الاثنين، 11 فبراير 2008

رسالة ابن أبي الخصال في الشوق إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم 6


كتب يوم الأربعاء,آذار 08, 2006

الجزء الثاني: الرسائل والمكاتبات الخاصة في بلاد المغرب والأندلس على عهد الموحدين:
- رسائل الشوق إلى زيارة الحضرة النبوية الشريفة.

مقدمة:
تُعرف ميزة الكاتب الرسمي بقدرته التعبيرية البلاغية الفائقة على معالجة كافة الموضوعات الديوانية، وإيجاد مبرراتها الضرورية، بما يوافق حاجة المكتوب عنه أو إليه، في ظل آداب ومراسيم وطقوس خاصة بكل دولة على حدة.

ولم تكن مهمة ذلك الكاتب الموظف داخل ديوان الإنشاء تنحصر فقط في التعبير الفعال عن سياسة الدولة ومذهبها ونظمها وحاجاتها المختلفة في السلم والحرب، بل وفي تجميل أسلوب الكتابة وتطويره أيضا، كما مر معنا، من خلال بعض الرسائل الرسمية الموحدية التي أدرجناها سابقا.

وفي هذا الجزء الثاني سنعرض لبعض الرسائل الموحدية التي كتبها أصحابها لأغراض ذاتية خاصة بعيدا عن طقوس الدواوين الرسمية وصرامتها وتعقيداتها وكل إكراهاتها المختلفة التي ربما أدى الكاتب ثمنها غاليا، في بعض الأحيان سجنا أو عقوبة أو مصادرة أو حتى قتلا، إذا أخل بأحد شروط الخدمة الديوانية، كما أوضح ذلك ابن الأبار القضاعي الكاتب الأندلسي المشهور على عهد الدولة الموحدية والحفصية في رسالته المشهورة ( إعتاب الكتاب ) التي ألفها برسم أحد السلاطين الحفصيين الذين استقلوا بحكم المغرب الأوسط مباشرة عقب سقوط دولة الموحدين.

فلقد بقي فن الكتابة خارج دواوين الإنشاء فنا حيا، متحررا من كل القيود، شديد الاتصال بحياة الكتاب الخاصة مع خالقهم سبحانه وتعالى، ومع بعضهم البعض، ومع بقية الناس العاديين الذين تتقلب به أمواج الحياة صعودا ونزولا.

وأول ما نبدأ الحديث عنه في هذا الجزء الذي خصصناه لفن الرسائل أو المكاتبات الخاصة غرض جديد دخل مجال فن المكاتبات لدى المغاربة والأندلسيين، وهو غرض الشوق إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان أهل المغرب والأندلس من الكتاب يؤلفون رسائل بديعة في هذا الغرض، ويرسلونها مع وفود الحج أو المرتحلين إلى المشرق، ويطلبون من حاملي تلك الرسائل قراءتها على الروضة النبوية الشريفة توسلا و حبا وشوقا واعتذارا.

ومما قاله المقري في كتابه ( أزهار الرياض ) (1) عن هذا النوع من الرسائل التي تميز بها أهل المغرب والأندلس عن أهل المشرق، نظرا لبعد بلادهم عن أرض الحجاز، ولأعذار مزمنة بسبب العجز والمرض والفقر ولكثير من عوارض الحياة المختلفة كل حسب ظروفه وانشغالاته، أو لصعوبات رحلة الحج والعمرة على كثير من المغاربة والأندلسيين في ذلك الزمن بسبب ما يمكن أن يتخللها من محن وأهوال وكوارث، قال:

( هذا مقام طالما طمحت إليه هِمم الرجال، وتسابقت جِياد أفكارهم في مضماره بالروية والارتجال. وسارت أرواحهم مع الرفاق ـ وإن أقامت الأشباح ـ، وطارت قلوبهم بالأشواق، ولم لا وهو سوق تعظم فيه الأرباح !.) ج4/ص20 .

وكان من أول الكتاب الذين برزوا في هذا المضمار ذو الوزارتين ابن أبي الخصال (2)، توفي سنة 543 هجرية، وكان له شأن كبير في فن الكتابة والإنشاء ببلاد الأندلس قبيل سطوع نجم الموحدين.

وهذا نص رسالته التي كتب بها إلى المقام النبوي الشريف؛ وقد ضمنها سلامه وشوقه واعتذاره، وثناءه على سيرته الشريفة وسيرة أهل بيت الطاهرين، وصحابته المجاهدين المخلصين، ببيان يخلب الألباب، وعاطفة ملتهبة جياشة، واقتباسات من آي الذكر الحكيم، وإشارات مقتضبة إلى أخباره وأحاديثه صلى الله عليه وسلم:

بسم الله الرحمان الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وآله.
إلى الرؤوفِ الرحيم،الرسولِ الكريم، ذي الخُلُقِ العظيم، والحسَبِ الصَّميم، والصَّفح الجميلِ، والمَن المُرْبِي على التأميل، صريحِ الصريح، ورَقُوءِ دمِ الذبيح ( فداء)، المخصوص بالمقام المحمود، والحوض المورود، خطيبِ الأنبياء وإمامهم في اليوم المشهود، المكين، الأمين، الذي ليس على الغيب بضنين، النازلِ عن خير الظهور إلى خير البطون، والمُترددِ من الأب الأقصى إلى الأب الأدنى بين كل مصونة ومصون، الذي تسلَّمه الآتي عن الماضي أمانةً حَمَلها من كل سلف خِيارُه، ونورا عُرضت في جباه السؤدد سِيماهُ وآثارُه، إلى أن أذِن الله سبحانه، فظهرت أسراره الكامنة، وأدته إليه ـ صلوات الله عليه ـ الطاهرة آمنة( والدة الرسول الكريم عليه السلام)، الذي جُعلت له الأرض مسجدا وطهورا، وأُحلت له الغنائمُ وكانت حِجرا مَحْجُورا، ونصر بالرعب شهورا، وأوتيَ جوامعَ الكلم فانتظمت لفظته سطورا، وبُعث إلى الأحمر والأسود فضلا كان له مذخورا، ونُسخت بملته الملل إما مؤمنا وإما كفورا، وأنزل عليه القرآن هدى ونورا، فأحيا نفوسا وشفى صدورا، الذي وجبت نبوءته وسِتر الغيب عيه منسدل، وآدم ـ صلوات الله عليه ـ في طينته منجدل لَبِنَة التمام، التي انعقد بها التأسيسُ، ويتيمةَ النِّظام، التي ادُّخر لها الوضع النفيس، إمامُ وفد الرحمان، وفرط وراد الأمان الذي نكلت عن بسالته الضراء، وسلَّمت له في الخَفر العذراءُ، واعترفت لواقح الرياح ليمينه، واغْترفت لوائحُ الصباح من نور جبينه، الآخذ بالحَجُزات، الواردُ بالمعجزات، الذي سلَّم عليه الحجرُ، والتَمََّ إليه الشجر، وانشق لبرهانه القمر، وحن إلى حضرته الجذع المنقعر، وأنبأه بسورته السم المستعر، ونبع من بين أنامله الماء، وأجابت بدعوته ثم انجابت السماء.

أبو القاسم خِيرة الخير، وسيِّد البشر، المصطفى من أكرم العِتَر، جاشم المَجَاشم، وذؤابة بني هاشم، هامة العرب، ومنتهى فخر الأبعد والأقرب، الحاشر العاقب، ذو المجد الثاقب، وزهر المآثر والمناقب، الذي فاز المحسنون بطاعته، واستُنقذ المذنبون بشفاعته، صلى الله عليه وسلم حسابَ ما لديه، وكفاء ما يُدني منه ويقرب إليه.

من عتيقه، المعلن بتصديقه، الداعي في قربه، المُستشفي بريح تُربه، المُستشفع به إلى ربه، المُؤمن بما آمن به من رسله وكتبه. فلان .

كتبته ياواضعَ الإصر والأغلال، ورافع رايات الهدى على الضلال، ومبدلنا بالظل من الحَرور، ومخرجَنا من الظلمات إلى النور، وُمْروينا من الرحيق المختوم، والحوض الذي آنِيته بعدد النجوم، ومُحظينا بالنظر إلى الحي القيوم، عن دم يسفح، ونَفَس يلفح، وصدر بأشواقه ملآن يطفح، وعَرف عليك من الصلاة ينفح، وأسف إليك يتلهب، وزفرة بأحناءِ الضلوع تجئ وتذهب، وحَشاشة( بقية الروح) بعوائق البعد عنك تَنهب.

وكيف لا أقضي (أموت) حزنا، ولا أرسل دموع الوجد والتلهف مُزنا، أم كيف ألذ الحياة، وأؤمل نجاة، ولم أعبر إلى زيارتك لجة ولا مَوماة(صحراء)، ولا أخطرت في قصدك نفسا أنت منقذها ومنجيها، ولا مَثُلْت بمعاهدك المُشَهرة، ومشاهدك المُطهرة أحييها، ولا نزلت عن الكُور كرامة للبقعة المقدسة التي ثوبت فيها.

فواأسفا، ألا أخِب إلى ثراك مُقبلا، ولا أكِب على مثواك مُستقبلا، وألا أصافح من تلك العرصات مدارس الآيات، ومهبط الوحي والمناجات، حيث قضى فرض الصوم والصلوات، وحيث انتشر التنزيل، وسفَر بالوحي جبريل، وبرزت خبيئة الدهر، وأوثرت بليلة خير من ألف شهر، أسفا لا يمحو رسمه، ولا يعفو ندبه ووسمه، إلا الوقوف بحرم الله وحرمك، والتوسل هناك إلى كرمه بكرمك.

اللهم كما جعلتني من أمته، واستعملتني بسنته، وشوقتني إلى آثاره، وشغلت قلبي بتذكره وتذكاره، وأريتني تلك المعالم المُنيفة خيالا، وخططت منها في الضمير مِثالا، وأريتنيها ملء السمع والفؤاد جمالا، فاشف بمرآها بصرا ضريرا، وبسناها يرتد بصيرا. واجعل لي فيها مُعرسا ومَقيلا، وضع عني من شوقها إصرا ثقيلا.

اللهم أعدني بالقرب على بعده، واجعلني من المقتفين لهداه من بعده، واغمرني بين قبره ومنبره، ومبدأه ومحضره، ومصلاه ومنحره. وأنخ هذه الشيبة بباب بني شيبة، واغسلها هناك من ذنوبها وخطاياها، وعج إلى خاتم أنبيائك صدور مطاياها، وهب لي عزمة من أطاع، وبسطة من استطاع. وادفع عني الضرر والضرورة، ولا تُمتني حِلس (ملازم) البيت صرورة (الذي لم يحج مع الاستطاعة).

لو أوتيتُ يارسول الله سؤلي، لسبقت إليك كتابي ورسولي، لكنْ قل الوفر، واستقل السفر، وغادروني حرضا(قريبا من الموت نتيجة الحزن)، ولسهام الوجد والأسى غرضا. أتبعتُهم نفَسا لا يؤوب، وقلبا يستخفه القلق والوثوب، فأتشبث بهم تشبث الأسير بالطليق، وألحظُهم لحظ السقيم للمفيق.

فلم أملك يارسول الله إلا رقعةً تشكو بث التبريح، وتحية خفيفة المحمل طيبة الريح، تتأرج يارسول الله بأرجائك، وتتضرج إلى قبولك ورجائك، فأتوسل بك يارسول الله إلى مصطفيك بالرسالة والوسيلة، ومُختصك بالدرجة الرفيعة والفضيلة، ومُؤتمنك على إقامة حقه، ومُبْتَعِثك بالنور والهدى إلى جميع خلقه، ليُسعدني بجوارك، ويُكرمني بحلول دار هجرتك وأنصارك، وأفْرَغَ بعد حقوقه لحق من حقوقك، وألمََّ بصديقك(أبي بكر) وفاروقك(عمر بن الخطاب)، وأعرج على الصهرين، أبي عمرو ذي النورين، وأبي السبطين: الحسن والحسين، وأندب المقتول(الحسين الشهيد)، وأعزي البتول(فاطمة بنت الرسول الكريم)، وأقف بحواريك المودود(الزبير بن العوام)، وبأسد الأسود(حمزة بن عبد المطلب)، وبابن عبد الله ذي الجود(طلحة بن عبيد الله القرشي، طلحة الخير لقبه الرسول الكريم بذلك)، وبالأمين حق الأمين(أبو عبيدة الجراح)، وبقريع دهره في التقى والدين( لعله سعد بن أبي وقاص)، وبسعيد ذي الفضل المبين( سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي)، وأقضي حق الأمهات، والأزواج الطاهرات، وسائر أهل الكرامات، وأتقرى منازل السعداء ، ومشهد سيد الشهداء(حمزة)، وأدعو ربك في جبل أحببته وأحبك(جبل أحد)، وأحط بوارث الرأي والراية، وصاحب السُّقيا والسقاية (العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم)، وحائز العقبى والغاية، وأعتمد عصمة الهلاك وأبا أبي الأملاك( عبد الله بن عباس ترجمان القرآن)، حبر العلم والتأويل، وفاتح أغلاق التنزيل، وبحر الندى الجزيل.

طالعتك يارسول الله بِنيتي، وأنزلت بك أُمْنيتي، وغيرُ عزيز على من شفعك يوم القيامة، وأقطعك دار المُقامة، وأعطاك لواء الحمد والكرامة، أن يجمع لي بك بين الشفاعتين، ويوتيني في الدنيا بلقياك، وفي الآخرة بسُقياك، الحُسْنيين.

اللهم بلغ عني الأمين، والرسول القوي المكين، ما أظهره من محبته وأبطنه، وأسره وأعلنه، اللهم اشهد بصلاتي عليه وسلامي، ومحبتي فيه وإلمامي.

وصل اللهم عليه وعلى أصحابه أعلام الإسلام، ومصابيح الظلام، وعلى أهل قُرباه، ومن نصره وآواه، وعلى أزواجه الصالحات العابدات السائحات صلاةً تُباري تفاوح ثنائهم، وتُغادي وتُراوح فِناءهم، يتضوع شذاها بقبورهم، ويسطع نَشْرها إلى يوم نشورهم، مشفوعا عبقها بالدوام والتمام إلى دار السلام.

ثم سلام الله عدد خلقه، وِرضى نفسه على نبي رحمته، المغفوِر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، ورحمة الله وبركاته، وأنهاره وجناته، وروحه وريحانه، ومغفرته ورضوانه، وسلم تسليما كثيرا.
———–
هامش:
(1) وعنوان الكتاب الكامل: ( أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض )، ألفه شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني ، الجزء الرابع، تحقيق سعيد أحمد أعراب ومحمد بن تاويت، وطبع تحت إشراف اللجنة المشتركة للتراث الإسلامي بين حكومة المملكة المغربية ودولة اإمارات العربية المتحدة.
(2) وهو الكاتب أبو عبد الله محمد بن مسعود بن أبي الخصال. ترجمته موجودة في كثير من كتب التراجم والأعلام.

ليست هناك تعليقات: