات البرية والبحرية والجوية، والتصرف فيها بالزيادة والحذف والتعديل، كما أوضحنا في بعض الإدراجات السابقة.(1)
ولأن الإنسان مخلوق من ضعف ونقص وجهل فسيبقى علمه ناقصا على الدوام، فكان التحايل على ضعفه وعلى نقصه وعلى جهله أهم حافز لديه لبلوغ نوع من الكمال النسبي فقط، عندما يقاس إلى سابقه الذي سرعان ما يَجُبُّه لاحقُه. أما الكمال المطلق فلن يبلغه أبدا، وإلا لو كان تقدمه وتحضره دليلا على نضجه واكتماله لكف عن الحروب وسفك الدماء منذ زمان، بل إن اختراعه لسلاح فتاك يجره دوما إلى صنع ما هو أشد بأسا وفتكا…!! وقس على ذلك سائر مبتكراته ومخترعاته التي يدل لاحقها على نقص السابق منها…
إن عقل الإنسان مثل تلك الثمرة التي تنمو وتكبر ولكنها لن تنضج أبدا، لأن مصالح كل العباد متوقفة على نقصهم وضعفهم وحاجتهم إلى غيرهم في كل زمان ومكان.
ولو بلغ الإنسان الكمال لتعطل العلم والعمل منذ زمان، وما عادت هناك حاجة ماسة إلى مدرسة أو معلم، أو أقلام أو كتب أو أجهزة أو برامج أو حواسب….
ولا مجال الآن للاندهاش أمام منجزات الإنسان الجبارة والهائلة في عالم التقنية والاتصال، وفي كل ما اخترعه حتى اليوم أو ما يمكن أن يبتكره في الغد القريب أو البعيد من أجهزة وآلات يستعيض بها كل مرة عن حالة من حالات ضعفه أو نقصه أو جهله؛ فكل منجز تقني بشري على هذه الأرض وفي محيط فلكها الذي اهتدى إليه الآن ما هو في الحقيقة إلا امتداد لعقله الذي لازال يتعلم من جهله، ولذاته الضعيفة والناقصة التي يسعى دائما جاهدا ليخلق لها وسائط، ويجعل لها امتدادات تخترق حدود الزمان والمكان؛ أو ليست وسائل الاستشعار الآلي وأجهزة الاتصال السمعي والبصري الفضائي الرقمي المتطور إلا امتدادات لعقله وسمعه وبصره، فغدا (أعقل) وأسمع وأبصر مما كان، وهل الرافعات الضخمة إلا امتداد لذراعيه، فغدا أقوى مما كان، وهل السيارات والبواخر والطائرات النفاثة والصواريخ والأقمار الاصطناعية السابحة في الفضاءات البعيدة إلا امتداد لقدميه، حتى غدا أسرع مما كان…؟!!
ومع الأسف الشديد، فهناك ميل لدى حكوماتنا وهيئاتنا الثقافية والعلمية والدينية إلى تهويل أمر العلم والابتكار على شعوبها، بسبب احتكارها للمعرفة والثقافة ووسائطها المختلفة والحساسة؛ من صحافة وإعلام ومؤسسات البحث العلمي، وتقنينها بما يوافق طموحاتها وأطماعها ومصالحها التي كثيرا ما تتعارض مع مصالح الشعوب العربية ورغباتها، وممارسة أشكال الإقصاء البيروقراطي لصالح حفنة من المتنفذين والمنتفعين والوصوليين الذين يدورون في فلكها كالطحالب السامة التي تعيق وتشل حركة المثقفين الأحرار الشرفاء من هذه الأمة الذين ينفرون بطبعم المتأصل فيهم من طقوس الولاءات والانحناءات، مما جعل كثيرا منهم يفرون إلى عالم التدوين والكتابة الافتراضية على مواقع الشبكة العنكبوتية.
إن جهاز الحاسوب الذي أكتب بواسطته الآن هذا الإدراج مثلا، هو بالضرورة امتداد لعقلي وحواسي التي أودعها الله في جسمي الضعيف قبل أن أعي حقيقة ذاتي وكياني، وعندما أرسل هذا الإدراج على الشبكة العنكبوتية يصبح لدى قارئه بمثابة البداية لما انتهيت إليه عند الفراغ منه، وخلاصة المخاض الذي مررت به في تلك الأوقات العسيرة التي تقع عند حدود المسافة الزمنية الفاصلة بين تسويده وتبييضه.
فهذا الإدراج صلة وصل بيني وبينك أيها القارئ الكريم، على رغم ما قد يكون بيننا من تباعد في المكان، وتباين في الطباع والأمزجة، واختلاف في الأهداف المتوخاة والأقنعة المستعارة، غير أنه يمثل لي الآن حاجة ورغبة؛
أما الحاجة ففي بحثي عن وضوح أفكاري من خلال اللغة التي أكتب بها هذا الإدراج، وهذا في حد ذاته جوهر هدفي الذي يمكنني من مقاومة حالة الغموض التي تكتنفني قبل كل كتابة، فالكتابة حرب مستمرة على حالة الغموض التي تعتري كياننا الداخلي. وكل الكتابات المنجزة إلى الآن هي انتصارات على حالات الغموض التي اعترت مَن كان قبلنا. ودائرة الوضوح لدينا تزداد بمقدار اطلاعنا على تجارب غيرنا من الأحياء والأموات، والاستنارة بأفكارهم التي تعبوا في إخراجها من حيز العدم إلى حيز الوجود.
أما رغبتي فتتمثل في نقل هذا الوضوح إليك على النحو الذي انتهيت إليه الآن، كما كان يفعل أسلافنا من خلال تراثهم الذي أوصلوه إلينا بخطوط أناملهم الرشيقة، وقد يكون تفاعلك أو تعليقك على هذا الإدراج وسيلة للمقايسة التي تريني حقيقة فهمي في مرآة عقلك، ودرجة وضوحي بالقياس إلى نبراس فهمك، كما كان يفعل أسلافنا من خلال طررهم وحواشيهم التي ذيلوا بها كتب السابقين، فلا فرق بيننا وبينهم إلا في نوع الحيلة والوسيلة، ولا فرق بين وجه ورقة مخطوط نالت منه الأرضة والرطوبة أو سطح شاشة حاسب مضيء نقي أملس.
وعلى ضوء هذا المبدأ نستطيع أن نفهم حاجة الإنسان الفرد إلى غيره في كل الأوضاع والأحوال، وافتقار الشعوب إلى بعضها في السراء والضراء. وعلى هذا المبدأ أيضا تنشأ جميع العلاقات الفردية والجماعية والإنسانية، وتتحدد معظم الأهداف والغايات، وتُقضى كل المآرب والحاجات…!!
لقد جعل الإنسان بين رغباته وحاجاته ورغبات الآخرين وحاجاتهم شروطا وقوانين ووسائط شتى ما هي، في الواقع، إلا مجموعة أسباب وذرائع وحيل يقدمها كل واحد منا بين يديه، لتلبية رغبة أو قضاء حاجة، وعلى قدر تلك الحيل والذرائع وكثرتها وانتظامها ونجاعتها وفائدتها لعموم البشرية تتحدد إنسانيته، ويقاس مدى نجاحه أو فشله، ويحدد موقعه بين إنسانيته وحيوانيته، عند طرفي متناقضات شتى تتراوح بين سرعة أو إبطاء، وبين قوة أو ضعف، وبين سمو أو سخف، وبين عزة أو مهانة…. إلى آخر الثنائيات المتضادة التي تحكم واقع الإنسان في هذا الكون المحدود بجاذبيته وانجذابه، بمائه وناره، وبهوائه وترابه، ويبسه ورطوبته، وبعفونته وطراوته، وبقسوته ولينه، وبعدله وظلمه، وبضعفه وجبروته…
وما دمنا قد أثرنا في الإدراج السابق قضية اللغة العربية، فإن اللغة بشكل عام أهم تلك الحيل والوسائط الناجعة التي يقدمها الإنسان العربي المدون اليوم بين يديه سفيرا لدى قرائه الافتراضيين من مختلف الدول العربية، لمد حالة الوضوح حول ذواتنا المنعزلة، و قضايانا الكثيرة الملتبسة.
وأن يتوصل كل فرد عربي إلى توضيح حقيقة نفسه وحقيقة محيطه العربي الخاص والعام بلغة عربية تحترم شروط الصحة والسلامة اللغوية، وبأسلوب رشيق قريب إلى الأفهام حتى يظنه القارئ أسلوبا عاديا، وإذا رام تقليده تبلد وحار وأصبح لديه مستعصيا أمر عظيم الأهمية، لما نراه اليوم من اختلال وتباين واضحين في أساليب كثير من المدونين يفضح بشكل سافر عُوارهم ونقصهم، وقصر باعهم في شأن اللغة العربية؛ فهما وأسلوبا وأداء وإملاء.
وإذا اتحدت أساليب المدونين العرب اليوم على نهج لغوي ثابت مفهوم ومقبول، ومتساو إلى حد معين في تحقيق شروط الصحة اللغوية، كما كان الأمر بالنسبة لأسلافنا من المحيط إلى الخليج رغم ما ابتلوا به أيضا من آفات وحروب ومضايقات وأزمات، يمكن أن تبدأ حياة جديدة لثقافة التدوين العربية تليق بحقيقة اللغة العربية الصافية النقية التي غابت عن كثير من المدونات العربية.
ورغم ما تتميز به المدونات العربية من حرية وذاتية وموضوعية وجرأة وصراحة، وابتعاد عن طقوس الولاءات السياسية والسلطوية التي طالما احتكرت عقول الناس وعواطفهم، وأرهبتهم وأرعبتهم ببلاغة الكتاب المأجورين، غير أنها تفتقر اليوم إلى القواعد اللغوية السليمة التي يحرص عليها أعداؤنا في لغتهم أشد الحرص.
وقلما أقرأ مدونة عربية دون أن أسجل عليها جملة لا بأس بها من الأخطاء اللغوية والتعبيرية التي كثيرا ما تسبب بعض الامتعاض لدي، رغم أهمية موضوعاتها، ورغم ما يبديه أصحابها من عواطف وصراحة، وسداد رأي، لكن صواب الفكرة يبقى من صواب العبارة…
إن حيل اللغة العربية ووجوه التصرف في ألفاظها ومعانيها وبلاغتها لتمثل بالنسبة للقارئ والكاتب العربيين متسعا رحبا لا يمكن أن يضيق على كليهما في أي وقت إذا أحسنا الاطلاع، ولكل واحد منهما كامل الحظ للولوج بالتعبير اللغوي العربي والمناورة به حتى عند أضيق المسالك والمنعرجات. لكن، لمن أدام النظر وسلك كل دروب المعاني القريبة والبعيدة، ومرن نفسه على قراءة النصوص العالية والمتوسطة والعادية، ليكون لديه رصيد المعرفة بطرق الأداء كبيرا ومتنوعا ينفق منه عند الحاجة كيف يشاء..
————–
هامش:
(1) راجع إدراجنا السابق: ( الإنسان ذلك الحيوان المقنع).
يقوم سلوك الإنسان في التعامل مع العالم الخارجي المحيط به والسيطرة عليه على مبدأ جوهري عميق وسطحي بسيط في نفس الوقت، ويشترك فيه مع معظم المخلوقات الكونية التي تحرص جميعها على جلب الغذاء النافع لها، ودفع الخطر المحدق بها، للحفاظ على نقاء نوعها وبقاء سلالتها لأطول فترة ممكنة.
وهذا المبدأ هو مبدأ الحيل الغريزية التي أودعها الخالق فيها. وبه وحده تتمكن من مجابهة أعدائها والحفاظ على حياتها؛ ففرار الأرانب الضعيفة أمام السباع الضارية، وإن انطوى على جبن، في عرف البشر، مثال واحد على هذا المبدأ، وكذلك الأمر بالنسبة لسرطانات البحر التي تحمي جسمها الرطب داخل الهياكل الصدفية الجوفاء في قيعان البحار الموحشة، فهي مثال واحد آخر من بين عدد هائل من المخلوقات التي لا يُحصيها عدًّا ولا يُحيط بها علمًا غيرُ خالِقها الجبار الذي أودعها خفايا سره وبليغ حكمته، فتكون حيلُها التي هي سبب وجودها وبقائها بعدد أنواعها. وهل الإنسان بالنسبة لها إلا بمثابة حبة رمل من شاطئ، أو نقطة ماء من بحر، أو ذرة تراب من يابسة…!!؟؟
وتلك الأرانب الجبانة، في عين الإنسان، لم تستطع منذ أن خلقها الله، أن تعدل من سلوكها هذا أو تزيد فيه أو تنقص منه، وكذلك الأمر بالنسبة لسرطانات البحر التي لم تستطع أن تغير شيئا من عادتها في التخفي وتحمل أعباء جر الأصداف الثقيلة التي تضطر إلى تغييرها كلما ضاقت عن جسمها الذي ينمو داخلها.
وحده الإنسان يتمتع بالقدرة على التنكر خلف أقنعة كل المخلوقات البرية والبحرية والجوية، والتصرف فيها بالزيادة والحذف والتعديل، كما أوضحنا في بعض الإدراجات السابقة.(1)
ولأن الإنسان مخلوق من ضعف ونقص وجهل فسيبقى علمه ناقصا على الدوام، فكان التحايل على ضعفه وعلى نقصه وعلى جهله أهم حافز لديه لبلوغ نوع من الكمال النسبي فقط، عندما يقاس إلى سابقه الذي سرعان ما يَجُبُّه لاحقُه. أما الكمال المطلق فلن يبلغه أبدا، وإلا لو كان تقدمه وتحضره دليلا على نضجه واكتماله لكف عن الحروب وسفك الدماء منذ زمان، بل إن اختراعه لسلاح فتاك يجره دوما إلى صنع ما هو أشد بأسا وفتكا…!! وقس على ذلك سائر مبتكراته ومخترعاته التي يدل لاحقها على نقص السابق منها…
إن عقل الإنسان مثل تلك الثمرة التي تنمو وتكبر ولكنها لن تنضج أبدا، لأن مصالح كل العباد متوقفة على نقصهم وضعفهم وحاجتهم إلى غيرهم في كل زمان ومكان.
ولو بلغ الإنسان الكمال لتعطل العلم والعمل منذ زمان، وما عادت هناك حاجة ماسة إلى مدرسة أو معلم، أو أقلام أو كتب أو أجهزة أو برامج أو حواسب….
ولا مجال الآن للاندهاش أمام منجزات الإنسان الجبارة والهائلة في عالم التقنية والاتصال، وفي كل ما اخترعه حتى اليوم أو ما يمكن أن يبتكره في الغد القريب أو البعيد من أجهزة وآلات يستعيض بها كل مرة عن حالة من حالات ضعفه أو نقصه أو جهله؛ فكل منجز تقني بشري على هذه الأرض وفي محيط فلكها الذي اهتدى إليه الآن ما هو في الحقيقة إلا امتداد لعقله الذي لازال يتعلم من جهله، ولذاته الضعيفة والناقصة التي يسعى دائما جاهدا ليخلق لها وسائط، ويجعل لها امتدادات تخترق حدود الزمان والمكان؛ أو ليست وسائل الاستشعار الآلي وأجهزة الاتصال السمعي والبصري الفضائي الرقمي المتطور إلا امتدادات لعقله وسمعه وبصره، فغدا (أعقل) وأسمع وأبصر مما كان، وهل الرافعات الضخمة إلا امتداد لذراعيه، فغدا أقوى مما كان، وهل السيارات والبواخر والطائرات النفاثة والصواريخ والأقمار الاصطناعية السابحة في الفضاءات البعيدة إلا امتداد لقدميه، حتى غدا أسرع مما كان…؟!!
ومع الأسف الشديد، فهناك ميل لدى حكوماتنا وهيئاتنا الثقافية والعلمية والدينية إلى تهويل أمر العلم والابتكار على شعوبها، بسبب احتكارها للمعرفة والثقافة ووسائطها المختلفة والحساسة؛ من صحافة وإعلام ومؤسسات البحث العلمي، وتقنينها بما يوافق طموحاتها وأطماعها ومصالحها التي كثيرا ما تتعارض مع مصالح الشعوب العربية ورغباتها، وممارسة أشكال الإقصاء البيروقراطي لصالح حفنة من المتنفذين والمنتفعين والوصوليين الذين يدورون في فلكها كالطحالب السامة التي تعيق وتشل حركة المثقفين الأحرار الشرفاء من هذه الأمة الذين ينفرون بطبعم المتأصل فيهم من طقوس الولاءات والانحناءات، مما جعل كثيرا منهم يفرون إلى عالم التدوين والكتابة الافتراضية على مواقع الشبكة العنكبوتية.
إن جهاز الحاسوب الذي أكتب بواسطته الآن هذا الإدراج مثلا، هو بالضرورة امتداد لعقلي وحواسي التي أودعها الله في جسمي الضعيف قبل أن أعي حقيقة ذاتي وكياني، وعندما أرسل هذا الإدراج على الشبكة العنكبوتية يصبح لدى قارئه بمثابة البداية لما انتهيت إليه عند الفراغ منه، وخلاصة المخاض الذي مررت به في تلك الأوقات العسيرة التي تقع عند حدود المسافة الزمنية الفاصلة بين تسويده وتبييضه.
فهذا الإدراج صلة وصل بيني وبينك أيها القارئ الكريم، على رغم ما قد يكون بيننا من تباعد في المكان، وتباين في الطباع والأمزجة، واختلاف في الأهداف المتوخاة والأقنعة المستعارة، غير أنه يمثل لي الآن حاجة ورغبة؛
أما الحاجة ففي بحثي عن وضوح أفكاري من خلال اللغة التي أكتب بها هذا الإدراج، وهذا في حد ذاته جوهر هدفي الذي يمكنني من مقاومة حالة الغموض التي تكتنفني قبل كل كتابة، فالكتابة حرب مستمرة على حالة الغموض التي تعتري كياننا الداخلي. وكل الكتابات المنجزة إلى الآن هي انتصارات على حالات الغموض التي اعترت مَن كان قبلنا. ودائرة الوضوح لدينا تزداد بمقدار اطلاعنا على تجارب غيرنا من الأحياء والأموات، والاستنارة بأفكارهم التي تعبوا في إخراجها من حيز العدم إلى حيز الوجود.
أما رغبتي فتتمثل في نقل هذا الوضوح إليك على النحو الذي انتهيت إليه الآن، كما كان يفعل أسلافنا من خلال تراثهم الذي أوصلوه إلينا بخطوط أناملهم الرشيقة، وقد يكون تفاعلك أو تعليقك على هذا الإدراج وسيلة للمقايسة التي تريني حقيقة فهمي في مرآة عقلك، ودرجة وضوحي بالقياس إلى نبراس فهمك، كما كان يفعل أسلافنا من خلال طررهم وحواشيهم التي ذيلوا بها كتب السابقين، فلا فرق بيننا وبينهم إلا في نوع الحيلة والوسيلة، ولا فرق بين وجه ورقة مخطوط نالت منه الأرضة والرطوبة أو سطح شاشة حاسب مضيء نقي أملس.
وعلى ضوء هذا المبدأ نستطيع أن نفهم حاجة الإنسان الفرد إلى غيره في كل الأوضاع والأحوال، وافتقار الشعوب إلى بعضها في السراء والضراء. وعلى هذا المبدأ أيضا تنشأ جميع العلاقات الفردية والجماعية والإنسانية، وتتحدد معظم الأهداف والغايات، وتُقضى كل المآرب والحاجات…!!
لقد جعل الإنسان بين رغباته وحاجاته ورغبات الآخرين وحاجاتهم شروطا وقوانين ووسائط شتى ما هي، في الواقع، إلا مجموعة أسباب وذرائع وحيل يقدمها كل واحد منا بين يديه، لتلبية رغبة أو قضاء حاجة، وعلى قدر تلك الحيل والذرائع وكثرتها وانتظامها ونجاعتها وفائدتها لعموم البشرية تتحدد إنسانيته، ويقاس مدى نجاحه أو فشله، ويحدد موقعه بين إنسانيته وحيوانيته، عند طرفي متناقضات شتى تتراوح بين سرعة أو إبطاء، وبين قوة أو ضعف، وبين سمو أو سخف، وبين عزة أو مهانة…. إلى آخر الثنائيات المتضادة التي تحكم واقع الإنسان في هذا الكون المحدود بجاذبيته وانجذابه، بمائه وناره، وبهوائه وترابه، ويبسه ورطوبته، وبعفونته وطراوته، وبقسوته ولينه، وبعدله وظلمه، وبضعفه وجبروته…
وما دمنا قد أثرنا في الإدراج السابق قضية اللغة العربية، فإن اللغة بشكل عام أهم تلك الحيل والوسائط الناجعة التي يقدمها الإنسان العربي المدون اليوم بين يديه سفيرا لدى قرائه الافتراضيين من مختلف الدول العربية، لمد حالة الوضوح حول ذواتنا المنعزلة، و قضايانا الكثيرة الملتبسة.
وأن يتوصل كل فرد عربي إلى توضيح حقيقة نفسه وحقيقة محيطه العربي الخاص والعام بلغة عربية تحترم شروط الصحة والسلامة اللغوية، وبأسلوب رشيق قريب إلى الأفهام حتى يظنه القارئ أسلوبا عاديا، وإذا رام تقليده تبلد وحار وأصبح لديه مستعصيا أمر عظيم الأهمية، لما نراه اليوم من اختلال وتباين واضحين في أساليب كثير من المدونين يفضح بشكل سافر عُوارهم ونقصهم، وقصر باعهم في شأن اللغة العربية؛ فهما وأسلوبا وأداء وإملاء.
وإذا اتحدت أساليب المدونين العرب اليوم على نهج لغوي ثابت مفهوم ومقبول، ومتساو إلى حد معين في تحقيق شروط الصحة اللغوية، كما كان الأمر بالنسبة لأسلافنا من المحيط إلى الخليج رغم ما ابتلوا به أيضا من آفات وحروب ومضايقات وأزمات، يمكن أن تبدأ حياة جديدة لثقافة التدوين العربية تليق بحقيقة اللغة العربية الصافية النقية التي غابت عن كثير من المدونات العربية.
ورغم ما تتميز به المدونات العربية من حرية وذاتية وموضوعية وجرأة وصراحة، وابتعاد عن طقوس الولاءات السياسية والسلطوية التي طالما احتكرت عقول الناس وعواطفهم، وأرهبتهم وأرعبتهم ببلاغة الكتاب المأجورين، غير أنها تفتقر اليوم إلى القواعد اللغوية السليمة التي يحرص عليها أعداؤنا في لغتهم أشد الحرص.
وقلما أقرأ مدونة عربية دون أن أسجل عليها جملة لا بأس بها من الأخطاء اللغوية والتعبيرية التي كثيرا ما تسبب بعض الامتعاض لدي، رغم أهمية موضوعاتها، ورغم ما يبديه أصحابها من عواطف وصراحة، وسداد رأي، لكن صواب الفكرة يبقى من صواب العبارة…
إن حيل اللغة العربية ووجوه التصرف في ألفاظها ومعانيها وبلاغتها لتمثل بالنسبة للقارئ والكاتب العربيين متسعا رحبا لا يمكن أن يضيق على كليهما في أي وقت إذا أحسنا الاطلاع، ولكل واحد منهما كامل الحظ للولوج بالتعبير اللغوي العربي والمناورة به حتى عند أضيق المسالك والمنعرجات. لكن، لمن أدام النظر وسلك كل دروب المعاني القريبة والبعيدة، ومرن نفسه على قراءة النصوص العالية والمتوسطة والعادية، ليكون لديه رصيد المعرفة بطرق الأداء كبيرا ومتنوعا ينفق منه عند الحاجة كيف يشاء..
————–
هامش:
(1) راجع إدراجنا السابق: ( الإنسان ذلك الحيوان المقنع).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق